Menu

عُمر الحكاية (الجزء الخامس) والأخير: كل إشي واضح!

أحمد نعيم بدير

عُمر الحكاية

غزة _ خاص بوابة الهدف

سلسة "عُمر الحكاية" تأتي ضمن ملفٍ خاص أعدّته "بوابة الهدف الإخبارية"، في الذكرى الأولى لاغتيال المُناضل والقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، عُمر النّايف.

في الجزء الأخير من السلسة الوثائقية "عُمر الحكاية"، يروي لنا الدكتور كاشف النايف، شقيق عُمر، التفاصيل والخبايا التي جرت بعد إغتيال المُناضل عُمر.

"من أوّل جلسة تحقيق، أدركتُ أن اللّجنة لن تفعل شيئاً، ومهمّتها شكليّة ليس إلّا. بدأت اللجنة بالتحقيق مع السفير المذبوح، وتفاجأتُ بوجود شخص يُدعى محمد صيدم وهو أحد العاملين بالسفارة، أخبرني وقتها تيسير جرادات بأنّ مهمّته ستكون  كتابة محاضر التحقيق. راودني الشكّ، لذا قررتُ كتابة المحاضر بنفسي".

بدأت اللّجنة الاستماع لأقوال السفير، كان أفرادها يجلسون على طقم الكنب في غرفة السفير، فيما الأخير يجلس على مكتبه.

"بهذا المشهد تأكدتُّ أكثر أن اللجنة ليست سوى مسرحيّة هزَلية شُكِّلت بهدف ذرّ الرماد في العيون".

بدأ السفيرُ حديثه للّجنة، وبعد أن أكد بأنّه بذل كل ما بوسعه لتوفير سبل الراحة والدعم لعمر طيلة فترة تواجده، صار يُلمّح ويُصرّح بأنّ عمر كان في الأيام الأخيرة ما قبل (وفاته)، مُتعباً نفسياً، وأنّ هذا ربّما دفعه للانتحار. هنا كانت المفاجأة.

"انتفض صيدم ورمى القلم من يده بقوّة وانفجر في وجه السفير، قائلاً: الله أكبر، خاف من ربنا، كيف بتقول هيك عن عُمر، مُتعب نفسياً؟! مكانش هيك بالمرّة، كان مُتّزن جداً، ومِرح ومؤّدب، أنا كل يوم كنت أقعد معه، عمر انسان لطيف ومتواضع، مكانش يناديني غير عمي أبو هديل –لكبر سنه-. ليلة اغتياله كنّت عنده، وحكالي: عمي أبو هديل شو رأيك نشرب شاي؟، وافقت، وأصرّ هو إنّه يعمل الشاي بنفسه. أنا ما رح أنسى هادي المواقف طول حياتي.

"كاد أبو هديل صيدم يبكي وهو يُردّد للسفير: حرام عليك اللي بتحكيه عن عُمر، ثم صمت. بعد هذا الموقف، تمّ استبعاد أبو هديل من مهمّة كتابة المحاضر. شكّ السفير بأنه سيكون عكس التيار!".

"بصورة عامّة كان السفير المذبوح مضطرباً أثناء الجلسة. يرتبك بين الحين والآخر وأخرج أكثر من ١٤ وثيقة مراسلات بينه وبين الخارجية الفلسطينية، في محاولة منه للتبرير بأنّ كل المضايقات والضغوطات التي تعرض لها عُمر كانت بطلب من وزارة الخارجية ومن السلطة في رام الله!".

"كّنا جالسين في إحدى الغرف بالسفارة، واتفقنا على كتابة الاستنتاج النهائي الذي أجمعنا عليه في اللجنة، والذي كان ينبغي أن يُقدَّم لأبو مازن، بأن الشهيد عُمر تعرض لعملية اغتيال، كما تعرض طيلة ٧٠ يوماً لمُضايقات وضغوط كبيرة وغير مُبررة داخل السفارة، وبأننا كلجنة نوصي بتشكيل لجنة أخرى مهنيّة ومتخصصة للتحقيق".

"فجأةً اقتحم السفير المذبوح الغرفة غاضباً -لا أعرف  كيف سمعنا- كان على وشك البكاء، وضرب الطّاولة التي نجلس عليها بقوّة، ثم قال مُخاطباً تيسير جرادات: أنا مش حروح كبش فِدا لحالي، أنا كل شيء عملتو كان بموافقة الخارجية وأنتم طلبتم مني كل شيء. هنا أخذ جرادات يُهدّئ من روع السفير، بالقول: خلص إنتَ بس إهدا.. إهدا.. مش رح نعمل هيك".

على ما يبدو، لم يستطع المذبوح أن يهدأ، لسببٍ ما، قد يكون هو ذاته الذي دفعه لتصفيح سيّارته الشخصيّة بمبلغ مالي ضخم.

