Menu

رسام الكاريكاتور الفلسطيني السوري هاني عباس: كل ما ورثناه عن أجدادنا "حلم" يصعب التخلي عنه

هاني عباس

الهدف_سويسرا_وكالات:

منذ عقود، لم يحظ مهاجر عربي إلى سويسرا، ناهيك عن أن يكون طالب لجوء، بالحفاوة والترحاب، والمتابعة الإعلامية الواسعة، والتعاطف الشعبي القوي مثل الذي لقيه الرّسام الكاريكاتوري السوري الفلسطيني هاني عبّاس.

بعد عام ونصف من تاريخ وصوله إلى هذا البلد، وحصوله على حق اللجوء فيه، تحدّث الرسام السوري عن أسرار العلاقة التي نسجها مع هذا المجتمع، وعن التعاطف والمساعدة التي حظي بها، وعن أعماله الفنية في المستقبل.

في منزله بجنيف، أجرى حوارا، فكانت الأسئلة والإجابات:

- بعد أشهر من وصولك إلى سويسرا، كيف وجدت هذا البلد وأهله؟

سويسرا بلد ساحر ورائع. وبالإضافة إلى جماله الطبيعي، يُوجد تواصل وتعايش جيّد بين سكانه. كل إنسان يعلم جيّدا حدود حقوقه وواجباته. الشيء الثاني الملفت للنظر، استتباب النظام والأمن، فليس هناك عموما من يتجرّأ على مخالفة إشارة مرورية، ولو كان وزيرا أو موظّفا كبيرا بالدولة، وهذه التفاصيل هو ما نفتقده نحن في العالم العربي. الجميع هنا متساوون أمام القانون، ولا يخشون إلا القانون، لأن الدولة حازمة في تنفيذه.

-هل أصبح لديك الآن أصدقاء سويسريين؟

منذ حصلت على الإقامة في سويسرا، كان الهدف الأوّل هو العثور على عمل. من قبل اشتغلت مع قناة الجزيرة ومع صحيفة لبنانية، وتعاونت مع صحيفة "لا ليبرتي".

في الأثناء تعرّفت على الكثيرين بالوسط الإعلامي والثقافي، وعلى المستوى الشعبي عموما. ابني التحق بالمدرسة، وزوجتي تتعلّم اللغة الفرنسية. في الحقيقة كان لصحيفة "لا ليبرتي" الصادرة بفريبورغ دور كبير في التعريف بي في سويسرا. أذكر أنه بعد فترة قصيرة من وصولي إلى كانتون فريبورغ، زارني أحد صحافيي "لا ليبرتي" في إستفايي - لو- لاك (Estavayer-le-Lac)، وأجرى معي حوارا مطوّلا استمرّ أزيد من ساعتيْن، ثم أخذ مني رسوما. كنت أظنّ أنه حوار عادي للنشر في الصفحة الثقافية، لكن المفاجأة كانت كبيرة إذ غطى أحد رسوماتي الصفحة الأولى، وكان المانشيت العريض عن الرسام الفلسطيني السوري هاني عبّاس. لم أكن أتوقّع حدوث ذلك أبدا. مثلت هذه الحادثة دفعة قوية بالنسبة لي.

إقامتك في جنيف، هل سهّلت عليك فرص التواصل أيضا؟

نعم، جنيف معروف أنها مدينة دولية، فيها هامش أكبر للنشر وللتحرّك، وللإتصال بالعالم الخارجي. حتى الآن معظم وسائل الإعلام السويسرية أجرت معي حوارات وأنجزت ريبورتاجات بشأن أعمالي. فبالإضافة إلى صحيفة "لا ليبرتي"، كما ذكرت، أجريت حوارات مع "لوتون" الصادرة بلوزان، والعديد من الصحف السويسرية الناطقة بالألمانية مثل "تاغس أنتسايغر"، الصادرة بزيورخ، والصّحف الصادرة بكانتون التيتشينو الناطقة بالإيطالية، ومع مجلّة "إيبدو"، و"لوموند" الفرنسية،... كذلك أنجز التلفزيون السويسري الناطق بالفرنسية حصة تلفزيونية مطوّلة حولي، استغرق تصويرها داخل منزلي خمسة أيام كاملة، والبارحة كان لي حواران مع كل من "راديو فريبورغ"، وآخر، مع "راديو جنيف"، وغدا يحلّ ببيتي تلفزيون سويسرا الناطق بالألمانية لنفس الغرض.

