Menu

وَهل ما زالَ هُناكَ مُتَّسَعٌ للأنبياء

تعبيرية

محمد كناعنة أبو أسعَد

بقلم: الأسير المُحَرَّر والأمين العام السابق لِحركة أبناء البلَد

(ألقيت في حفل تأبين الراحل الأديب العُروبي أحمد حسين في قرية مُصمص في المُثلث الشَمالي)

وَهل ما زالَ هُناكَ مُتَّسَعٌ للأنبياء.

أيّهُا العُروبِيُّ المُسَجَّى هُناك، يا نَبِيَّ الرَفضِ السائرِ في لُجّةِ مَعرَكَةِ المَعاني غَيرَ آبِهٍ بِضَوضائِهم وَمن حَولكَ سَنابكَ خُيولِهِم تَرسُمُ مَلامِحَ طَريقٍ آخر لِلمَعركة، هُناكَ حَيثُ "الفَلاشا يَحرثونَ الأرض" وَأبناءُ عُمومَتِهم يَروونَ زَرعَهُم عِندَ مَصَبّ الوادي الذي ما عادَ يَتَّسِعُ حَتَى لِحِجارَتِهِ، هُناكَ وَهُنا أنتَ تَحمِلُ بارودَةَ الفِكرَة وَوَجَعَ الالتزام يُلازِمُ مِدادَ دَواتِكْ، وَفي سَماءِ المُغتَصَبَةِ تَحومُ ألوانُ قَوس قُزح مِن غَيرِ أوان فَتكفُرُ بالألوانِ وَلا تُبهِرُكَ عَناوينُ الساسَة ولا فَذلَكاتُ القادَة ولا حَمَلَةُ ال"دالِ" في صَدارَةِ صَفَحاتِ الجَرائِد الصَفراء وَالحَمراء والخَضراء مِنها، وَلا هَروَلَةُ المُطَبّلينَ "لِعُيونِ ريتا" فَأنتَ الوَفِيُّ لِوَصِيّةِ حَنظلَة - وإنْ أنكَرتَ على نَفسِكَ ذلك- فَكانَ يَطيرُ صَوابُكَ عِندَ ذِكرِ الخُطوط الحَمراء وَما عَرفتَ غيرَ خَطٍ أحمَرَ واحِدٍ فَكانَ لَك صَولَةٌ وَجَولَةٌ مَع كُلِّ مَن تَجاوَزَ المَدَى وَلامَسِ هَذا الخَط مِن أكبَرِ رَأسٍ حَتى أخمَصِ قَدَمٍ هَروَلَتْ أو لِسانٍ نَظَّرَ لِواقِعِ مَرحَلَةٍ تَقتَطِعُ مِنَ الفِكرَةِ وَتَرًا وَراحَتْ تَسبَحُ مَعَ التَيارِ أو تُسَبِّحُ باسمِ فِدائِيٍّ انكَسَرَ وَكُلّ يَدٍ راحَتْ تُوَزّعُ حَلوَى الفَرح عَلى بَراءَةِ المُغتَصِبِ مِن دَمٍ سالَ بَينَ فَخذَيّ نَهرٍ وَبَحرْ.

