باسل الأعرج، الفدائيّ والمثقّف الثوريّ الشابّ الذي اغتاله جيشُ الاحتلال، في مدينة البيرة المُحتلّة فجرَ الإثنين 6 مارس/ آذار الجاري، اكتشف، في لحظة وعيٍ فارقةٍ لمعتْ في رأسه، فكرةً عميقةً تتلخّص في كلمةٍ ــــ مهمّةٍ واحدة: الاشتباك. إنّها قناعة فكريّة تجذّرتْ تدريجيًّا في وجدانه، وظلّت تؤكّد حضورَها، وتقول له: إنّ مهمّةَ المثقّف الثوريّ هي أن يكون في قلب المواجهة، وأن يعيشَ متمرِّدًا على الواقع وشروطِه، من أجل تجاوزه، لا من أجل قبوله أو التكيّف معه؛ ومهما ضاقت السبلُ بكَ، واشتدّ الحصار، فسيظلّ في وسعك أن تصنع ثقافةَ الاشتباك كطريقة عيشٍ وسلوكٍ وحياة، ولو بدا الانتصارُ الآن أقربَ إلى المستحيل.
لقد قرأ باسل أفكارَ غسّان كنفاني جيّدًا، وتأمّل مقولات مهدي عامل وفرانز فانون وأنطونيو غرامشي ومالكوم إكس، فازداد اقتناعًا باستحالة وجود أيّ دور للمثقّف الثوريّ خارج ميادين الاشتباك الشامل.
ولأنّ الوعي الثوريّ لا يأتي دفعةً واحدة، بل أساسُه العملُ والتجربةُ المعيشة، ومرجعيّتُه حقائقُ الواقع الماديّ، فإنّ تعميقَه وترسيخَه يقتضيان امتلاكَ أدوات البحث والمعرفة والمنهج العلميّ. من هنا، توجّه باسل نحو الكتب، ونحو التنقيب والحرث في أرض التاريخ الفلسطينيّ المعاصر والقديم. وصار "الماضي" شغلَه الشاغل، وتحديدًا تاريخ المقاومة الفلسطينيّة الشعبيّة المسلّحة في مواجهة الاستعمار الاستيطانيّ، مذ رَسَت أساطيلُ الإمبراطور نابليون بونبارت قبالة أسوار عكّا.
واكتشف باسل أيضًا أنّ المثقّف الوطنيّ يجب ألّا ينفصل عن واقع الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وهمومِها، ولو أصابها الكلسُ والصدأ؛ وأنّ هذا المثقّف، من خلال الجهد اليوميّ والتثقيف الذاتيّ والمشاركة في النشاط النقابيّ والجماهيريّ، سيظلّ يراكم الدروسَ ويصقل تجربتَه ويمتحن إرادتَه وأفكارَه في الميدان، وفي المحاولات المتكرّرة والمتعثّرة، علّها تكون شرارةً تخلق حالةً من الوعي والنهوض الشعبيّ الفلسطينيّ في الأرض المحتلّة. ولكنْ، سرعان ما كان صدرُه يضيق، فيطلب المزيدَ من الفعل، ومن توسيع مساحات الاشتباك.
ولأن لا وعيَ ثوريًّا من دون ممارسة ثوريّة، فقد بدأ باسل هذه الممارسة. وكانت تجربتُه الأولى في قريته "الولجة،" وهو الطفل الذي يتذكّر صورَ الانتفاضة الشعبيّة الكبرى بين العاميْن 1987 و1993. ثمّ تواصلتْ تجربتُه في المدرسة والجامعة، وفي "الحَراك الشبابيّ،" و"فلسطينيون من أجل الكرامة،" ولجانِ المقاطعة والتصدّي للاستيطان، ومناهضةِ جدار الضمّ والنهب العنصريّ. وشارك في الحملات الشعبيّة ضدّ التطبيع، وضدّ سياسات السلطة الفلسطينيّة والمفاوضات مع العدوّ، وغيرِها من الحملات والمبادرات التي كان له دورٌ في إطلاقها وتأسيسها إلى جانب رفاقه وزملائه من طلائع القواعد المناضلة في التنظيمات الفلسطينيّة، وخصوصًا في الحركة الطلّابيّة على اختلاف تيّاراتها ومشاربها. لقد أرادها باسل حركةً شبابيّةً وطنيّةً وحرّة، تقف خارج القوانين الرتيبة، بعيدًا عن جدران التقليد والاجترار؛ لكنّه لم يَشبع من مستوى الاشتباك، فقرّر أن يتمرّد مرّةً أخرى.
***
لو بحثنا عن شبيهٍ لباسل، فسنجده في العشرات من الشباب الفلسطينيّ الثوريّ الذين حملوا القلمَ والسلاح، ولم يروْا أيَّ تناقضٍ بين الفكر والنار في أتون الصراع مع العدوّ الصهيونيّ. ذلك أنّ الوعي الجذريّ العميق ــــ إذا لازمتْه الإرادةُ والقيمُ الأخلاقيّةُ والإنسانيّة ــــ سيكون بمقدوره أن يحدّد وجهةَ السلاح، ومجرى البوصلة، والطريقَ، والغايةَ، ويفتح كوّةً من الأمل في جدار الواقع الصلد. ولأنّ الوعي بالتاريخ وقوانين الصراع وأحوالِ العدو ضرورةٌ لا بدّ منها، فإنّه يسبق تعلّمَ إطلاق الرّصاص. فالسلاح ــــ الحديد لا روحَ فيه ولا حياةَ إلّا إذا كانت له عينان، ورؤيةٌ وطنيّةٌ ترشده إلى الهدف الصحيح. وإذا انتشر السلاح وامتلكه المعذّبون والمستضعفون، استعادوا وعيَهم بحقيقة وجودهم وحقوقهم، واكتشفوا قدرتَهم على الصمود والنهوض واستئنافِ مسيرة العودة والتحرير.
