Menu

إعلان بكين بين الراهنيّة والفاعليّة

محمد أبو شريفة

جريدة الـأخبار اللبنانية

بعد توقيع الفصائل الفلسطينية على إعلان بكين، صدرت آراء كثيرة مندّدة ومستنكرة ومرحّبة، لكنها بمجملها على ما يبدو كانت متخوّفة من هذا الإعلان، ولا سيما أن الفصائل الـ 14، كانت قد وقّعت في السابق على المضامين ذاتها في هذا الإعلان، والتي ذهبت جميعها أدراج الرياح، ولم تجد لنفسها موطئ قدم في السياسة الفلسطينية، وذلك منذ «إعلان مكة» في عام 2007.والرأي الغالب أنّ هذا الإعلان مجرّد ورقة تضاف إلى الأوراق السابقة، إلا أن اللافت فيه أنه يتعلّق بحاجة القوى الفلسطينية مجتمعة إلى تفعيل نصّ سياسي جامع، نظراً إلى الظروف التاريخية الخطيرة التي تواجهها القضية الفلسطينية اليوم، علماً أن الإعلان طالب بتطبيق القرارات الدولية (القرارات الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة) ومنها القرار الرقم 181 لعام 1947، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية، إذ إنه يحمل إجحافاً بالحقّ الفلسطيني، وإضفاء شرعية للمستوطنين اليهود الذين ارتكبوا المجازر بحقّ المدنيين الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين. وقد عدّه البعض تقديم «تنازل بلا مقابل»، فيما بعض آخر رأى أن لإعلان بكين خصوصية تختلف عمّا سبقه من جولات، لأنه جاء في مرحلة غير مسبوقة، تحتاج إلى الوقوف بمسؤولية أمام المهام الوطنية، وما تستوجبه من تحدّيات، فهو يؤكد على أهمية الوحدة في مواجهة العدوان الصهيوني وحرب الإبادة في غزة، وخطر التهجير والاقتلاع، وتأكيد الدعم للمقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، في أماكن وجوده كافة، في مواجهة مخططات التصفية.
ومنذ دعوة وزارة الخارجية الصينية الفصائل إلى الاجتماع في بكين، كان واضحاً أن الحضور الصيني، في لمّ الشمل الفلسطيني، له غايات وأهداف أكبر من تحقيق المصالحة بحدّ ذاتها. فالاهتمام الصيني بملفّ القضية الفلسطينية يتأتّى من منظور كلّي للمنطقة، وعلى هذا، فإن السياسة الخارجية للصين، التي لا تزال حتى هذا الوقت داعمة للقضية الفلسطينية، تدرك حجم التناقضات الموجودة في الساحة السياسية الفلسطينية. ومع هذا، فإن مسعاها اليوم مسعى جدّي، وربما قابل للتحقق، وخاصة أن الصين قامت بأدوار سابقة، أحدثت فيها انفراجات كبيرة في المنطقة، كالاتفاق السعودي الإيراني، وما تلاه من انفراجات لصراعات إقليمية متعددة.
من المهم النظر إلى واقع البنية الفعلية للنظام السياسي الفلسطيني، لأن حالة التشظّي الكبيرة التي أصابت هذه البنية دفعت بمختلف القوى، وخاصة بعد حرب الإبادة البشرية على قطاع غزة، إلى إعادة النظر في العلاقات الداخلية بين تلك الفصائل.
فكل من يرى اليوم ما يحاك للقضية الفلسطينية، ولقوى الشعب الفلسطيني، من قبل أميركا وإسرائيل، يدرك أن رأس كل تلك القوى بات مطلوباً اليوم، أكثر من أي وقت مضى. والحديث عن اليوم التالي في غزة هو نفسه الحديث عن اليوم التالي في الضفة الفلسطينية، وبالتالي فإن أقطاب الصراع الداخلي المتمثّل بين حركتَي «فتح» و«حماس»، يتوجّب عليهما أن يدركا جيداً أن لمّ الشمل الداخلي والمصالحة هما طريق النجاة الوحيد للفصائل السياسية الوطنية الفلسطينية كافة.
