لم أكن أعرف عنها شيئاً سوى نتف من أحاديث متفرّقة ومقتضبة. لا صورة لها، ولا كاسيت، ولا شريط فيديو. كنت صغيراً، في السادسة ربّما، أو أكبر قليلاً، وكنت أبحث عن ألواح الشوكولا البلجيكية التي تخبأها أمي عنّا، أخي وأنا، كي لا نلتهمها دفعة واحدة. وجدت صورتها مخبّأة خلف الثياب في خزانة أمي. عندما سألتها لاحقاً عمّن تكون الصبيّة ذات المنديل الأبيض في خزانتها، قالت إنّها خالتي المتوفاة. صارت الصورة بالأبيض والأسود في رأسي متلازمة مع العام 1989 المكتوب على شاهدة قبر نزوره كلّما ذهبنا إلى «الجبّانة» في قرية أمّي البقاعية يونين.
في زمنٍ لاحق، في صباح اليوم التالي لانفجار الرويس، كنت في الصالون أستمع إلى فيروز، وحين بدأت أغنية «ورقه الأصفر شهر أيلول»، وقبل أن أقلبها (لأنّني لم أكن أحبها) بدأت أمّي تتحدّث عن الأغنية. قالت إنّها تذكّرها بخالتي.
«كنا نعطي دورة تدريبية لأساتذة إحدى المدارس في بعلبك في شهر آب من كل صيف. نقيم طوال هذا الشهر في مبنى مدرسة جُهّز لكي نستطيع الإقامة فيه. لنشرب الماء، كنّا مضطرين للسير مسافة قصيرة مرتين يومياً حتى نعبّئ القناني الفارغة من نبع قريب. ذات مرّة، كنت أسير مع أحد الأساتذة، ووصل بنا الحديث إلى فيروز. ما هي أغنيتك المفضلة لفيروز؟ قال لي. كان من الصعب عليّ أن أختار أغنية واحدة فقط. أما بالنسبة له، فكان ذاك سهلاً: ورقه الأصفر شهر أيلول.
في الشهر التالي، أي أيلول، مرضت أختي فجأة، وبعد فترة قصيرة توفيت. بقيت لفترةٍ طويلة أستعيد مغيب ذلك اليوم في الطريق إلى النبع، وصارت ورقه الأصفر مغنّاةً لشقيقتي، لها وحدها.
لم أعرف أبداً ما الذي دفع أمّي للكلام عن خالتي يومها، ربّما كمُن السبب في دفق الانفعال والعاطفة اللذين يليان يوم الانفجار. انتبهت يومها أنّ حضور فيروز في يومياتنا اعتيادي إلى درجة غير معقولة، وفي أحداثٍ أصغر من هذه الحادثة بكثير. صارت الزيارة الوحيدة إلى دمشق مرتبطة بـ «كيفك إنت؟» منبعثة من مكانٍ خفي عند الواحدة مساءً قرب الجامع الأموي، و «يارا» ذات الأجواء الأبوكاليبسية مرتبطة بصورة الفتاة التي أحبها صديقي في الجامعة، وهي جالسة على الطاولة تاركة رجليها في الهواء، و «زهرة المدائن» مرتبطة بالصباحات الشتائية في السيارة على طريق المدرسة، قبل سرقة المسجل منها والشريط.
لكن في المجمل بقي حضور فيروز بالنسبة لي محصوراً أكثر في مرحلة زياد، لا محبّة فيه، لكن لأنّه نقل والدته من يوتيوبيا منقرضة، ووهمية أساساً، إلى صلب الحياة المدينية اليومية التي نعيشها، لغة ولحناً، خاصةً في ألبوميّ «ولا كيف» و «إيه في أمل»، وفي بعض أغنيات «معرفتي فيك» و «مش كاين هيك تكون».
على الرغم من ذلك، أحببت بعض أغاني الزمن القديم، وبقيت أستمع إلى «ورقه الأصفر» خصوصاً بعدما عرفت لاحقاً قصة وفاة خالتي المفجعة.
في الأمسيات الحزينة التي أستمع فيها للأغنية، لا يفارقني وجه أمي ولا صورة خالتي المخبّأة في خزانة ثيابها. «رجع أيلول وأنت بعيد بغيمة حزينة قمرها وحيد، بصير يبكيني شتي أيلول ويفيقني عليك يا حبيبي، ليالي شتي أيلول شو بتشبه عينيك».