Menu

فعلا "Arab" ولكن بدون "Idol"!

نصّار إبراهيم

 ما سأتناوله في هذه المقالة السريعة ليس موجها للشباب والشابات الذي يشاركون في مثل هذه البرامج، فأنا أحترمهم وأحبهم، كما أتفهم دوافعهم وطموحاتهم وحقهم بأن يلاحقوا الفرص المتاحة.
 المشكلة ليست في الشباب، المشكلة هي في السياقات التي تحملها وتروج لها هذه البرامج المستوردة، وايضا في الظواهر الاجتماعية والثقافية والسلوكية التي ترافقها.
 لقد حذرنا علماء الاجتماع كثيرا من المخاطر التي ترافق استيراد المفاهيم من سياقات أخرى، ولفتوا النظر إلى أن تلك المفاهيم لا تأتينا صافية بل تأتي وهي تحمل معها شحنات مجالها الاجتماعي والثقافي، وبالتالي يجب الانتباه والحذر عند نقل تلك المفاهيم لكي لا تلقي بأثقالها في واقع اجتماعي مختلف لا تناسبه، دون أن يعني ذلك قطع الطريق على التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى.
 منذ سنوات والفضائيات العربية تتحفنا برامج مستنسخة عن برامج غربية: "ستار أكاديمي"، "سوبر ستار"، "أراب أيدول" ، "أراب تلاند" ، "الكاميرا الخفية".... وغيرها..
 وهي برامج ظهرت في سياق التطور الاجتماعي والثقافي في المجتمعات الغربية، وهي بالتالي تعبير عن حالة التفاعل في المجتمعات المتطورة مع السوق الرأسمالي وما يرافق ذلك من فك وتركيب اجتماعي، وبالتالي فهي منضبطة لمعايير وبنى وثقافة ومتطلبات المجتمع الذي نشأت فيه.
 حين يتم نقل هذه البرامج بسذاجة وسطحية وإسقاطها على مجتمعات أخرى، كالمجتمعات العربية مثلا، دون الانتباه للشروط والمحددات السياسية والثقافية والنفسية والاجتماعية فإنها تولد ديناميات سلبية في غاية الخطورة.
 حيث تجري عملية تجاوز قسري للواقع، فتخلق وهما بالتقدم والحرية، ووهما بالتطور ووهما حول إمكانية تحقيق الطموحات في واقع اجتماعي مثقل بالمشاكل السياسية من قهر وقمع وهيمنة وتبعية، واقع مسكون بثقافة القبيلة والعشيرة، واقع يعاني من مشاكل اقتصادية بنيوية كالفقر والبطالة والثقافة الاستهلاكية، واقع محكوم بالتدين الشكلي والانقسامات الطائفية والجهوية ومسكون بالكثير من مظاهر التخلف... 
 لكل هذا نلاحظ أن من أخطر انعكاسات تلك البرامج هو تغذيتها لحالة الاستقطاب بصورة مرضية مهينة تعبر عن ضحالة اجتماعية وثقافية وسلوكية: استقطاب قطر ي، وديني، وعشائري، وسياسي... وغير ذلك، وهكذا لا يعود النقاش مرتبط بالفن أو بالمهارات والمواهب، بقدر ما يتحول إلى اصطفافات وملاسنات تطال ركائز التماسك والوحدة الاجتماعية سواء داخل البلد العربي الواحد أو بين البلدان العربية المختلفة.
 هذه البرامج في المجتمعات التي نشأت فيها تأتي في سياقات الحالة الاجتماعية، وتندرج في المساحات التي تتيحها الفاعلية الاجتماعية دون أن تتحول إلى حالة استقطاب قطرية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية أو طائفية.
 لتوضيح هذه الفكرة لنلاحظ على سبيل المثال الظواهر السلوكية المرافقة للمنافسة الجارية الآن في برنامج "أراب آيدول" بين شابين من فلسطين هما يعقوب شاهين وأمير دندن، والشاب اليمني عمار محمد.
 حالة من "الجنون" وتجاوز الخطوط العميقة، بحيث لم يعد أحد يتذكر هل ما يجري هو منافسة على مجرد موهبة غنائية، أم منافسة بين الشعب الفلسطيني والشعب اليمني الشقيق، وبعد ذلك تتدحرج كرة "الجنون" لتصبح منافسة بين الفلسطينيين في الضفة الفلسطينية و"عرب إسرائيل".. نعم هكذا... لقد سمعت هذا التعبير المهين لم يعودوا فسطينيين عرب لقد أصبحوا بقدرة قادر"عرب إسرائيل"، ثم بعدها تصبح القصة "مسيحي" و "مسلم".. 