زهير الأشوح، كان مُرتبكاً وخائفاً جداً طوال فترة الاستماع له، وكان أول من وصل إلى السفارة، ادّعى بالقول: وجدتُ عُمر مُلقىً على أرض كراج السفارة وكان يئنّ، بعدها اتصلتُ بجمال عبد الرحمن، ثم نقلناه إلى الداخل بناءً على تعليمات السفير".

ممدوح زيدان، أجهش ببكاءٍ هستيريّ أثناء الاستماع له، في فندق "شيراتون صوفيا"، بينما كان يقول للجنة التحقيق: عمر لا يُمكن أن ينتحر، وتفسيري أنه قد دُسّ له شيءٌ جعله يتقيّأ، فأصبح من السهل ضربه على رأسه بآلة حادة، لكن العملية غير محترفة على الإطلاق، ويُمكن أن يكون الهدف من هذه الطريقة، التضليل.

"تبيّن لاحقاً أنّ السفير المذبوح طلب من شخصٍ يُدعى هشام رشدان، خلال لقاء جرى بينهما في منزل شخص ثالث، يُدعى وليد العُطّي، الذي وصل من عمّان لصوفيا بتاريخ ٢٥ فبراير- قبل يوم واحد من الاغتيال-، إخراج عمر من السفارة، فطلب رشدان مُقابل ذلك ٥٠٠٠ يورو، وافق المذبوح فوراً، لكن رشدان اشترط موافقة عُمر على الخروج، يبدو أن طلب السفير كان يقضي بإخراج عُمر بالقوة، وهو ما رفضه رشدان، الذي أشار إلى أنّه سيُغادر المنزل. هُنا أخبره السفير أنّه سيتبعه مع العُطّي للخارج بعد لحظات.. لكنّ الرجلان بقيا لفترة من الوقت قبل أنّ يُغادر المنزل.. فيما يبدو أنّهما كانا يبحثان أمراً ما".

"العطي، شخصٌ مشبوه يعمل لصالح الأمن البلغاري بطريقة شبه علنية، له سوابق يعرفها كل أبناء الجالية الفلسطينية، وعلاقات وثيقة مع العالم السُفلي وعصابات المافيا الإجرامية، وهو ذات الشخص الذي أصبح ظل السفير بعد جريمة الاغتيال، إذ كان يُرافقه مُسلَّحاً على الدوام، بالإضافة إلى الحرس الشخصي".

هشام رشدان، ظهر في تحقيقٍ استقصائي بثّته قناة "الجزيرة" بتاريخ 6 نوفمبر، وتبيّن أنه من ضمن أوائل الأشخاص الذين وصلوا السفارة، وصوّر عدّة مقاطع فيديو تُروج بأنّ "عُمر انتحر".

رانيا النايف أفادت بأنّ هشام رشدان بعد تحقيق الجزيرة، حاول أن التواصل معها عدّة مرات، زاعماً أن لديه أقوالاً جديدة، طالباً رؤيتها، لكنّها رفضت -ولا تزال- الجلوس معه، وأخبرته مراراً عبر الأشخاص الذي كان يُرسلهم "إذا عندك اشي اطلع احكيه للإعلام".

منظّمة التحرير الفلسطينية كانت تُخصص مبلغاً زهيداً ل عمر النايف منذ وصوله سوريا وحتى في بلغاريا. في أحد الأيام، وبعد جريمة الاغتيال، عرض تيسر جرادات على د.كاشف، أن السلطة الفلسطينية على استعداد بأنّ تصرف أعلى راتب شهيد لعُمر، وتتكفّل بأسرته من أموال وتعليم إلى الأبد، "شعرت أن هذا شرطاً ضمنياً لطي ملف القضية". بطبيعة الحال، رفض د. كاشف العرض، وبالتزامن مع تكشّف فشل لجنة التحقيق، انسحب منها.

بعد ذلك، انقطع ذاك المُخصص الزهيد التي كانت تصرفه منظمة التحرير لعُمر، "أرادوا أن ينتقموا منّا، رغم أن هذا المُخصص هو حق لعُمر ولأبنائه من بعده".

ويُمارس من بعدها السفير المذبوح –حتى اليوم- أشكالاً مُختلفة من الحصار بحقّ الجالية الفلسطينية في بلغاريا، خاصةً المتفاعلين مع قضيّة عمر. ترابط مُريب بين هذه التفاصيل، التي تُشكّل مُجتمعةً الكثير من علامات الاستفهام.

فشلت اللجنة الأولى في التوصّل لنتائج شافية، وبعد إلحاحٍ، من عائلة النايف على وجه الخصوص، من أجل تشكيل لجنة تحقيق أخرى، أكثر مهنيّة وتخصصاً، أصدر رئيس السلطة محمود عباس قراراً بتشكيل لجنة أخرى وإرسالها إلى صوفيا.

