انتهى المؤتمر السابع بأسرع مما كان متوقعًا من دون انفجارات، بالرغم من غضب العديد ممن حُرموا من عضويته على خلفية اعتبارهم "متجنّحين"، ومن المئات، وأكثر، ممن حرموا من العضوية دون وجه حق، وكذلك المئات من الغاضبين ممن لم يحالفهم الحظ في النجاح. فالمؤتمر عقد بهذا العدد وبهذه الطريقة للتحكم بنتائجه، إذ كان غالبية أعضائه من المعينين والموظفين لا من المنتخبين.
يمكن تلخيص نتائج المؤتمر بأنه كرس "فتح" باعتبارها حزب السلطة (حزب الموظفين)، في حين كان المفترض أن تبدأ منه مسيرة ابتعادها عن السلطة كأحد شروط ومتطلبات تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها؛ لكي تصبح سلطة وطنية خدمية في خدمة المصلحة الوطنية، وأداة من أدوات المنظمة بعد إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة السياسية. كما كان المؤتمر في الأساس مؤتمرًا لتمديد وتجديد شرعية الرئيس محمود عباس ، وضمان بقائه لخمس سنوات قادمة، وإبعاد محمد دحلان ومجموعته خارج "فتح"، على الأقل، حتى إشعار آخر.
إذا لخصنا نتائج المؤتمر بكلمة واحدة فهي (الاستمرارية). فقد بايع المؤتمر الرئيس بالتصفيق وليس بالتصويت، وفي الجلسة الأولى، خلافًا للأصول التي تقضي بإجراء الانتخابات بعد تقديم كشف الحساب وتقييم الفترة السابقة، وبعد تقديم خطة المرحلة القادمة، ما كرّسه قائدًا أوحد قبل مساءلته والقيادة السابقة عما أنجزوه وما أخفقوا في إنجازه. وتبنى المؤتمر خطاب الرئيس الذي كان الأطول في رسالة أنه قادر على البقاء في القيادة، حيث ضُخّمت فيه الإنجازات بصورة لم نعد نعرف عن أي بلد يتكلم، وتجاهل الإخفاقات رغم أن القضية الفلسطينية الآن في أسوأ وأخطر المراحل التي مرت بها.
كما جاء خطاب الرئيس صريحًا كعادته، مؤكدًا استمراره في النهج الذي سار فيه قبل اتفاق أوسلو وبعده، الذي أوصلنا إلى الكارثة التي نعيش فيها، في ظل تعمق الاحتلال وتوسّع الاستيطان، لدرجة وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى حوالي 800 ألف مستوطن، إضافة إلى تقطّع الأوصال، وتعمّق الانقسام أفقيًا وعموديًا، وازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتفشي الفساد، وارتفاع نسبة البطالة، وتدهور التعليم والصحة والإنتاج الوطني، عدا عن انتهاك الحقوق والحريات، والقضاء على القضاء، وتعطيل المؤسسات، ووضع السلطات كلها في يد شخص واحد.
وأشاد الرئيس باتفاق أوسلو الذي أعاد 600 ألف فلسطيني (وهذا رقم مبالغ فيه)، وأكد تمسكه بنهج المفاوضات من خلال تأكيده على موافقته السابقة على لقاء نتنياهو. ودافع عن مشاركته في جنازة شيمعون بيريز رغم المعارضة الفلسطينية والشعبية الواسعة لها، وعن ما تقوم به لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي بمختلف مكوناته، دون أن يتوقف أمام حصيلة نهج المفاوضات، وأمام مصير ما هدد به في خطاباته أمام الأمم المتحدة بأن الأمر القائم لا يمكن أن يستمر، ولا بد من إعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل بوصفها علاقة مع الاحتلال وليس شريك سلام، مع أنه أشار إلى تمسكه بالاعتراف بإسرائيل، غير أن هذا الاعتراف لا يمكن أن يستمر إذا لم تعترف إسرائيل بِنَا. ما يذكرنا بالتهديدات اللفظية السابقة حول حل السلطة ووقف التنسيق الأمني ... إلخ.