وعليه، فإن رفض الشارع الفلسطيني وانتقاده وتشكيكه بإعلان بكين لم يأتِ من فراغ، فهو نابع من حالة الإحباط والخذلان التي تعرّض لها لنحو عقدَين من تاريخ الجولات، التي لم تقدّم شيئاً يذكر على صعيد التوافق والمصالحة. وبغضّ الطرف عن هذه الحالة، فإنّ تلبية الدعوة الصينية من قبل جميع القوى الفلسطينية يؤمل أنها تأتي في إطار التعبير الفعلي عن مدى الخطر الذي يداهم مجريات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وخاصة في ظل بروز بعض الدعوات العربية (الإمارات)، التي أعلنت صراحة أنها تسعى إلى بناء شرعيات فلسطينية سمّتها «متجدّدة»، وهذه الدعوة الإماراتية هي الترجمة الفعلية للورقة الأميركية الإسرائيلية. ونتساءل هنا، هل للإمارات قدرة على تفعيل هذه الدعوة أم لا؟ لأنّ مجرّد إعلانها عن هذا التصور هو حالة تجرؤ على الواقع الفلسطيني، والذي لم يحدث منذ عقود.
من هنا، فإن قرار الفصائل مجتمعة الانخراط في بنى منظمة التحرير الفلسطينية يؤكد على أن الشعب الفلسطيني يريد الاحتماء بمظلّته الشرعية، رغم وجود تباينات في مفاصل مختلفة، إلا أن تلك التباينات لا تلغي ضرورة وجود حاجة جماعية إلى بناء وحدة وطنية فلسطينية من جديد. تبدأ بالدعوة العاجلة إلى وقف العدوان وحرب الإبادة، ودعم المقاومة وقيادتها والشعب في قطاع غزة، والدعوة أيضاً إلى اجتماع الأمناء العامين، للشروع في وضع آلية عملية لتنفيذ ما ورد في بنود «إعلان بكين» على قاعدة القطع مع «أوسلو» وملحقاتها كافة، وتحديداً أن أصحاب «أوسلو» اعترفوا مراراً وتكراراً بفشلها‏، وضرورة الإجماع على وحدة الموقف الفلسطيني في مواجهة ما ‏يستهدف القضية من مؤامرات وتصفيات، وتحديد الأسس ‏والمنطلقات التي على أساسها ستستمر الفصائل في مشاركتها ‏بجولات الحوار، لتتمركز حول سحب الاعتراف بالكيان ‏الصهيوني، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، لتجسّد الإطار ‏الوطني الجامع لمختلف قوى الشعب الفلسطيني، والتأكيد على ‏أن المرحلة التي يعيشها شعبنا لا تزال مرحلة تحرر وطني، وأن ‏الأولوية هي برنامج المقاومة، وليس مشروع التفاوض الذي أثبت ‏فشله، وإنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق الوحدة الوطنية على أساس ‏برنامج وطني، يستند إلى وثيقة الوفاق الوطني وكل أشكال ‏المقاومة.‏
من هنا، فإن موقف «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» الدائم والمتجدّد على الدوام، هو الموقف المحتوي والجامع، وحضورها هذا اللقاء في بكين، والتوقيع على إعلانه، ينبع أساساً من المواقف المبدئية لـ«الجبهة الشعبية» الثابتة عليها، منذ نشأتها حتى هذا اليوم، وتاريخها في السعي نحو الحفاظ على الوحدة الفلسطينية، شاهد على هذا الأمر.
أمّا السؤال عن مضمون «إعلان بكين» ومتى يصبح فاعلاً، وله مصداقية حقيقية، فيرتبط بعوامل عديدة، أهمها إدراك قيادة السلطة الفلسطينية أنّ عليها اتخاذ خطوات عملية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، كما أن إدراك «حماس» هو أيضاً حاضر اليوم، فرأسها مطلوب، وتالياً عليها تجسيد الوحدة عملياً، في الموقف وفي الميدان، بما يحقق وحدة الأداة والقيادة وإدارة المعركة على كل المستويات. ولم يعد الأمر يتعلّق بالضغط على تلك القوى لتقديم تنازلات، بقدر ما هو يقود إلى عملية اجتثاث إسرائيلية، وبمباركة أميركية، ومحاولة البحث عن البديل من قبل أنظمة التطبيع.
فيما الجميع يدرك أن الفلسطيني الذي قاتل منذ قرن من الزمن للدفاع عن حقوقه لا يمكن أن يفرّط بمنجزاته الوطنية، ما دام هناك قوى عالمية وإقليمية، لا تزال حتى هذه اللحظة تقف إلى جانبه، وتعلن أنّ من حق الشعب الفلسطيني مقاومة الاحتلال وإنهاءه وتقرير المصير والعودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس .