كثيرة هي الأسئلة وعلامات الاستفهام التي أثارتها وثيقة اللجنة الرباعية ( مصر – والسعودية – والإمارات – والأردن) والتي تهدف إلى تفعيل وتحريك الملف الفلسطيني...ومن العنوان فقد تحولت القضية الفلسطينية إلى ملف فلسطيني...وليس إلى قضية وطنية.
والمدقق في عناوين الخطة وبنودها التفصيلية سيكتشف أن كل الغايات من وراء هذه الخطة المبرمجة بجدول زمني تتكثف في "كيفية تحريك عملية التسوية وفق المبادرة العربية" أي أننا أمام خطة تبحث عن تسوية مع الاحتلال الاسرائيلي وصولاً إلى "إنهاء الصراع العربي – الاسرائيلي وإقامة علاقات طبيعية بين اسرائيل والدول العربية" ... هذا هو جوهر الوثيقة...أما التفاصيل الأخرى فهي آليات تنفيذية بغرض تأهيل البيئة السياسية والفتحاوية والاجتماعية للولوج في التسوية المزمع الوصول إليها...بيد أن التفاصيل وآليات عمل الخطة تحتاج إلى عقل سياسي ينتزع الأبعاد والخلفيات بعيدة المدى من وراء هذه الخطة.
ومن غير المستبعد أن يكون راء هذه الصياغه "اللئيمة" طرفاً فلسطينياً دفعها إلى ما يسمى باللجنة الرباعية...ولندخل إلى العالم والتفاصيل:
أولاً: إن هذه الوثيقة تحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية في طريقة وآلية التعامل مع الفلسطينيين وفصائلهم "رسمياً وشعبياً" بل هي نقلة نوعية في التفكير العربي تجاه الفلسطنينيين وقياداتهم.. وربما تحمل مخاطر سحب وحدانية التمثيل من م.ت.ف لتصبح الجامعة العربية وأنظمتها شريكاً في التمثيل...حيث تجيز الوثيقة ولأول مرة التدخل المباشر والفجّ في الشوؤون الداخلية الفلسطينية السياسية منها والتنظيمية والقيادية.
ثانياً: الوثيقة تشير بشكل واضح وجلي أنها تريد "توحيد حركة فتح وإعادة استنهاضها" ما هذه الغيرة...؟ أي أن اللجنة العربية المنبثقة عن الجامعة العربية لا زالت تراهن على حركة فتح أولاً وأخيراً في قيادة المرحلة القادمة...ولأجل ذلك تريد استنهاضها...!! والاستنهاض يستدعي وضع آليات تنفيذية كي تتعزز قوة فتح وحضورها وتوحيد صفوفها...ويتضمن ذلك إعادة المفصولين من فتح والسلطة كلٌ إلى مكانه السابق ومعالجة الملفات القضائية وعودة محمد دحلان لعضوية اللجنة المركزية في فتح...!!
إن هذا التدخل المباشر والتفصيلي هو من قبيل إعادة الوصاية... ويحمل أبعاداً سياسية وغير سياسية في طريقة التعاطي مع التنظيم الأول في الساحة الفلسطينية...
ولكن السؤال لا زال محيراً...من الذي قرر أن فتح منشقة على نفسها وتعيش حالة انشقاق...؟ حتى تتصدى اللجنة الرباعية لمعالجة الأمر...والثابت والذي لا خلاف عليه أن فتح تعيش خلافات كبيرة...وتباينات في المعالجات الداخلية كما أي فصيل وكما أي نظام عربي...فلماذا هذا التهويل...؟ أم أن المقصود من التهويل هو إجازة التدخل...ويلمع في الذهن سؤالاً آخر: لماذا لم تتدخل الجامعة العربية في الانشقاق الحقيقي لـ فتح "الانتفاضة" والعمل على رأب الصدع في حينها...؟
ثالثاً: من واقع النصوص في الوثيقة...فما زالت الجامعة العربية...ولجنتها الرباعية تراهن على فتح في قيادة العمل الوطني...وقيادة المرحلة القادمة...ولذلك يظهر هدف توحيد فتح واستنهاضها كأول هدف من الأهداف...قبل تحقيق المصالحة...وقبل تحريك عملية السلام...! في حين أن إعادة تفعيل مؤسسات م.ت.ف لم يأتي ضمن الأهداف...إنما جاء في سياق الآليات التنفيذية "عبر وضع الخطط والبرامج والتشاور مع كافة الفصائل" وهنا بيت القصيد...الأولوية لبيت فتح...وليس لمؤسسات م.ت.ف...والأهم أن فتح يجب أن تقود المرحلة...ولا زالت فتح هي الرهان الاستراتيجي لعبور التسوية التاريخية التي يصممها العرب.
ومن الغريب أن فتح منذ خمسون عاماً وهي تقود منظمة التحرير والشعب الفلسطيني دون أن يتحقق لا هدف التحرير ولا هدف الدولة...فهل المراهنة تكون على عبور التسوية وليس التحرير.
