Menu

الأكراد: مقامرة الانفصال وديكتاتورية الجغرافيا... حركة تحرر أم أداة!؟

نصّار إبراهيم

في فيديو نشر قبل أسابيع تظهر مجموعة من الأكراد وهي تحتفل في تل أبيب فيما أحد الصهاينة "يغازلهم" قائلا: " نحن مش بس أولاد عم ... نحن أخوة... اليهود في كل العالم سيدعمونكم ... اللوبي الصهيوني في أمريكا سيدعمكم... نحن ندعم استقلال كردستان... وأنا أقول لكم اذهبوا إلى الاستفتاء.. صوتوا لصالح دولة كردستان... لا تسمعوا للعرب ... لا تسمعوا للاتراك المجرمين ... لا تسمعوا ل إيران الفرس الأنجاس...".

بطبيعة الحال لا أقصد من الإشارة لهذا الفيديو التحريض ضد الأكراد، فهذه المجموعة الصغيرة التي ذهبت إلي تل أبيب ومهما كانت فإنها لا تمثل في نظري الشعب الكردي الشجاع الذي ضحى واستشهد الكثيرون من شبابه من أجل فلسطين. الفكرة هنا هي مقدمة لنقاش مسألة سياسية راهنة: مقامرة الاستفتاء في إقليم كردستان العراق كتشريع للانفصال.

نعم حق تقرير المصير حق مقدس للشعوب والأمم، غير أن هذا الحق بقدر ما هو مقدس إلا أنه يشترط الحذر كي لا يتحول إلى محرقة إنسانية وسياسية وأخلاقية.

السيد مسعود برزاني حاكم إقليم كردستان العراق يصر وبغطرسة لافتة على إجراء الاستفتاء في 25 أيلول 2017 لفرض "استقلال" إقليم كردستان العراق، أي بمعنى الانفصال عن العراق وإعلان الإقليم دولة مستقلة، رغم معرفته تماما بأن هناك أربع دول أقليمية كبيرة تعارض هذا الاستفتاء وهي تحيط بالإقليم كما يحيط السوار بالمعصم : العراق - تركيا – إيران - سورية. هذا بالإضافة إلى الرفض المعلن لهذا الاستفتاء من جميع دول العالم باستثناء إسرائيل طبعا.

فعلا لا يحطم مطلبا محقا ويدمره ويفرغه من محتواه الإنساني والأخلاقي سوى سياسة حمقاء، أي بالضبط ما يقوم به الآن بعض ساسة وقيادات إقليم كردستان العراق.

إنني تاريخيا أتعاطف وأدعم الشعب الكردي الشجاع والمكافح في نضاله الطويل والعنيد على طريق الحرية والاستقلال بشرف وكرامة.

غير أن إصرار بعض قادة إقليم كردستان العراق اليوم على الانفصال في هذه الظروف وبهذه الطريقة أمر يثير الأسى والخيبة... ذلك لأن الدعوة للانفصال تعبر عن قصر نظر استراتيجي بالمعنى السياسي، كما تعبر عن هشاشة أخلاقية وانتهازية مقيتة.

العقل السياسي الناضج والذكي لا يستطيع أن يقبل ببساطة وبحسن نية هذه الدعوة للإنفصال فيما شعب العراق يخوض نضالا باسلا في مواجهة جيوش الآرهاب التي احتلت معظم مساحاته وقتلت وأبادت مئات الآلاف من أبنائه بما في ذلك الأكراد... لا أستطيع أن أقارب هذه الدعوة إلا باعتبارها توظيفا بائسا لمأساة العراق وانشغاله بمحاربة جيوش الظلام.

ألا ترى قيادات الأكراد والشعب الكردي أنه يتم التعامل معهم كلاعب احتياط يتم استدعاؤه بعد أن أنهار مشروع داعش والنصرة المدعومان من الدول الاستعمارية والرجعية وإسرائيل!!؟.

ألا يلفت انتباه برزاني وسواه من أن مقامرة الانفصال لا يصفق لها بحرارة سوى إسرائيل!؟

وهل يعتقد برزاني أن شعوب المنطقة ستقبل بكيان كردي تابع وخاضع يتناقض في مضمونه ووظيفته ودوره مع طموحات شعوبها التي تناضل بضراوة من أجل حريتها واستقلالها!؟

هذه المقامرة التي يدفع برزاني الشعب الكردي إليها في العراق تترافق مع خيارات سياسية بائسة لبعض قيادات الأكراد في سورية حيث جعلوا من أنفسهم مجرد جنود في جيب الولايات المتحدة التي تستهدف تقسيم سورية إلى دويلات طائفية وإثنية.... فصدقوا أن أمريكا تدعم طموحاتهم في الحرية والاستقلال.

إنهم يذهبون إلى المحرقة رغم أن السفير الأمريكي السابق في سورية روبرت فورد قالها لهم وبكل وضوح: لن ترسل امريكا أبناءها ليموتوا من أجل الأكراد.. بل ونصحهم بالتفاوض مع الدولة السورية... 

لا أدري ما هي الحكمة والذكاء الذي يستبطن هذه الخطوات والمواقف السياسية عند بعض القيادات الكردية!؟

كيف لهم أن يتجاوزوا ديكتاتورية الجغرافيا وكيف لهم أن يقفوا في حلف معاد تماما لكل أحلام وطموحات شعوب الأمة العربية بشكل خاص وشعوب الشرق بشكل عام!؟.
ما أريد قوله إن أي قيادة لا تنتبه للتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا وتصر أن تضع نفسها وشعبها في مواجهة مع كل هذا هي قيادة فاشلة...

هذا بالضبط ما تقوم به بعض قيادات الأكراد في العراق وسورية في هذه الأيام.. إنها وبكل بساطة تحول نفسها من حركة تاريخية تناضل من أجل الحرية والاستقلال والكرامة والعيش في نسيج الشرق التاريخي، إلى مجرد أداة في يد الولايات المتحدة وإسرائيل بما يجعلها في حالة تناقض مميت مع محيطها الشامل. 

الشعب الكردي ليس نبتا شيطانيا طارئا بل هو شعب غني بتاريخه وتراثه وحضارته ودوره وهو ممتزج بالدم والوعي مع شعوب المنطقة وكان دائما عند خط الواجب الأول في الدفاع عن الأرض والإنسان ضد الغزاة والعابرين... 

لقد عانى هذا الشعب ما عانى من مآس واضطهاد.. ومع ذلك لم يفقد الأمل ولم يستسلم أبدا... وسيأتي اليوم الذي سينال فيه حريته.. ولكن ليس من خلال الارتماء في أحضان دول معادية لشعوب المنطقة وتطلعاتها من أجل الحرية والاستقلال... هنا تتلاقى الآمال بين الأكراد والعرب وغيرهم على دروب النضال المشترك من أجل الحرية من كل أشكال التبعية والظلم والديكتاتورية. 

ومع ذلك سيبقى الرهان على وعي وأعماق الشعب الكردي الباسل والأصيل الذي لن يقبل بأن يكون مجرد كيان وظيفي تتلاعب به الدول الاستعمارية... أي بالضبط كما حال الشعوب العربية التي تناضل ضد أنظمتها التي قبلت بأن تكون مجرد أدوات في يد تلك الدول، ولا تزال تناضل ضد سياسات التقسيم والتجزئة منذ سايكس – بيكو وحتى الآن.