أي هبوط وأي إسفاف هذا!؟.
 يضاف لما تقدم حالة الهوس العام الذي يجري توظيفه من أجل تعظيم ربح الفضائيات وشركات الاتصالات والابتزاز المالي والاستجداء... 
 وهنا لا أغفل أيضا وظيفة مضمرة لتلك البرامج وهي إشغال الناس والشباب بما يعطل الوعي ويحاصره في دوائر غريزية ضحلة وضيقة إلى أبعد حد.
 في المجتمعات الغربية تأتي هذه البرامج لتكمل المتعة الاجتماعية ككرة القدم والموسيقى والمسرح والسينما والفنون والآداب... في واقعنا تأتي لتغطي وتموه وأيضا لتشوه وتحرف النقاش والوعي.. وهكذا تتحول على شبكات التواصل الاجتماعي والاعلام إلى مواجهات وتصفية حسابات وشتائم قبلية وعشائرية وعائلية وسياسية وطائفية وقطرية وجهوية...
 بعد هذه الملاحظات يطرح سؤال هام: هل هذه هي الطريقة العلمية لاكتشاف المواهب والطاقات؟ لم لا تكون هذه المهمة وظيفة الهيئات الثقافية والاعلامية والأدبية في كل بلد عربي.. لم لا تكون هذه وظيفة القنوات الفضائية وغيرها في كل بلد عربي، بحيث تصل إلى أقصى حد من المواهب والطاقات في الأرياف والمدن والبوادي، فتلتقطها وتبنيها وتطلقها، فالتقاط المواهب ليس عملية عشوائية، كما ليست فيمن يستطيع الوصول بالركض او تسلق الجدران أو السباحة أو بالواسطة... اكتشاف المواهب وبناؤها عملية جدية مشروطة بتوفر رؤية ثقافية واجتماعية شاملة ولا ترتبط ببرنامج أو حدث تنظمه هذه القناة الفضائية أو تلك... 
 وبمناسبة الحديث عن المواهب... وكما يعرف الجميع أكثر مني، منذ سنوات وهذه البرامج تتحفنا بالمواهب... حسنا... أين أصبحت تلك المواهب يا ترى اليوم...!؟
 لماذا لا نجد بعد سنوات من بين كل تلك الأصوات قامة بقامة فيروز وأم كلثوم، وعبد الحليم وعبد الوهاب، وصباح فخري، ومحمد عبده، وطلال مداح، وكاظم الساهر، وسعدون جابر ولطفي بوشناق، وميادة حناوي، وماجدة الرومي، وديع الصافي، فيلمون وهبه، نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، أسمهان، فريد الأطرش، فهد بلان، سميرة توفيق، صباح، شادية، وردة الجزائرية..ووووووو!؟.... 
 هؤلاء.. كما أذكر وغيرهم الكثير من الكبار لم يأتوا ولم يصعدوا عبر منصات أراب أيدول وسوبر ستار وستار أكاديمي... هل نحن بحاجة لكل هذا الجنون لنكتشف المواهب التي تعج بها مدننا وقرانا ومخيماتنا!
قد يبدو ما أقوله بالنسبة للبعض خارج السياق وكأنني أغرد في مجرة أخرى.. ولكن بقليل من التامل سندرك خطورة المسرح الذي نرقص عليه.

فحذار من هذا العبث بركائز انتمائنا ووحدتنا الوطنية والقومية والاجتماعية، حذار من العبث بركائز هويتنا... مواجهة هذا العبث أو ضبطه على الأقل هي وظيفة المؤسسات الوطنية والقومية والثقافية والأعلامية والفنية بحيث لا يكون المجتمع مشاعا لكل من يخطر على باله أن يتحفنا ببرامج من الدرجة العاشرة.
ذلك لأننا كشعب فلسطيني وأمة عربية لا نملك ترف أن نبدد ما نملك في واقع فلسطيني قاس مسكون بالاحتلال والاقتلاع والتشريد والتدمير والتمزيق، وفي واقع عربي يعيش حالة من الصراعات الدامية التي تغذي التطرف والإرهاب والتخلف والتمزيق السياسي والاجتماعي.
مرة أخرى حديثي هذا ليس موجها للشباب المشاركين.. بل لبنية وسياقات هذه الظاهرة وما يترتب عليها من سلبيات ومخاطر... أتمنى للجميع الفوز والنجاح... بشرط أن لا يمس ذلك بأعماقي كمواطن فلسطيني عربي.