-هذه التغطية الإعلامية الواسعة إلى أي حد تساعد في التعريف بالمشكلة السورية؟

بالإضافة إلى التواصل مع وسائل الإعلام التي تمنحني فرصة كشف المأساة التي يُعاني منها الشعب السوري، اخترت في الأسبوع الماضي حَكَمًا بمسابقة مدارس جنيف الدولية للتعليم من أجل السلام بمناسبة يوم السلام العالمي بالأمم المتحدة، وأُتيحت لي فرصة لإلقاء كلمة عرّجت فيها على الوضع المأساوي للشعبيْن السوري والفلسطيني وواقع اللاجئين في المخيمات، وذلك بحضور المفوّض السامي لحقوق الإنسان، ومدير الأمم المتحدة بجنيف، وصحافيين.

كذلك أنتهز هذه اللقاءات الإعلامية للفت الأنظار إلى محنة حرية التعبير في بلدان عربية كثيرة، على سبيل الذكر واقع المعتقلين من الرسامين والكتاب الصحفيين والمدوّنين في سوريا ومصر.

- هل لديك تواصل مع من يقاسمونك حرفة الرسم؟

في جنيف تعرّفت أيضا على باتريك شابّات Patrick Chappatte، ولئن كنت تعرّفت عليه من قبل من خلال رسومه، لكنني لم ألتقه إلا هنا. ولقد فوجئت بوجوده في جنيف، لأنني ظننت أنه مقيم بأمريكا. منذ وصولي إلى هنا جمعتني به علاقة صداقة قوية، وهناك شيئان إذا اجتمعا في الإنسان يكون قد قطع شوطا كبيرا نحو الكمال: الإنسانية والشجاعة، وهذان الخصلتان تجدهما لدى شابات، الذي يظل بالنسبة لي بمثابة الأخ الأكبر. كذلك تعرّفت في هذه الفترة على الرسام الفرنسي بلانتو Plantu الذي يعمل بصحيفة لوموند، وآخرين. الرسم الكاريكاتوري له تاريخ طويل في أوروبا، والرسّامون هنا لهم خبرة، ويستخدمون تقنيات متطورة، ومعرفتهم واسعة بموضوعاتهم، التي يحيطون بها إحاطة كاملة.

swissinfo.ch: تبدو سعيدا بوجودك في جنيف. ما سرّ هذا الارتياح؟

هاني عبّاس: جنيف مدينة أليفة بالنسبة لي. هي تشبه بيروت وبلاد الشام. وجنيف ايضا من المدن التي تحسّ منذ حلولك بها وكأنك تقيم فيها منذ زمن طويل. هي مدينة لها طابع شرقي ربما لوجود مجموعة عربية كبيرة بها، وعموما الأجنبي لا يشعر فيها بالغربة لأنها مدينة دولية، وبالإمكان مع مرور الوقت أن تقول هذه مدينتي. ثم أنا انسان اعتدت على العيش في مدن ليست لي.

أنت ممن اكتشف لذّة الرسم على حافة الموت. ألا تخشى فقدان هذه اللّذة، وأنت في هذه المدينة النابضة بالحياة والرفاهيّة؟

أنا في تواصل يومي مع أناس محاصرين في داخل سوريا، في مخيّم اليرموك، في درعا، وفي سراقب، وغيرها من المناطق السورية الثائرة. أستمدّ الإحساس منهم، وأمنحهم نوعا من الأمل لوجود أناس يفكّرون فيهم. قد يكون إحساسي هنا أشدّ، وأعيش باستمرار حالة من التوتّر، وذاكرتي مُفعمة بتفاصيل المأساتيْن السورية والفلسطينية. لقد خسرت أصدقاء وأناسا كثيرين عزيزين عليّ دفعوا أرواحهم فداء للوطن وللحرية، ومستحيل أن أتنازل عن قضيتهم، وأي تساهل في هذا الأمر هو بمثابة الخيانة للأهل وللشعب وللوطن.

الإحساس بهول ما يحصل في سوريا بالنسبة لي لا يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، لكن شكل التعبير عن ذلك قد يختلف. صحيح أنا في سويسرا، كل كياني يظل عالقا ببلاد الشام، وبالمخيّمات المنتشرة في بلدان الجوار، وبالناس الذين يقبعون في المعتقلات، أو الذين يموتون كل يوم بسبب البراميل المتفجّرة. أنا لا أدّعي أنني أقدّم لهم الكثير، ولكن الإبقاء على ضمائرنا حية ومتحفّزة، وعلى حب الوطن والإخلاص له، هو من أضعف الإيمان كما يقال.

