Menu

بخصوص "الوطنية الفلسطينية والوطنية الأردنية"... ملاحظات منهجية!

نصّار إبراهيم

(على هامش النقاشات حول إلغاء مهرجان التأبين للشهيد القائد أبو علي مصطفى )

في العادة لا أتسرع في الكتابة... ذلك لأنني أحاول أن أتجاوز الكتابة الانفعالية ... أحاول أن أفهم.. أن أفكر بهدوء... فالكتابة عملية جادة وخطرة تشترط المتابعة والقراءة والتأمل وطرح الأسئلة... فالكلمة حين تخاطب الرأي العام هي مسؤولية عميقة وليست مجرد كلام نقوله كيفما اتفق في لحظة نزق.

هذا ما حدث حين كنت أتابع النقاشات وردود الأفعال التي أثارها إلغاء حفل التأبين للشهيد القائد ابو علي مصطفى... لهذا فإن هدفي من وراء هذه المقالة ليس مناقشة الحدث بذاته تحديدا... هدفي من هذه المقالة هو أن أذهب لما هو أبعد من هذا المستوى... أقول هذا لأنني لاحظت بأن الكثير من النقاشات والمداخلات قد تجاوزت الحدث - على أهميته – نحو أبعاد تمس قضايا وثوابت لا يجوز العبث بها، حتى ولو جاءت تلك النقاشات والمواقف على شكل شعارات تبدو للوهلة الأولى طنانة و"وطنية جدا" سواء من هنا أو هناك، وبالتالي لا يجوز تركها أو المرور عليها دون الوقوف أمام خلفياتها وتفكيك مرتكزاتها الخطرة. 

لهذا كان من الضروري إعادة وضع هذه النقاشات، بما لها وعليها، في سياقات واضحة لكي تكون فرصة للوعي وتجاوز التعليقات وتبادل الاتهامات وردود الفعل الغاضبة. 
لقد أصبحت مثل هذه النقاشات في واقعنا أقرب للظاهرة... حيث يبادر البعض لإطلاقها وتغذيتها لتصبح حالة انفلات لا يضبطها ناظم، أي بما يشبه فقدان التوازن والاتزان وشد الشَّعر... نقاشات وخطاب هما أقرب لانفعال ذاكرة قصيرة.. أو ربما ذاكرة مثقوبة لا تحتفظ بشئ من تجارب التاريخ والثوابت التي يجب أن تحكم سلوك ومواقف شعب مثقل بالتحديات وأسئلة المصير والكرامة الوطنية والقومية.. وفقط كل ما لدى تلك الذاكرة القصيرة أو المثقوبة هو لحظة الانفعال الراهنة. 

يحدث هذا حين يتعلق الأمر بهذا الحدث السياسي أو ذاك، بهذه المناسبة السياسية أو تلك في هذا البلد العربي أو ذاك... فتنفلت الألسن بما يتجاوز كل ثابت ومنطق رصين.
ويحدث هذا أيضا حين يتعلق الأمر بفعالية أو نشاط أو مبادرة أو موقف أو تقدير يتعلق بفلسطين ونضالات وتضحيات شعبها المديدة بما في ذلك التضحيات الغالية التي قدمتها الشعوب العربية في سبيلها... وخاصة الشعوب العربية التي فرض عليها التاريخ والاجتماع والثقافة والجغرافيا والدم ذلك الاندماج الهائل مع فلسطين وشعبها كحالة الأردن على وجه الخصوص.. وأيضا سورية ولبنان و مصر والعراق واليمن... على سبيل المثال لا الحصر، تلك الشعوب التي تسكن فلسطين وعيها وذاكرتها ووجدانها وتاريخها. 

هنا يحدث أن يلتبس الوعي والسلوك وخاصة حين يخلط البعض (بوعي أو بدونه) الحابل بالنابل فلا يعود قادرا على التمييز بين فلسطين القضية القومية الوطنية العادلة، و"فلسطين" بما هي خلاف أو اختلاف على حدث محدد في لحظة سياسية عابرة.