"بعدها أرسل النائب العام الفلسطيني، أحمد برّاك، قاضياً من النيابة العامة برام الله إلى صوفيا، يُدعى إبراهيم حمودة للتحقيق في القضية، وأعتقد أنه توصّل لاستنتاجات مُهمة جداً وأوحى لنا بذلك، إذ قال إنّ كُل شيء مفهوم وواضح في هذه القضية، وأنّها لو كانت في رام الله يستطيع أن يُنهيها خلال يوم واحد، ولفت إلى أنّه سيُرسل تقريراً مُفصلاً بهذا للرئيس عباس. أيامٌ معدودة حتى اختفى هذا القاضي، بل وقطع تواصله مع العائلة نهائياً، ولم نعد نسمع عنه شيئاً".

"وصلت لجنة التحقيق الثانية إلى صوفيا، ومكثت 45 يوماً في فنادق الخمسة نجوم، واجتمعت مع السفير وطاقمه كمُضيف وليس كطرف ينبغي التحقيق معه، ورفضت اللجنة كل النداءات بإجراء تحقيق جدّي، مكتفيةً بانتظار التقرير البلغاري. كان واضحاً لنا كعائلة أنّ مهمتهم صُورية لا أكثر، وهي تمرير رواية الانتحار".

مرت الشهور، وقضية الفدائي المغدور عُمر النايف، تراوح مكانها، وكأنّ شيئاً أريد له أن يختفي عن الأنظار، ولكن لحساب من؟!.

نيابة صوفيا أغلقت قضية الشهيد النايف، بقرار صدر بتاريخ 18 نوفمبر 2016، بيّنت فيه أنه لا يوجد أدلة بخصوص ارتكاب جريمة في قضية عُمر، بل وأكّدت فرضيّة "الانتحار".

"كنّا نتوقع هذه النتيجة، كون السفير له علاقات مُتنفذة في بلغاريا".

اعترضت عائلة النايف على قرار النيابة، ووكّلت المُحامي ديمتري ماركوفيسكي للطعن فيه، وإعادة فتح القضية من جديد.

تسلّمت العائلة التقرير النهائي من النيابة البلغارية، بتاريخ 24 نوفمبر، وبحسب القانون طعنت في القرار بتاريخ 30 من الشهر ذاته، عبر المُحامي "ماركوفيسكي".

هُنا بالتحديد، دخل العدل مرحلة الإنعاش، وأصبح بحاجة إلى صعقةٍ قضائيةٍ مهنيّة، لوضع النقاط على الحروف، وإنقاذ ميزان العدل من السقوط!.

بتاريخ 14 ديسمبر، قبلت محكمة النقض العليا الطعن، وأصدرت عدّة قرارات، أهمها: إلغاء قرار النيابة الصادر بتاريخ 18 نوفمبر، وإعادة فتح ملف النايف، بإرجاع ملفات القضية إلى نيابة صوفيا.

اعتبرت المحكمة أنّ كل ما جاء في النتائج الختامية لتحقيقات النيابة البلغارية واللجنة الطبية الخماسية مشكوكٌ فيه، ويحمل الكثير من التناقضات والأسئلة التي لم يتم الإجابة عنها، أو تم تجاهل التحقيق فيها.

وبحسب القانون، طعن الادّعاء البلغاري في قرار محكمة النقض العليا، وفي حال تم قبول هذا الطعن، ستبقى قضية المُناضل عُمر رهن الأدراج المُغلقة.

"إذا كان القضاء نزيه، ستتكشّف الحقيقة، خاصةً وأنّ الطعن المُقدّم من الادعاء البلغاري ضعيف جداً، أمّا إذا حصل غير ذلك، فتأكدوا أن الذمم قد بيعت".

الخطة البديلة

"حينها سنتوجه بالقضيّة إلى المحاكم الدولية، حتى نكشف المؤامرة، والحقيقة كاملة، لكنّ هذا لن يتحقق إلّا بتظافر كل الجهود الشعبية، والأصوات الحرّة، وكلّ الأطراف المعنيّة بصون وصايا الشهداء، والانتصار لدمائهم".

لم يكن عُمر يوماً من "أصحاب عروش الهوامش" الذين تحدث عنهم محمود درويش، بل كان ندّاً حتى النفس الأخير، مُحققاّ وصيّة غسان كنفاني "لا تمُت قبل أن تكون نداً"، فقراءته لمجلّة "الهدف"، التي كان تصل إليه خصيصاً إلى بلغاريا، لم تكُن مجرّد تعبئة وقت فراغ، كان عمر النايف مُتّصلاً بالقضية الفلسطينية وشخوصها من خلال تلك الورقات.

26 عاماً، كان من المُحقّق أن عمر سيقضيها في عتمة الأسر داخل السجون الصهيونيّة، لكنّ هذا النّد العنيد أبى إلّا أن يلقّن العدو درساً، بأنّ "تكبيل الفلسطيني" وهمٌ. واغتياله بلا ثمن، هو الوهم الأكبر.