رابعاً: إن الإشارة إلى دحلان وضرورة عودته إلى اللجنة المركزية لـ فتح...ليس انقلاباً على الرئيسي عباس...وإنما ابتزازاً للرئيس وإشهاراً للسيف في وجهه إذا لم يكن على مستوى المراهنة...فالوثيقة في عنوانها تحت بند المسؤوليات والواجبات تراهن على عباس كبطل للمرحلة والنص واضح "إن العمل على توحيد الفلسطينيين فتحاوياً وفلسطينياً برئاسة أبو مازن سيمهد الطريق لإعادة طرح المبادرة العربية للسلام...إلخ" أي أن التعويل لا زال على أبو مازن لجر الساحة الفلسطينية إلى العملية التفاوضية الجديدة والمبادرة العربية...وفي حال عدم الاستجابة فإن بديله جاهز وعليه الرهان...!!
إن الهدف الثاني للوثيقة...هو تحقيق المصالحة بين فتح وحماس وبقية الفصائل...وهنا يتضح أن الأولوية الأولى هو استنهاض فتح...وأما الأولوية الثانية هي إنهاء الانقسام عبر التشاور والاجتماع الدائم في القاهرة وصولاً لتوحيد الضفة و غزة تحت سلطة واحدة وسلاح شرعي واحد...!! وبجدول زمني من يناير إلى مارس /2017 ... وبدون كبير عناء يتضح أن المغزى من ترتيب الأولويات يتعلق بتهيئة البيئة الداخلية الفلسطينية تحت سلطة واحدة وبدون سلاح غير شرعي "انتهى عصر المقاومة" وعليه فالأولويات كالتالي: ترتيب أوضاع من يقود (فتح) ثم ترتيب الوضع العام "إنهاء الانقسام" ثم إنهاء السلاح الغير شرعي والمقاومة...ثم إشراف عربي "لجنة عربية" للإشراف على تنفيذ المصالحة الشاملة...وإلزام كافة الأطراف بتنفيذ الاتفاق مع التلويح بالعقوبات.
خامساً: والمثير في الأمر ما ورد تحت بند المسؤوليات والواجبات...(في حال عدم توصل الفصائل الفلسطينية الى اتفاق ترضاه كل الأطراف يصبح من واجبنا دعوة الجامعة العربية للتدخل بهدف فرض اتفاق...إلخ)
هنا يتجلى التهديد والوعيد للفصائل بأن الجامعة العربية جاهزة للتدخل القسري وجاهزة لفرض أجندتها السياسية بمعزل عن الفصائل...ولغة الفرض تشي بالعقوبات السياسية والمالية والميدانية والحصار لأي فصيل...ويستمر التهديد في فقرة أخرى (وفي حال لم يقم الفلسطينيين بما عليهم واستمروا في الانقسام على أنفسهم ستضطر بعض الدول العربية لدراسة بدائلها الخاصة مع ملف الصراع العربي – الاسرائيلي...) وهنا يتجلى التهديد بلغة البدائل السياسية وكيفية التعاطي مع ملف الصراع...أي إمكانية فرض رؤية مخالفة تماماً لما يفكر فيه الفلسطينيين وربما مخالفة لرؤية الدولة الفلسطينية...والأمساك بخيار آخر تصممه الأنظمة العربية...وهنا أيضاً يدور الحديث عن "بعض الدول العربية" أي أن هناك دول عربية دون غيرها تفكر ببدائل خاصة والمعنى هنا سياسي...بيد أن المعنى الإجرائي والعقابي يتكثف في البند الآخر من الوثيقة تحت عنوان الاجراءات الضاغطة على الأطراف المعطلة...أياً كانت هذه الأطراف وفي كافة مراحل التنفيذ...أي أن الضغط سيبدأ من الآن...فهل وصلت الأمور إلى انتزاع التمثيل وفرض إنهاء الصراع العربي – الاسرائيلي...؟
سادساً: ثمة إهمال وتغييب لأهمية م.ت.ف في قيادة الشعب الفلسطيني...فهي لم تأتِ بالويثقة ضمن الأهداف...إنما جاءت تحت عنوان الآليات التنفيذية بالنص "وضع الخطط والبرامج اللازمة لإعادة تفعيل مؤسسات م.ت.ف وذلك بالتشاور مع كافة فصائلها ومكوناتها...وفي فقرة لاحقة تتحدث عن تجديد الشرعيات الفلسطينية من خلال إجراء انتخابات عامة حرة نزيهه تشريعية ورئاسية ومجلس وطني...قد يبدو أن هذا التهميش لـ م.ت.ف انعكاساً لدورها وعدم فعاليتها وعدم الرهان عليها بقدر ما يكون الرهان على فصائل بعينها "فتح وحماس" وهنا يتجلى ضرب المنظمة كجبهه وطنية فلسطينية وإعلاء من شأن فصائل مستأثره.