يحدث هذا حين تتم مقاربة فلسطين من زاوية جد ضيقة وكأنها حكر على شعب فلسطين أو جزء منه أو حكر على هذه القوة السياسية أو تلك... 
يحدث هذا حين يتم وضع الوطنية الفلسطينية في مواجهة وتناقض وصدام مع الوطنيات الشقيقة (الأردنية، السورية، المصرية، العراقية، اللبنانية... وغيرها) وكأن هذه الوطنيات ما وجدت إلا لتكون في تناقض تناحري لا فكاك منه.

الوطنية الفلسطينية، كما أفهمها من حيث المبدأ، ليست قضية بيولوجية أو وراثية أو جغرافية ، بل هي بالأصل رؤية ووعي وموقف يقوم على الإيمان العميق بقضية قومية عادلة في مواجهة مشروع صهيوني استعماري بقدر ما يهدد فلسطين فإنه يهدد جميع بلادنا العربية المقدسة، ولهذا فإن الوطنية الفلسطينية ليست بحال من الأحوال وطنية شوفينية بل وطنية مقاومة من أجل التحرر الوطني.. هذا هو جوهر الوطنية الفلسطينية الأصيلة وغير ذلك هو موت لها.

والوطنية الأردنية، كما أفهمها أيضا من حيث المبدأ، ليست مجرد انتماء بيولوجي أو وراثي أو جغرافي، بل هي في الأصل وطنية قومية تقوم على الانتماء للوطن والأرض والناس والوعي والتاريخ وحراسة كل ذلك بالتضحية ومن قبل الجميع حين تفرض التحديات ذلك. 

إذن الوطنية الفلسطينية وقبل أي شئ هي موقف وانتماء عميق لقضية قومية عادلة، وبالتالي فإن الموقف تجاهها ليس له علاقة بحسابات لحظية أنانية أو قطر ية ضيقة... بل هو موقف ينطلق من وعي عميق لطبيعة وجوهر التحدي الذي يفرضه المشروع الصهيوني ويقذفه في وجوهنا وفي وجوه "وطنياتنا المتعددة" بلا رحمة أو شفقة .. 
هنا... وفي هذا السياق "لا فضل لعربي على عجمي" إلا بقدر ما يكون وفيا للفكرة ومناضلا في سبيل تلك القضية العادلة، وذات الشئ ينطبق تماما تجاه أي تهديد أو تحد يتعرض له أي بلد عربي آخر... 

بهذا المعنى تصبح المكونات والركائز العميقة لأي وطنية عربية تستند على صخرة عميقة من الانتماء للذات الوطنية بركائزها القومية والإنسانية والحضارية والسيادية الثابتة.

وبهذا المعنى أيضا تصبح الوطنية الأردنية وفي أعمق وأجمل وأروع تجلياتها هي وطنية فلسطينية بامتياز، وبذات المستوى تماما تصبح الوطنية الفلسطينية في أعمق وأجمل وأروع تجلياتها هي وطنية أردنية بامتياز... وغير ذلك يصبح الحديث عن الأخوة والدم مجرد ثرثرة لا أكثر ولا أقل، ستعصف بها اي رياح أو مواقف عابثة فتعيد الجميع لمربع الانتحار والتآكل الذاتي. 

انطلاقا من ذلك فإنه من الطبيعي، أي كتنفس الهواء تماما، أن يكون معظم الأردنيين، وبغض النظر عن مكان ولادتهم، هم في الموقف والانتماء لفلسطين وطنيين فلسطينيين كما الفلسطينيين تماما، كما يكون الفلسطينيون، وبغض النظر عن مكان ولادتهم، هم في الموقف والانتماء للأردن وطنيين أردنيين كما الأردنيين تماما. 