وَتَتَوالَى المَشاهِدُ هُناكَ وَتَقِفُ أنتَ لا لِتَراها فَقَط، إنَّمَا لِتُنهي عَن فَحشائِها، رَشُّ الأَرُزِّ عَلى جُندِ الهَزيمَة، أكُف تَتَلاطَمُ في الهَواءِ تَوَدُّدٌ، جُندِيٌّ أثيوبِيّ وآخر قِرغيزِيّ، آخر عِراقِيّ أو يَمَنِيّ من خَيبرِ العَرَبْ وَرَجُلٌ من مِيعار وَطِفلٌ جَدَّهُ الشَهيد مِن بيسان وَصَبِيّة حَبيبُها في سِجنِ نَفحَة وَصُنُوّها في مقبَرةِ الأرقام وأرمَلةٌ مَع وَقفِ التَنفيذِ لأنَّ زَوجَها ما زالَ مَطلوبًا على قائِمةِ "الخارجينَ عن الشَرعيّة" وسائقٌ من صَفَد لا يُريدُ أن يَعود وَبَعضُ الوَردِ بَينَهُمُ وَما كانَ يَنقُصُ المَشهَدُ غَيرَ قَليلٍ مِنَ العِناقِ لِأنَّ الكَفَ الَّتي كانَتْ تُلاطِمُ المَخرَز أُرِيدَ لَها أن تُصافِحَهُ وَلكِنَّها أَبَتْ، وَأبَيْتَ أنتَ أن تُصافِحَ المَرحَلَة، أتَذكُرُ حينَ غادَرتَ عَلى غَضَبٍ قاعَةَ تَأبينِ واحِدٍ مِمَّنْ رَحَلوا قابِضينَ عَلى الجَمرِ، يَومَها عَرَفتُكَ أكثَرْ، عَرفتُكَ مِنَ المَوقِفْ، أوَلَيسَت المقاومة موقف، لَم تَأبَه لِلحُضور الإعلامي وَلا لِبَريقِ المايكروفون وَلا لِلتَصفيقِ، قُلتَ مَا عِندَكَ وانسَحَبتَ إلى خُلوَةٍ مَع الريحِ لِتَكسِرَ المَرحَلَةَ وَلو بِالحبرِ كَالرَصاص. أَلستَ مَن قالَ: "الرافضونَ هُمّ بِالضَرورَةِ مَجانين، وَلكِنَّهُم لَيسوا أغبِياء" وَكُنتَ مُدافِعًا عَن حَقِّكَ/حَقّنا في الجُنونِ، جُنونُ الفِكرَةِ وَقَساوَةُ السَيرِ عَلى دَربِها في مُواجَهَةِ مَن يَحلُمُ بِواقِعِيَّةٍ تَقتَطِعُ مِن جَسَدِ الأمِ حَيِّزًا لِيَعبَثَ بِها الغُرَباءْ، وَأيُّ واقِعِيّةٍ هَذِه الّتي تَقبَلُ أن نَبقَى نَحيا في الغِيابِ وَيَموتُ العاشِقينَ "عَلى خَشَبِ المَنافي"، واقِعيّة أخَذَتْ عَلَينا حُجَّة أنَّنا نَرفُضَ أن نَقبَلَ بِتَغيّير المَعاني والمُصطَلحاتْ، فَالاستِعمار والاستيطان الكولونيالي لا يُساوي حَق تَقرير المَصير وَاستقلالَهُم نَكبَةُ شَعبٍ وانتِزاعُهُم مِن هُنا هو الحَل حَتى "يَعودُ التُرابُ إلى التُرابِ".

 إنَّهُ حًقًا زَمنُ الزَناطِم، فالزنا السِياسي قَد طَمَّ وَعمَّ، والضَحيّة تَستَقبلُ الجَلادَ بالأهازيج، والمُصالحة بينَ جناحَيّ الوَطن المَزعوم في صُلبِها قَطعُ الرأسِ وَبترُ الأطراف وانتِزاعُ القَلب من مكانهِ والمُهم أن نُحافِظَ على الجناحَينِ، نَطيرُ أولا نَطير نَأكُلَ الوَليمَة نَمسَحُ بقايا اللّبن عن شوارِبنا نُغطي الرأسَ بالعَباءةِ ولا ضَير إن كُشفَت المُؤخّرَة فَالعَدو لَم يَعُد من ورائِنا، بَل باتَ في الَلبنِ والمَناسِف، كيفَ لا وهوَ الشَقيق ابنُ الشَقيق.

 "ألمَشهَدُ هُناكْ لِمَن يُريدُ أن يَراه"..

 كَيفَ لا، كَيفَ لا نَرى ما تَرى وَلا نَدري عَن مَعنى صَيّحَةٍ في الناس: "لا تَنصِتوا لِلشاعِرِ ألأعمَى" وَكانَتْ صَيحَةٌ في زَمَنِ الحَجيجِ إلى قَصرِ قَيصَر فَآثَرتَ الصِدام كَنَوعٍ من المُواجهَة، شَكلٌ مِن أشكال المُقاوَمَة وَحاجَجْتَ أدَبَ التَدَنّي وَعَرّيتَ تَدَني الأدَب والسِياسَة وَالثَقافَة فَأعمَلتَ مِعوَلَكَ وَكَشَفتَ المَستور مِن دونِ حِسابٍ لِكَبيرٍ يَلتَفُ مِن حَولِهِ الصِغار، حتى وَصَلنا إلى القَولِ الفَصل في قَولكَ، لَم يَعُد يَنقُصُ المَشهَدُ اليَوم سُوى "تَعيينُ مُستَشارٍ عَرَبِيٍّ لِشُؤونِ المُقاوَمَة في مَكتَبِ رَئيسِ الحُكومَةِ" كَما ذَهَبَ بِكَ الغَضبُ المَجنون ذاتَ لَوثَةِ ثَقافَة قَبلَ نَكسَةِ مَدريد وَنَكبَةِ أوسلو.