وأكد الرئيس على أن العام 2017 سيكون عام تجسيد الدولة، من دون أن يقول لنا كيف وما هي خطّته لتحقيق ذلك، متناولًا بسخرية المقاومة الشعبية السلمية، من خلال تساؤله عن سبب تقاعس الفصائل والقيادات عنها، متجاهلًا أنه رئيس الفصيل الحاكم، إضافة إلى أنه رئيس السلطة والمنظمة والدولة الفلسطينية، وتتضمن مسؤولياته وضع السياسات وتوفير الإمكانيات اللازمة لإطلاق مقاومة شعبية فعّالة.
وفي هذا السياق، أظهر الرئيس أن الأولوية الحقيقية لديه هي العمل السياسي والديبلوماسي، من خلال تعهده بالانضمام إلى 520 مؤسسة دولية من دون التوقف أمام عدم تفعيل عضوية فلسطين في المؤسسات التي انضمت إليها، وخصوصًا محكمة الجنايات الدولية، وحديثه حول تكرار طرح موضوع الاعتراف بفلسطين كدولة كاملة العضوية على مجلس الأمن، وملاحقة بريطانيا على تقديمها وعد بلفور، متناسيًا أن هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق ما لم تكن ضمن تصور وإستراتيجية سياسية ونضالية قادرة على تغيير موازين القوى وجعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل.
كما لم يخبرنا الرئيس عن حصيلة عمل لجنة التواصل مع مختلف مكونات المجتمع الإسرائيلي، وهل أدت إلى زيادة معسكر السلام والمؤمنين بالحقوق القلسطينية، أم إلى توجه إسرائيل أكثر نحو التطرف، لدرجة تلاشي ما كان يطلق عليه "معسكر السلام". وهذا يعود إلى أسباب عدة، أهمها السياسة الفلسطينية المعتمدة، خصوصًا في عهد الرئيس، التي فتحت شهية إسرائيل للحصول على المزيد من التنازلات الفلسطينية.
أكبر دليل على تهافت السياسة المعتمدة تمسك الرئيس بما جاء في "مبادرة السلام العربية"، وما تضمنته من حل متفق عليه لقضية اللاجئين الذي يضع الفيتو بيد إسرائيل، رغم أنها تريد الحصول على الاعتراف العربي والإسلامي والتطبيع معها أولًا، وتجاوز القضية الفلسطينية من خلال الحل الإقليمي الذي يتغنى به نتنياهو.
إن التمسك بالثوابت الفلسطينية الذي أكد عليه الرئيس يتطلب سحب الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود المتضمن في الرسائل المتبادلة الذي نسف هذه الثوابت من حيث الجوهر وتبنى رواية الحركة الصهيونية، ولم تقدم إسرائيل مقابله سوى الاعتراف بالمنظمة كممثل للفلسطينيين وإقامة حكم ذاتي تحت سيطرة الاحتلال.
لا يجب التعويل على الأجواء الإيجابية التي ظهرت بين "فتح" و"حماس" خلال المؤتمر في إحداث اختراق في ملف المصالحة لسبب بسيط، يتمثل بأن الرئيس أعاد طرح موقفه السابق المنادي بالاحتكام للانتخابات على أن يسبقها أو لا يسبقها تشكيل حكومة وحدة وطنية، على أن يقود الفائز بها. وهذا يعكس عدم جدية وتكرارًا لما سمعناه وشاهدناه طوال السنوات السابقة من تجاهل لأهمية توحيد المؤسسات، خصوصًا الأمنية، والتوافق على برنامج سياسي وطني وأسس الشراكة السياسية قبل الذهاب للانتخابات.
يكفي أن أسأل إذا جرت الانتخابات وفقًا لما طالب به الرئيس وفازت "حماس"، هل ستسلم لها "فتح" والرئيس "الجمل بما حمل"؟ والعكس صحيح، فهل ستسلم "حماس" إذا فازت "فتح"؟ وإذا سلمنا جدلًا أن هذا يمكن أن يحدث، وهو صعب جدًا، فهل ستسمح إسرائيل لحماس بقيادة السلطة قبل أن تلتزم بالالتزامات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي حولتها لوكيل أمني عند الاحتلال؟
كان من المتوقع أن يتوقف المؤتمر أمام التردي في العلاقات الفلسطينية مع عدد من الدول العربية المنضوية في إطار ما عرف باللجنة الرباعية العربية، فلا يكفي الإشادة بدور اللجنة المكلفة بمتابعة مبادرة السلام العربية، وبدعم السعودية والجزائر للسلطة، والدفاع عن القرار المستقل، لأنه لم يكن يعني لا في الماضي ولا الآن ولا في المستقبل التخلي عن العرب.