الوجه الآخر لهذه المعادلة الواضحة هو أن ليس بالضرورة إذن أن يكون كل فلسطيني وطنيا فلسطينيا، كما ليس بالضرورة ايضا أن يكون كل أردني وطنيا أردنيا... فكم هنا وهناك ممن لا يرى في فلسطين أو في الأردن سوى مزرعة للربح... وهؤلاء في العادة هم أول من يستل سيف "الوطنية" الضيق لكي يدمي الجميع الجميع... وهذا بالضبط ما يحول الأوطان إلى فسيفساء طائفية وجهوية وحزبية لا يربطها رابط.... وبعدها نقف لنسأل ببلاهة من اين جاء كل هذا التطرف والاقصاء الاجتماعي والثقافي والسلوكي.

إذن لكي تستقيم المعادلة والوعي ويتناغمان بتوازن مبدع فإن أي مقاربة لفلسطين على حساب الأردن هي كارثة بكل المقاييس السياسية والوطنية... القومية والأخلاقية... التاريخية والمستقبلية، وأي مقاربة للأردن على حساب فلسطين هي أيضا كارثة وبكل المقاييس... السياسية والوطنية... القومية والأخلاقية... التاريخية والمستقبلية... تلك هي معادلة المصائر الواحدة التي لا تحتمل الخفة والعبث لشعب واحد عجنه التاريخ منذ الأزل على ضفتي نهر واحد... فقدم الشهداء الذين لم يفكروا لحظة واحدة بمكان ولادتهم، سواء غرب النهر أم شرقه، حين اندفعوا وراء واجبهم وانتمائهم المقدس فذهبوا إلى مجدهم باسمين.. فكم سيكون مؤلما لهؤلاء الشهداء سواء من هنا أو هناك.. أن يسمعوا كل هذه الثرثرات... لهذا فإن أي حديث أو خطاب عن فلسطين و القدس بدون احترام تضحيات شعب فلسطين وشعب الأردن وكل الشعوب العربية هو مجرد نفاق لا قيمة له في حقل السياسة والأخلاق الوطنية القومية... كما أن أي حديث أو خطاب عن الأردن بدون احترام تضحياته وسيادته هو مجرد نفاق لا قيمة له.

تدعيما لهذه الفكرة ودفاعا عنها سأعيد الاستشهاد بمقتطف من مقالة أو رسالة نشرتها تحت عنوان: "إلى الأردن: كلمة من الضفة الأخرى للنهر... ولكن بلغة مختلفة!" بتاريخ 19 آب 2017 على موقع "وكالة عمون الإخبارية":
"........ إنني أتحدث هنا عن الأردن بصورة خاصة ذلك لأنه شكل حاضنة الانصهار المدهشة بين "الأردنيين والفلسطينيين" أي بما يشبه طحين القمح حين تعجنه الأمهات (هنا أستخدم هذا التعبير بتحفظ شديد، وفقط من أجل توضيح الفكرة لا أكثر، ودون التقليل من مكانة التكوينات الأخرى التي استقبلها الأردن عبر التاريخ).

أقول ذلك لأنه وفي كل مرة تطرح أو تُلقى فيه فكرة سياسية من هنا أو هناك ، من هذا الطرف أو ذاك، سواء بهدف الاختبار أو الترويج أو فقط لاستفزاز المجتمع وإشغاله بذاته... نجد أنفسنا أمام أصوات وتنظيرات والتباسات وتحريض ليس له أي علاقة بمعنى الوطن ومعنى الانتماء والوفاء للأرض والماء والخبز والدم والتين والزيتون والتاريخ... فجأة "ننسى أو نتناسى"، فندخل طوعا أو كرها، بوعي أو بدونه، بحسن نية أو بسوئها في مصيدة العبث بأقدار الناس والوطن.

فبالرغم من كل ما حدث ويحدث فقد نجح الأردن بتجاوز الرمال المتحركة وبقي الدم يحرس الدم، كما العود يحن على قشره لأنه جزء منه... وبقي الوعي الجمعي العميق يعيد العابثين إلى صوابهم. 