يَحْضر باسل المقاوم، فيَحْضر معه شهداءُ الثقافة الوطنيّة من الشباب الذين غابوا موقّتًا، لكنّهم يعودون مرّةً أخرى. ذلك لأنّ الشهداء لا يحتاجون إلى جواز مرور؛ فهم وحدهم مَن يستطيع الخروجَ من القبور، ومن الملصقات والكليشيهات، والتمرّد، كلّما ضاقت الأرضُ وحضر شهيدٌ آخر. الشهداء في وسعهم أن يُستحضروا دومًا كي يحتجّوا ضدّ الخيانة والتزييف، وكي يَحرسوا الحلمَ والذكرى. وهل ثمّة من يشكّ في أنّ الشهيد وديع حدّاد تململ في قبره حين تبرّع "الرئيس" الفلسطينيّ بمدينة صفد المحتلّة إلى صحفيّ صهيونيّ صغير لا يستحقّ "فرنكَين"؟!
يَحْضر دمُ باسل التلحميّ اليوم، وتُستنفر الذاكرةُ الشعبيّةُ الفلسطينيّة/العربيّة. هكذا يُستحضَر، عند استحضار دم باسل، السيّدُ المسيحُ، الفدائيُّ الأوّل، حاملًا صليبَه وعذابَه في درب الآلام. ويُستحضَر دمُ الإمام الحسيْن الزكيّ في كربلاء، فيترسّخ الإيمانُ بقدرة الفدائيّ الفلسطينيّ على تقديم النموذج على "انتصار الدم على السيف." وفي الصراع الدامي بين الحقّ والباطل، وبين شعبٍ أعزلَ وكيانٍ عنصريّ مدجّج بالسلاح، يُستحضَر الشبابُ الثوريُّ المثقّف في صورة غسّان كنفاني، ثائرًا ومُجلجلًا، ليؤكّد وصيّتَه الأخيرة: "لا تمُت قبل أن تكون ندًّا." وتصدح أشعارُ الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود، وخصوصًا أبياته الشهيرة قبل استشهاده:
سأحملُ روحي على راحتي/ وأُلقي بها في مهاوي الرَّدى
فإمّا حياةٌ تسرُّ الصديقَ/ وإمّا مماتٌ يغيظُ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان:/ ورودُ المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن/مَخُوفَ الجناب حرام الحمى!
إذا قلتُ أصغى لي العالمون/ودوّى مقالي بين الورى
لعَمرُكَ إنّي أرى مصرعي/ولكنْ أغذُّ إليه الخُطى!
وتُستحضر قصائدُ الشاعر الوطنيّ إبراهيم طوقان، وأغاني المقاتل النقابيّ خليل أحمد خليل الذي استشهد في قلعة الشقيف في جنوب لبنان سنة 1982، وقصائدُ علي فودة الذي استُشهد في بيروت في ذلك العام نفسه، ومقولاتُ النقابيّ الثوريّ إبراهيم الراعي، وريشةُ الفنّان ناجي العلي... فباسل الأعرج لم يولدْ من العدم، بل هو امتدادٌ طبيعيٌّ لهذا الإرث التاريخيّ المقاوم، ولذلك الدم المسفوك الذي استباحه المستعمِرُ الأبيضُ ــــ ولمّا يزل ــــ في فلسطين المحتلّة، وعلى امتداد الأرض العربيّة.
***
تشْبه قصّة باسل الأعرج، الشاب الفلسطينيّ العنيد، قصّةَ القائد الشبابيّ الراديكاليّ الجنوبأفريقيّ ستيف بيكو، الذي قتله نظامُ الفصل العنصريّ بعد أن ضاق ذرعًا بحضوره ونشاطه. فبعد غيرِ محاولةٍ فاشلةٍ لكسر بيكو، وبعد حرمانه من التنقّل والدراسة، وبعد اقتحاماتٍ متكرّرةٍ لبيته، واعتقال رفاقه وأفراد عائلته وجيرانه، اغتالوه في زنزانة ضيّقة وباردة. وكان بيكو قد أسّس حركة شبابيّة ثوريّة في منتصف السبعينيّات من القرن الماضي، أطلق عليها اسم "حركة الوعي الأسود" ضدّ نظام الأبارتهايد وفي مواجهة القمع الذي بلغ ذروته في عموم البلاد. كانت مقولته الأشهر "أقوى سلاح في يد القاهرين هو عقلُ المقهورين" شبيهةً بمقولات باسل عن لزوم "الوعي" في عمليّة التحرير. وباستشهاد بيكو، انطلقت انتفاضةٌ في الوعي، وفي الميادين والشوارع، أعادت إلى حركة التحرّر في جنوب أفريقيا جذوتها وبريقها، وجدّدت الأملَ بالحريّة والنصر. وهذا ما يُرجى أن يؤدّيه استشهادُ باسل في وعي الشباب الفلسطينيّ، وفي ميادين فلسطين وشوارعها.
***
هكذا اذًا، في الزمن الفلسطينيّ الصعب، يولد المثقّفُ الثوريُّ الشابّ باسل الأعرج. يحمل جعبته، يخبّئ فيها سلاحَه وكتبَه، ويتقدّم بخطًى واثقةٍ ثابتةٍ، عكس المرحلة، نحو شمس فلسطين.