Menu

باسل الأعرج: المثقف العضوي

د. فيحاء عبد الهادي

"إنّ في عين كل رجل – يقتل ظلماً - يوجد طفل يولد في نفس لحظة الموت.

أيّها الذي يعيش تحت أكداس الأقدام، إكبر، إكبر، لماذا لا تكون ندّاً قبل أن تموت؟! يا عين الشهيد..لا تمت قبل أن تكون نداً..لا تمت..".
غسان كنفاني
*****
فجر 6 آذار 2017، استشهد الشاب "باسل الأعرج"، وكان نداً.

وبينما كان العدو يطارد الشاب ورفاقه/ محبي الحياة، كان "باسل" وزملاؤه يطاردون الظلام والقبح والفساد، "باسل الأعرج"، الذي ولد في "قرية الولجة"، العام 1984، تسلَّح بالعلم، من خلال دراسته للصيدلة في "جامعة 6 أكتوبر"، في مصر، وبالفلسفة والتاريخ، من خلال قراءاته، ومن خلال عضويته، ونشاطه في "دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية والتحرر المعرفي"، وتعرَّف إلى الواقع المعيش؛ ليشتبك مع المحتلّ، الذي يصادر حريته الفردية والجماعية، ويمنعه من الإنتاج العلمي، والأدبي، والفكري الإنساني.

درس ماضي شعبه، وشعوب العالم التي ناضلت ضد الاستعمار والطغيان، لا ليتغنّى بالماضي، ويبكي على الأطلال؛ بل كي يستلهم دروس التاريخ، واثقاً أن حركة التاريخ لا تعود إلى الوراء، وأن معرفة أسباب النصر سوف تؤدي إليه.

آمن بضرورة استخدام أشكال النضال كافة، ومنها الكفاح المسلح، متسلحاً بالحق التاريخي، كما آمن بضرورة اقتران القول بالفعل، ولذا شارك في التظاهرات ضد الاحتلال، وضد الاستيطان، وبالوقفات الاحتجاجية لفضح التطبيع والتنسيق الأمني، ونشط ضمن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل.
*****
تبنى "باسل الأعرج" مفهوم "غرامشي" عن "المثقف العضوي"، ودوره في التغيير.

المثقف الذي يطوِّر وسائل عمله المعرفية التنويرية النقدية، والذي يرى أن الإصلاح الثقافي والأخلاقي يجب أن يصاحبه تغيير اجتماعي واقتصادي. ومن أجل المشاركة الجماهيرية الواسعة التي يتطلبها التغيير، وإيماناً منه بحق المواطن/ة بالحصول على المعلومات؛ نثر "باسل" أفكاره بين رفاقه وزملائه وأصدقائه، عبر الكتابة في الصحف، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما أخذ على عاتقه سرد تفاصيل الرواية الفلسطينية، والتركيز على النضال الفلسطيني المتواصل ضد الاستعمار البريطاني، والعصابات الصهيونية، والاحتلال الإسرائيلي، من خلال مشروع التجوال، الذي يعرِّف الفلسطيني إلى بلاده شبراً شبراً.

*****
لم يكن "باسل" ولياً أو إماماً أو بطلاً خارقاً. كان بطلاً من نوع جديد (بطولة الإنسان العادي)، يرى الكثيرون أنفسهم فيه؛ لكنه يرى أبعد من الآخرين، ويبادر للكثير من الفعاليات، دون الخشية من العواقب.

أجمع من عرفه على أنه كان إنساناً شجاعاً، ومثقفاً، وحكَّاء، وباحثاً، ومؤمناً بأهمية إعمال العقل والمنطق، وبجدوى التراكم المعرفي، الذي يمكن أن يؤدي إلى تحوّل نوعي.

حمل هموم شعبه وآلامهم وآمالهم. تعرَّف إلى معاناة المعتقلين/ات، من خلال تجربته الشخصية المرَّة، وتجربة أصدقائه، ولم يكتف بذلك، بل أطلَّ عليها أيضاً من خلال الكتب الأدبية، وكتب السير الذاتية، ومنها الكتاب الذي لم ينته من قراءته حتى يوم الاستشهاد، كتاب "المسكوبية"، للكاتب الفلسطيني "أسامة العيسة".

آمن أن الإنسان يصنع تاريخه بجهده وعمله، ولذا حاول أن يمارس قناعاته، دون أن ينتظر تحسن الظروف الموضوعية الصعبة، التي تمر بها القضية الفلسطينية، أو الظروف الذاتية المتكلِّسة للقوى الوطنية التقليدية.  

*****
التفَّ الشعب الفلسطيني في الوطن وفي الشتات حول القيم التي زرعها الشهيد، وحول الدروس المستفادة من مسيرة حياته القصيرة الثرية.

عبَّرت النساء الفلسطينيات، عن تضامنهن مع عائلته، بكلمات جميلة، مؤثرة، وعميقة، ومؤلمة في آن. تغنت بصفاته الإنسانية، وبعمله النضالي، وبتأثير عمله عليهن، وعلى الشعب الذي أحبّ"يا باسل هاالنوّارة..يا باسل يا مجروح..دمك هدر ما بيروح.. فلسطين بتردّ الروح"، "دم الشهدا بفلسطين..فجَّر فينا براكين..دمّ اولادك فجر جديد"، "تحيتنا بحرارة.. لَباسل هاالنوَّارة" "لفوا الشهيد ولفّوه..أَلِف تحية لابوه"، "خلي الشهيد بدمُّه..ألف تحية لَمُّه".
عكست كلماتهن حسَّاً جمعياً عميقاً: "مش ابنكم لحالكم..ابن فلسطين كلها".
*****
"باسل الأعرج"،
نستلهم كلماتك ومقولاتك، عن المثقف والاشتباك: "بدّك تصير مثقف؛ بدّك تصير مثقف مشتبك، ما بدّك مشتبك؛ لا منك ولا من ثقافتك"، وعن فكرة "الجذوة المستمرة"، وعن البحث المستمر عن طريق الخلاص: "فلماذا أجيب أنا عنكم؛ فلتبحثوا أنتم"، وعن النيص والبرغوث: "عش نيصاً وقاتل كالبرغوث"؛ (النيص، من القوارض، ذات غطاء من الأشواك الحادة، تستخدم للدفاع ضد الحيوانات المفترسة. والبرغوث، يخزّ ويوجع ويقفز ويتجنب اليد أو القدم الساعية إلى سحقه).

استعادت الكلمات معانيها بين شفتيك، واستعادت أدوات النضال ألقها بين يديك. ومن خلالها، استعدنا صورة الفدائي الجميل، الذي يقدِّر اختلال ميزان القوى بينه وبين أعدائه، ولذا يمارس قاعدة رئيسة من قواعد حرب العصابات، تعينه على البقاء والصمود وإقلاق راحة الخصم وإزعاجه: "أضرب واهرب"، كما استعدنا صورة الناشط السياسي الجماهيري الصادق، والسياسي المستقل، والمثقف الذي يلتحم بهموم شعبه، ويعبر عن طموحهم بالحياة الحرة وبالعدالة الاجتماعية.

أيا باسل، يا ابن قرية الولجة، يا ابن الشعب الفلسطيني الباسل، يا ابننا جميعاً؛ لن نكفَّ عن سرد حكايتك، وحكايات شهداء الوطن، ومناضليه، نساء ورجالاً، حتى النصر، أو النصر.