أقول ذلك لأن مثل هذه الأحاديث أو الهمسات، التي بعضها عفوي وبعضها واع، يجب صدها بوعي ومنطق محكم، ذلك لأنها فقط تدفع نحو إرباك الوعي، وزعزعة الانتماء التاريخي الراسخ لروح المجتمع.

هنا أعلن: نعم هي الأردن وطني ... ولكن ليس كبديل عن فلسطين..كيف يكون ذلك.. فهل لفلسطين بديل!؟
نعم هي فلسطين وطن الأردني... ولكن ليست كبديل عن الأردن... كيف يكون ذلك.. فهل للأردن بديل!؟
هو الأردن لي وفلسطين أيضا لي... كما هو الأردن لك وفلسطين أيضا لك.. هذا واقع ثابت ومعطى عميق، ولا تعنيني هنا كثيرا قرارات مسترمارك سايكس ومسيو فرانسوا جورج بيكو التي أتحفانا بها في اتفاقيتهما الشهيرة عام 1916، اتفاقية سايكس – بيكو.

نعم قد نتفق وقد نختلف في السياسة كثيرا أو قليلا... لا بأس بذلك... فالسياسة متغيرة ومتحركة كالراقصة.. لكن الأرض باقية والناس وذاكرة المكان يحرسان الوعي والأمنيات الكبرى في وطن أكبر من عمر وأقدم من فكرة... لهذا محظور أن نبني العلاقة مع الناس ومع الوطن بناء على لحظة أو مرحلة سياسية عابرة... ذلك لأن الوطن ليس من حقنا نحن فقط، بل الأهم أنه من حق الأجيال القادمة... ف "نحن لا نرث الأرض من الأجداد، بل نستعيرها من الأبناء" هكذا يقول مَثَلٌ هنديٌّ أحمر بمنتهى الحكمة والروعة.....
إذن...لنخلع الخوذة ونلقي بها بعيدا كي يصبح مجال الرؤية أوسع وأبعد...... وسلام على منديل أمي هنا ومنديل أمي هناك... سلام على كوفية أبي هنا وكوفية أبي هناك... وسلام علينا حين تكون هنا هناك.. وحين تكون هناك هنا." (انتهى الاقتباس). 

خلاصة القول هي: أن الوطنية الفلسطينية الحقيقية والوطنية الأردنية الحقيقية هما وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن أن يكون الفلسطيني وطنيا أصيلا دون أن يكون وطنيا أردنيا أصيلا، كما لا يمكن أن يكون الأردني وطنيا أصيلا دون أن يكون وطنيا فلسطينيا أصيلا... وهكذا الوطنية والقومية أيضا وجهان لعملة واحدة... هي العلاقة هكذا بالضبط... بهذا المعنى يصبح أي مساس بفلسطين وحقوق شعبها هو في ذات الوقت مساس بالأردن ذاته، كما يكون اي مساس بالأردن وسيادته الوطنية هو مساس بفلسطين ذاتها... 

إذن لنرتفع بالنقاش لمستوى فكرة الانتماء والوفاء العميقة... ولنغادر مخاطبة الوعي الجمعي على طريقة الملاسنة او استنفار الغرائز... فهذا لا يخدم وطنا ولا قضية سواء هنا أو هناك... ففلسطين والأردن قبل هذا وبعده أكبر وأعمق من كل الملاسنات...

وغير ذلك ستكون فلسطين مجرد "طبخة مقلوبة" والأردن مجرد "طبخة منسف"... وبهذا يستمر النقاش والاختلاف على طريقة إعداد المنسف أو المقلوبة أو أيهما أفضل ومن منطلقات "وطنية جدا جدا" ولكن دون أن يكون لها اي علاقة لا بفلسطين ولا بالأردن... حتى وإن تم تقديمها "كوجبة ساخنة ولذيذة"... والسلام.