تزامن وصولك إلى جنيف مع حصولك على أكبر جائزة عالمية في مجال الرسم الكاريكاتوري. أقحمك مرحلة العالمية. كيف سينعكس ذلك على أعمالك في المستقبل؟

الناس ينظرون إليك كما أنت تمثّل شعبك وثقافتك. لو جاء فنّان، عازف موسيقى، من الشرق الأوسط إلى أمريكا، وغنّى الجاز، فلن يستحسن أحد عمله، ولكن عندما يغنّي القدود الحلبية، فإن أنظار الجمهور تشرئبّ إليه. ما دمت متمسكا بثقافتك، وبقضيتك، وبصوت من تمثّلهم، تكون مؤهّلا أكثر لخوض تجربة العالمية. الناس يريدون أن يروا فيك الشيء الجديد المتميّز والمختلف الذي تساهم به. وكلّما تمسّكت بجذورك، كلّما وصل صوتك إلى أقصى مدى.

قبل مجيئي إلى جنيف بسنة، حصلت في نفس اليوم على جائزة يوم حرية الصحافة العالمية، وجائزة الشجاعة ب قطر بالدوحة في عام 2013.

كيف تصف علاقتك بالجمهور السويسري؟ وبأي لغة تتواصل معه؟

خلال المعارض التي نظّمتها بسويسرا والتي تجاوزت حتى الآن سبعة معارض، شاهدت زوّارا يقفون أمام لوحاتي يبكون، ويعرض عليّ آخرون تقديم أشكال مختلفة من المساعدة، وتجاوزت علاقتي بالكثيرين حدود التواصل الثقافي إلى التواصل الاجتماعي، وأصبح ينتابني شعور بأنني قريب منهم، وكأنني أعرفهم منذ سنوات. لقد وجدت أن أفضل لغّة للتواصل مع هذا الجمهور هي لغة الرسم، خاصة وأنني لا أحسن الخطابة ولا أتقن الكثير من اللغات العادية، فالرسم هي لغتي المفضَلة. إنها لغّة ناجحة جدا في مجال التواصل.

سويسرا بلد حباه الله بجمال طبيعي، تتعدّد ألوانه بين بياض الثلج، واخضرار السهول، وزرقة البحيرات. ألا تستهويك هذه الألوان لتغيّر مسار عملك الفنّي لرسم لوحات قد تدرّ عليك أرباحا طائلة؟

لا تحتاج سويسرا إلى شهادة إضافية مني في كونها من أجمل البلدان بالعالم. مناظرها أخّاذة وخلاّبة. يمكن أن تقول إنها جنّة على الأرض. لكن هل هذا كاف لكي ينسى أحدنا أهله وشعبه، ويتنازل عن رسالته في الحياة في أن ينقل صوت وآهات المعذّبين بالقدر الذي يمكن له؟. في سوريا المأساة لم تنته. والرسم بالنسبة لي عملية ذات بعديْن: تعبير عن إحساس داخلي من حزن وغضب، ووسيلة للتواصل ومحاولة التأثير، مرّة في شكل احتجاج وأخرى في شكل استعطاف، من أجل إحداث اختراق في جدار التعتيم، وحشد الدعم والتأييد لما أعتبره قضية عادلة.

لقد مررت في حياتي بظروف قاسية جدا شارفت فيها على الموت. ولذلك ما سأعيشه بعد خروجي من سوريا هي بالنسبة لي حياة إضافية، لابدّ أن أقدّم فيها ما لم أقدّمه في حياتي الأولى.

متى يستقرّ ترحال هاني عبّاس، ويندمج في واقعه الجديد، أم أن الفلسطيني لا يطمئنّ إلا لحلمه؟

هاني عبّاس: أعتقد أن سويسرا ستكون بلد ابني، أمّا أنا سأكتفي بأن أكون مقيما جيّدا في هذا البلد الجميل الذي قدّم لي الكثير، كمسئولين وكمواطنين عاديين، وحتى أكون سويسريا أحتاج إلى وقت أطول. أنا من الجيل الثالث للنكبة، كل ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا هو "حلم". وهذا الحلم من الصعب أن نتخلى عنه. أنا أحبّ بلدانا كثيرة، لكني لا أسعى لآخذ جنسية؛ بل أسعى لأثبت جنسيّتي. التحدّي بالنسبة لنا كفلسطينيين، هو أن أقول أنا الهندي الأحمر الذي دفنه العالم منذ عقود، أعود لكم من بعيد، لأننا شعب لنا تاريخ وحضارة، ونريد أن نعيش على أرضنا وليس موزّعين بالمخيمات. ما ذنبنا حتى نلقى هذا المصير؟

 

نقلا عن swissinfo.ch