سابعاً: في كل نصوص وبنود الوثيقة "التاريخية" لم يرد لفظ المقاومة الفلسطينية...ولم يرد أي اصطلاح يعكس مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال...غير أن الوثيقة حصرت وكثفت النضال الفلسطيني (باللجوء إلى كافة المحافل والمؤسسات الدولية وعلى رأسها المحكمة الجنائية لملاحقة "اسرائيل" ومحاكمتها على جرائمها) ودعت إلى عدم الربط بين هذا التوجه وأي مفاوضات سياسية مع "اسرائيل"...!!
إن هذا التغييب لحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال هو إمعان في وصف القضية الفلسطينية بالملف الفلسطيني...وهو في ذات الوقت انقلاب على وثيقة القاهرة التي تتحدث عن حق الشعب الفلسطيني في المقاومة.
ثامناً: ضمن الجدول الزمني الموضوع لتنفيذ الوثيقة فإن الدعم العربي الدائم المالي والمعنوي يحظى بتفاصيل قلما كان العرب مهتمين بهذا القدر من التحديد...حيث يرد في الوثيقة عن الدعم للضفة والقطاع...ودعم آخر يتمثل في اعتماد برامج عملية لتوفير الدعم اللازم لمدينة القدس وما يحاك لها من تهويد...لقد بحّ الصوت المقدسي والفلسطيني وهو يصرخ بأن القدس تهوّد...وقدمت البرامج والخطط والآليات لمواجهة التهويد والمستوطنات المحيطة بها...وقدمت لكل الهيئات العربية...ولم تلقى بالاً حتى اليوم...فما الذي استجدّ اليوم حتى تنبري اللجنة الرباعية لنصرة القدس...؟ نرحب ولكن...ما وراء الأكمة ما وراءها.
ومن الملفت للنظر أن بنداً آخر يتحدث عن الدعم للاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان وسوريا...بعد عشرات السنين على حرب المخيمات في لبنان...وبعد خمس سنوات على الحرب في سوريا...وتعرض المخيمات للتدمير والترحيل...اليوم فقط استيقظ العرب على نكبة الفلسطينيين...؟ أم أن في الأمر رؤية أخرى تتعلق بإيجاد حيز من النفوذ المباشر داخل المخيمات لجهات عربية أو فلسطينية تحت زعامة المال السياسي لاسيما وقد وردت كلمة "الدعم المالي العربي المباشر" للشعب الفلسطيني...أي العمل على تجاوز م.ت.ف أو السلطة الفلسطينية أو الفصائل والتواصل مع أفراد وهيئات ومؤسسات مصنعة ومختلفة كي تقوم بإيجاد نفود في المخيمات مستغلة الضنك والتشرد والمعاناة لأهالي المخيمات...ومرة أخرى نرحب ولكن...
وتقتضي الموضوعية طرح السؤال التالي: من الذي وفر المناخ...وشجع اللجنة الرباعية بأن تتجرأ وتتقدم بهذه الوثيقة...وتسمح لنفسها بالتدخل المباشر في الشؤون الفلسطينية وتلوح بالعقوبات...!! لم يكن ممكناً أن يحدث هذا لولا حالة البؤس التي تعيشها القيادة الفلسطينية...وسوء إدارة الصراع مع الاحتلال...فاللجنة التنفيذية وهي القيادة الحقيقية التي يجب أن تقود النضال الوطني الفلسطيني...قد شاخ أعضاؤها...وهرمت عقولهم...وتوقفت ذاكرتهم...وبهتت أدوارهم...وتحولوا إلى موظفين لا حول لهم ولا قوة...والمجلس الوطني الفلسطيني مغيباً منذ أكثر من عشرين عاماً...ولم يعد به نبض للحياة...والمجلس التشريعي المنتخب...توقف عن العمل منذ عشرة سنوات بسبب الانقسامات التي أضرت بالقضية الفلسطينية أيما ضرر...وقيادة فتح حدّث ولا حرج من الخلافات والصراعات وتفشي الفساد في أوصالها...و حركة حماس لم يعد يسترعي اهتمامها إلا تلك الإمبراطورية الغزاوية التي تعطيها حق الوجود والحضور الإقليمي والدولي...بينما باقي الفصائل عاجزة عن فرض نفوذها بسبب غياب الحاضنة السياسية والمالية العربية أو الإقليمية...في حين أن اليمين الفلسطيني بشقيه يتمتع بالحواضن الإقليمية والعربية.
هل هذه الحالة الفلسطينية تبرر للجنة العربية أن تتدخل في الشؤون الفلسطينية بهذه الآليات والخلفيات...؟
ثمة تاريخ طويل يثبت أن الأنظمة العربية كانت دوماً عاملاً مخرباً في الساحة الفلسطينية على المستوى السياسي والاستقطابي.