طبعًا، ليس من المقبول أن تكون مسألة المطالبة بعودة دحلان ومجموعته محور الاهتمام العربي، فهذا يقزّم الدور العربي ويجعل دحلان كأنه سيهبط على "فتح" ببراشوت عربي رغم أنه لا يحمل برنامجًا مختلفًا، وهذا ما دفع أبو مازن ومعه "فتح" إلى رفضه، لأن دحلان يريد المنافسة بدعم عربي على خلافة أبو مازن، الأمر الذي كان سيسرع في الصراع على الخلافة، وبالتالي في انتهاء عهده، وهذا الأمر كان سببًا في تردي العلاقات الفلسطينية العربية، وفي الإسراع بعقد مؤتمر "فتح" السابع الذي كرّس إقصاء دحلان.
كان ويجب الفصل ما بين العلاقات الفلسطينية العربية وعودة دحلان على أرضية إظهار الحرص على أمتن العلاقات مع العرب، على أساس القناعة بأن القضية الفلسطينية جامعة للعرب، وأنّ البعد العربي للقضية الفلسطينية في منتهى الأهمية، ومن دونه كان من المتعذر أن تبقى القضية حية وصامدة رغم كل ما تعرضت له منذ نشوئها منذ أكثر من مائة عام حتى الآن.
إن قطع الطريق على التدخلات العربية والدولية الضارة والإسرائيلية الضارة دائمًا يكون أولًا بإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أساس برنامج القواسم الوطنية المشتركة، والديمقراطية التوافقية، والشراكة السياسية الحقيقية، تمهيدًا لمواصلة الكفاح من أجل إنهاء الاحتلال وتحقيق الأهداف الفلسطينية.
وثانيًا، من خلال وقف المخططات لعقد المجلس الوطني بنفس الطريقة التي عقد فيها مؤتمر "فتح"، بحيث تتم هندسة المنظمة على مقاس شخص واحد أو أشخاص عدة أو حتى على مقاس تنظيم وحده، من خلال عقد المجلس بمن حضر والإصرار على عقده تحت حراب الاحتلال، ما يقضي سلفًا على إمكانية مشاركة قيادات كثيرة وأعضاء مجلس وطني في غزة والخارج، خصوصًا ممن ينتمون لحماس والجهاد والجبهتين الشعبية والديمقراطية، إضافة إلى الفصائل المقيمة خارج فلسطين.
إذا حسنت النوايا، فإن المطلوب قيام اللجنة التنفيذية بتشكيل لجنة تحضيرية بمشاركة الفصائل داخل المنظمة وخارجها، وضم ممثلين عن الشتات والمرأة والشباب، لتقوم ببحث التحضير لمجلس وطني جديد، أو دعوة المجلس القديم مع توفير ضمانات لمشاركة الفصائل والقطاعات التي لا تزال خارج المنظمة.
وأخيرًا، ليس كل ما حصل سيئًا، فبالرغم من أن مؤتمر "فتح" كان انتخابيًا وصراعًا على المصالح والمراكز، ولم يعط البرنامج السياسي الأهمية المحورية التي يستحقها، فلذلك كرس القديم وفتح طريق الهبوط أكثر في السقف السياسي الفلسطيني، لأن الرئيس خرج أقوى في حين أصبحت "فتح" أضعف مما كانت عليه؛ إلا أنّ هناك بصيص أمل من خلال بعض الظواهر ونجاح العديد من العناصر، أهمها حصول أبو القسّام وأم القسّام على أعلى الأصوات، ونجاح العديد من القيادات والعناصر التي لا تزال تحمل لواء القضية ولا تحركها المصالح الفردية فقط. وعلى أهمية ذلك فإن الفرد لا يملك عصا سحرية، فنحن بحاجة إلى فريق إنقاذ وطني من "فتح" وخارجها على أساس رؤية وطنية جامعة تنبثق عنها إستراتيجية قادرة على النصر.