 أيُّها العُروبِيّ:

يا نَبِيّ الرَفضِ، مَعَكَ نُرَدِّد وَمِن وَرائِك: "فَنَحنُ نُريدُ زَمَنًا صَعبًا كَما أنتَ لأنَّ هذهِ أمانَةٌ لِلآخَرين في أعناقِنا، يَجِبُ أن نَحمِلَها حَتى لَو كانَت أثقَلَ مِن الجِبالِ"، فعلًا هِيَ أثقلُ من الجِبالِ حينَ تُصبِحُ المُقاوَمَةُ "عَمل عَبَثي" عِندَ أبناءِ جِلدَتِنا وعلى لِسانِ "قائِدِ ثَورَةِ التَحرير والعَودة" تَحرير غَزة من براثِنِ الكتائِب على مُختلفِ مُسَمّياتها، والعَودة لِرأسِ المال والمُنسّق الأمني وَدايتون وَكلُّ حَديثٍ عَن رَفضِ التَطبيعِ فيهِ مُزاوَدَة، وَمَن باعوا الفِكرَة وَنَظَّروا لِلتَهافُتِ غَدَوا بِعُرفِ التَلاعُب بِالمَعاني "مُقَاوِمين"، وَتَوالَت النُصوص بَينَ طَيّاتِها تَنسابُ فِكرَة النُكوصِ كَالسُمِّ في العَسل وَبَعضُهُم يَقولُ لَكَ: لا عَلاقَة لِلّنصِ بِالشُخوصِ.

يا صاحبَ الرِسالَة:

لكَ هُناكَ وَهُنا أتباعٌ في الفِكرَةِ، تَلاميذٌ في الجُنونِ، جَيشٌ منَ المَجانينِ، قَد يَكونونَ بالملايين أو بالآلاف أو هُم بِعَدَدِ أصابِعِ اليَد الواحدَة، لكِنَّهُم مَوجودونَ وَيَرفُضونَ التَلوّثَ بِالمَرحَلَةِ كَما لَم تَنطَلِ عَليكَ فِكرَة التَلوّث هذه بمالها وإعلامها وبريقها ومنابرها وَلَنا عَليكَ مأخذَ عَدمِ مُحارَبتها وأنتَ القادرُ على ذلك، آثَرتَ الصَمت حينَها فيما يَخُصُّ نَصيبنا نحنُ من هذه الهَروَلَة، أخطَأتَ بقليلٍ منَ الصَمتِ والانسحاب غَير المُبَرّر أمامَ صَلفِ حِراكٍ أرادَ لَنا أن نَذهبَ إلى الصَدارة بِثَمنٍ مَعروفٍ مُسبَقًا، وَسَيبقى هؤلاء التَلاميذ يصونونَ إرثَ بَواسِل المَرحَلَة وَلَو بِالكَلمَة ويبنونَ المَدرسَة على غرارِ تَجارِبِ مَن مَضوا وأضاءوا.

وَكُن عَلى ثِقَة، كَما كُنتَ دائِمًا حَتى عِندَما قُلتَ: "لَقَد فَقَدنا الفُرصَة النِهائِيَّة" بِأنَّ المُعجِزات سَوفَ تُكَذّبُكَ وَسَيكونُ لَنا مَشروعًا نَنْطَلِقُ

بِهِ –كَما تَمَنّيتَ- "مَشروع عَربي حَضاري تَحتَ لِواء قَومي عُروبي إنساني".. هيَ أحلامٌ بُذورُها تَتَفَتّقُ بِداياتُها في رُبوعِ وَطَنٍ كَبيرٍ مُمَزّقٍ بِفِعلِ خَريفٍ عَرَبيّ صُهيو أمريكي.

وَبِاسمِ مَن أسمَيّتَهُم أنا جَيشُ المَجانين وَأتباعُ الفِكرَةِ وَتلاميذُها أسمَحُ لِنَفسي بِرِثائِكَ بِبَيْتَينِ مِنَ الشِعرِ كانا عَهدًا مِنكَ لِلسَيرِ عَلى الدَربِ الوَعرِ الذي سارَ عَليهِ وَقَضَى الراحِل الشاعِر الشَهيد راشد حسين:

جَدَّدتُ عَهدَكَ وَالعُهودُ وَفاءُ  

إنَّا عَلى دَربِ الكِفاحِ سَواءُ

نَمْ في ثَراكَ فَلَستَ أوّلَ عاشِقٍ

 قَتَلَتهُ أعيُنُ أرضِهِ النَجلاءُ

معا على الدرب

محمد كناعنة أبو أسعد

عرابة البَطوف / الجَليل – فلسطين

14/10/2017