Menu

قرن خلا على بلفور

وليد عبد الرحيم

لم يمر منذ تسعة آلاف عام على بلاد الشام و العرب عامةً أسوأ مما يجري منذ قرن كامل خلا، و لا جرت تغييرات بنيوية ثقافية وسياسية و اجتماعية و اقتصادية كمثلها، حتى عندما كانت القدس أو دمشق أو بابل تُدمر، لم يكن هذا الأمر يطال مجمل الحياة و وقائعها و تجلياتها و امتداداتها جغرافياً و ديموغرافيا ، كما هو الحال اليوم.

في لحظة مئوية بلفور، صواريخ النازية الصهيونية هزت ضواحي دمشق الليلة، حيث ارتجت شبابيك بيوتنا و تزحزحت أسرتنا بعد ساعة و ثلث من منتصف الليل ،

يا لدهائهم ، إنهم يريدون تذكيرنا بأنهم وجدوا و لا زالوا!، و أن القوة هي الركيزة الوحيدة التي ستصنع منا أيضاً شعوباً و دولاً و مؤسسات ، لا تراثنا التاريخي العظيم وحده و لا خطابتنا الدينية و القومية المفرطة، و لا برامجنا التي بلا برامج على مختلف الأصعدة، و عند مختلف اتجاهاتنا من اليسار إلى اليمين إلى الوسط.

دعم الغرب حضارته الحديثة بتنحيتنا عن صناعة المستقبل، لم يكن ممكناً للثورة الصناعية أن تأتي أكلها دون سحق بلاد الشام و العراق و مصر، فكان تأسيس كيان العصابات النازية الصهيونية، و عندما سئل نابليون بونابرت من قبل معاونيه بعدما اجتاح العالم، أجاب بأن أكبر تخوفاته هي من قدومه نحو فلسطين، و عندما ضحك أحد معاونيه ساخراًنظر إليه قائلاً " لا أدري إلى متى ستبقى مبتسماً هكذا"

ليس ذلك بسبب حاملات الطائرات التي كانت تمتلكها فلسطين أو سوريا كلها، و لا بسبب الجيوش الجرارة، لكن كما قال الإمبراطور" شراسة المقاتلين و قدسية الأرض و بؤرة الإيمان"، و فعلاً هزمته عكا بقيادة أحمد باشا الجزار، و كانت الركيزة الأولى لدحره ليس الخطابة و لا شجاعته و مقاتليه فحسب، بل ذكاؤه و تصميمه و قادته على الرغم من محصارتهم داخل السور الحجري، فقد كانوا إلى جانب صمودهم الأسطوري يصرخون:" لبيك ياعكا" و يستشرسون في صد الهجومات المتكررة، و يستعملون الماء لإغراق جنود الإمبراطور العظيم و يرمون بالجثث عليهم من فوق الأسوار لإفشاء الطاعون بينهم، لمعرفتهم بأن جرذان شاطئ عكا تنتظرهم، فتفشى الطاعون بينهم فعلاً ، هكذا هزم الإمبراطور من قبل مدينة محاصرة كانت وقتها لا تساوي ربع مساحة باريس!

ذكرى بلفور، و قرار التقسيم يجب أن ينبهانا أولاً بأن المسألة ليست كتابة أو قراءة كلمات منمقة مليئة بالمفردات الصاخبة، بل يجب أن تنبهنا إلى أننا لن ننتصر أبداً ما لم نغير في بنيتنا الذهنية و العقلية و الاقتصادية و الاجتماعية و قراءة الدين و الوطن و السياسة و الاقتصاد و التعليم و المجتمع، و حتى المرأة و الطفل وو ... .

النصر لا يتحقق دون ثقافة عميقة اختصاصية، لا بالسلاح و الجيوش وحدها، ذلك ما يمكن استخلاصه من قرن كامل من دحرجتنا باتجاه الأسفل.

و على قذارته و ظلمه، و مسؤولية بريطانيا المجرمة الكبرى، فإن التركيز على وعد بلفور باعتباره هو وحده من صنع المأساة و نهب فلسطين و تاريخها و مستقبلها و أتى بحيوانات البشرية لاستيطانها مكان شعبها العريق، هو تسطيح لجوهر القضية، و تعمية للجوانب الأخرى التي كانت أشد سوءاً.
نابليون بونابرت كان أول مجرم كبير وعد المجرمين اليهود بفلسطين، و ليس بلفور، فقضت المقاومة خاصة في عكا على مشروع إمبراطورتيه برمته و غيرت وجه فرنسا ذاتها، بل و العالم،

التخلف العثماني و العربي، الانتداب البريطاني الإرهابي المجرم الذي دعم فيما بعد العصابات الإرهابية الصهيونية، سايكس بيكو و التآمر المشيخي العربي على الثوار الفلسطينيين و العرب الذين قاتلوا ببسالة نادرة للدفاع عن البلاد و بيعهم أسلحة فاسدة ، و النظام الرسمي العربي برمته الذي أقيم لحفظ " إسرائيل" فسلمها البلاد و كان وفياً لها حتى اليوم و مازال قائما، دعم العالم الغربي الظالم للقتلة الصهاينة و خاصة أميركا الراعية المجرمة لإنشاء و تقوية "إسرائيل" و جلب حيوانات و متخلفي البشرية إليها استناداً إلى أساطير وثنية، شركات الاحتكار الإمبريالية و قوى الاحتكار العالمي و الماسونية و القوى و اللوبيات الخفية الأخرى، ضعف الفلسطينيين و جموع الشرفاء العرب و ارتباكهم ، و عدم وضع برنامج حضاري للمواجهة و الثورة...
كل ذلك أدى لسقوط فلسطين في يد الإرهابيين و إنشائهم للكيان، ليس وعد بلفور وحده، فالتركيز عليه وحده - على لعنته - يهدف إلى تمويه الحقائق، يهدف إلى إخفاء الجوانب الأهم الأخرى!
في ذكرى بلفور المشؤوم