على خلفيّة توقيف المخرج اللبناني زياد دويري عند دخوله مطارَ بيروت قادماً من الخارج، وذلك بسبب دخوله الكيانَ الصهيوني قبل أعوام وتصويره فيلماً هناك بعنوان "الصدمة" طوال 11 شهراً، تطرح حملة مقاطعة داعمي للاحتلال في لبنان على الجمهور وعلى الجهات المختصّة التساؤلات الآتية:
أولاً: لماذا لم يتمّ توقيفُ دويري طوال السنوات الفاصلة بين فيلمه "الصدمة" وفيلمه المزمع عرضُه خلال أيّام، علماً أنّه سبق أن زار لبنان أكثرَ من مرّة لتصويره، بحسب اعترافه؟ صحيح أنّ فيلمه السابق مُنع بقرار من الجامعة العربيّة، عقب حملة مركّزة شنّتها حملةُ المقاطعة وأنصارُها والرأيُ العامّ الوطنيّ اللبنانيّ؛ لكنّ ذلك لا يجيب بتاتاً عن خرق دويري للقانون اللبنانيّ بدخول كيان العدو، بموجب قانون العقوبات، المادّة 285، التي تنصّ في بندها الأول على الآتي:
"يعاقَب بالحبس سنةً على الأقلّ، وبغرامةٍ لا تنقص عن 200 ألف ليرة لبنانية، كلُّ لبناني، وكلُّ شخصٍ ساكنٍ لبنانَ، أقدم، أو حاول أن يُقْدم، مباشرةً، أو بواسطة شخصٍ مستعار، على صفقة تجارية، أو أيّ صفقةِ شراءٍ أو بيعٍ أو مقايضةٍ مع أحد رعايا العدو، أو مع شخصٍ ساكنٍ أرضَ العدوّ".
القانون واضح هنا. لكنْ، للأسف، عمد بعضُ اللبنانيين إلى الإشارة إلى البند الثاني فقط، الذي ينصّ على دخول "بلاد العدو" من دون "موافقة الحكومة اللبنانية المسبّقة." وبصرف النظر عن أنّ دويري لم ينل تلك الموافقةَ الصريحة أصلًا باعترافه بالذات، وهو ما يعني أنّه خالف البندَ الثاني نفسَه، فإنّه لا بدّ من أن يكون قد أقدم، بفعل مكوثه ما يقرب عامًا كاملًا في تل ابيب، على توظيف رعايا إسرائيليين، واستئجارِ أماكن، ودفعِ معاشات، وصرف أموالٍ في مطاعم ومخازن، وشراء بطاقات، إلى آخره. والسؤال: لماذا لم يجر التحقيقُ معه طوال تلك السنوات؟
ثانياً: لماذا الغموضُ وانعدامُ الشفافية في قرارات الدولة اللبنانيّة بأجهزتها المعنيّة كافّةً؟ لقد فهمنا، إلى حدٍّ ما، لماذا أُوقفَ دويري؛ ولكننا لم نفهم تمامًا لماذا أُخلي سبيلُه بعيْد توقيفه! فهل يحقّ لنا أن نعرف، ولو ملخَّصاً وافياً، عن مجريات التحقيق في المحكمة العسكريّة طوال ثلاث ساعات كما يقول محامي دويري، كي ينتهي التحقيق بعدم توجيه "أيّ تهمة" إلى دويري؟ وما معنى "انتفاء النيّة الإجرامية" حيال القضيّة الفلسطينية، بحسب دويري؟ القانون واضح كما ذكرنا، ولا شيء فيه عن النوايا الإجراميّة المزعومة، بل نصّ نصًّا صريحًا على لا قانونيّة الصفقات والمقايضات ودخول "بلاد العدو." وكيف يستقيم الكلام على "النوايا" أصلًا بوجود قانون واضح هذا الوضوح؟ هل يستطيع، إذن، أيٌّ كان ان يعقد صفقاتٍ تجاريةً أو ثقافيةً أو سياحيةً مع العدوّ زاعمًا أنّ "نواياه" في ذلك سليمة، وأنّ هدفه خدمةُ القضية الفلسطينية على ما ادّعى دويري مرارًا وتكرارًا؟ ألم توضع القوانينُ، بدءاً، كي تَرسم الخطوطَ الفاصلة، وتحدِّدَ العقوبات الواضحة، لكي لا تبقى في إطار التأويلات والنوايا الرجراجة؟ وإذا افترضنا أنّ دويري يتّبع معاييرَ أخرى غيرَ القانون اللبناني، فما هي، علمًا أنّ معايير "الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" في فلسطين المحتلة، وهي معايير تمثّل ـ في رأينا، الحدَّ الأدنى من بين مجمل معايير حملات المقاطعة العربية، تناشد الفنانين العربَ عدمَ زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة إلّا تحت شعار معلن وواضح ومباشر ومسبّق:
"اهتداءً بتجربة المقاطعة في جنوب أفريقيا، تطلب [الحملة الفلسطينية] من الفنانين/ات العرب الزائرين/ات تبنّي مبادئ نداء المقاطعة ورفض التطبيع، تفاديًا لإعطاء أيّ انطباع زائف بأنّ زيارتهم/نّ تندرج تحت برامج التطبيع، ممّا قد تستغله إسرائيل في محاولة إضعاف المقاطعة العالمية الآخذة في التنامي ضدها."
ثالثاً: بعد منع فيلم "الصدمة" من العرض في كافة الأقطار العربيّة بقرار من جامعة الدول العربيّة، ما الحكمة في أن يرشّح وزيرُ الثقافة اللبنانيّ فيلم المطبِّع اللبناني الجديد لنيل جائزة الأوسكار؟ نحن لم نطّلع على هذا الفيلم طبعًا، وهو خارج موضوع القانون اللبناني ومعايير المقاطعة (اللبنانية والفلسطينية والعربية والدولية!) أصلًا، ولكنْ هل يشرِّف الدولةَ اللبنانية أن يَذكر التاريخُ أنّها، بشخص أحد ممثّليها وأحد مستشاري رئيس حكومتها (فيما سبق على الأقلّ)، رشّحتْ فيلمًا من إخراج مطبّعٍ خرق القانونَ والأعرافَ والمعايير جميعَها؟ وهل قرارٌ بهذه المسؤوليّة الضخمة ينبغي أن يبقى من صلاحيّة وزير واحد، أمْ أن ذلك سيرتِّب مسؤوليّات جماعيّة تطول الحكومةَ بوزرائها كافةً، وتطول موقفَ لبنان الرسميّ والشعبيّ الذي هو في حالة حرب مع العدوّ؟
رابعاً: وعلى ذكر الحكومة، ما موقفُ الوزراء الرافضين للتطبيع؟ هل صمتُهم جزءٌ من الحفاظ على "السلْم الأهليّ" و"الوحدة الوطنيّة"؟ وأيُّ سلْمٍ أو وحدةٍ يمكن أن نطمح إليهما إنْ لم يستندا الى رفضٍ واضحٍ وصريح لأيّ تواصلٍ مع العدوّ ورعاياه؟
إنّ حملة المقاطعة تضع هذه الأسئلة برسم وزير العدل، والأجهزة القضائيّة، والرأي العامّ اللبناني. لقد كشفت الدولةُ اللبنانيّة عن اضطرابٍ شديدٍ في قراراتها الأخيرة، حتى بدا وكأنّها تقدِّم "دعايةً مجّانيةً" للمطبّع زياد دويري ولفيلمه الجديد. والأسوأ أنها بدت وكأنها ترتضي بملء إرادتها أن تنقض قانونَها بنفسها، وأن تتنكّر لواحدٍ من أهمّ واجباتها المفترضة كدولةٍ فعليّة: محاسبة المتعاملين مع "رعايا العدو" أيًّا كانوا.