Menu

بعد قرن من النضال… نحو انطلاقة متجددة للأمل الفلسطيني

خالد بركات

100 عام

«إنّ النضال ضد الإمبريالية والمشروع الصهيوني قد يستمر مئة عام وأكثر، فعلى قصيريّ النفس التنحي جانباً»
جورج حبش

أين تقف حركة المقاومة الفلسطينية اليوم بعد تجربة تاريخيّة طويلة تجاوزت القرن من النضال الوطنيّ والقوميّ والأممي التحرريّ في مواجهة الإستعمار الإستيطاني الأجنبي، ونحو 70 عاماً من أجل تحقيق العودة والتحرير الناجز؟

قبل محاولة الإجابة على هذا السؤال يجب الإعتراف أولاً ان ما عُرف يوما بـ «حركة المقاومة الفلسطينية» أو «الحركة الوطنية الفلسطينية»، تعيش هذه الفترة أزمة مركبة وشاملة وبنيوية عميقة تطال مختلف الجوانب السياسية والتنظيمية والفكرية والعسكرية وغيرها، وأن تجاوز مثل هذه الأزمة التاريخية في حياة الشعوب وحركات التحرر يستلزم الدخول في حالة من المخاض العسير والمؤلم لتوليد الجديد الحيّ والنافع من القديم البالي والراحل.

ولا يمكن الإدعاء اليوم بوجود جبهة وطنية موحدة تدير شؤون المقاومة الفلسطينية، ومتجانسة بالمعنى الوطني والسياسي. فالمسالة هنا ليست مرتبطة بمواقف «الفصائل» التي تلاشى أكثرها، ولا بغياب الهيئات والقوى والأدوات اللازمة أو الرغبة وحسب، بل قبل كل شيء في الواقع العربي والدولي وشروطه من جهة، وفي غياب الارادة السياسية والرؤية السياسية، وفي عدم وجود الحوامل الكفاحية الفلسطينية المفترضة التي يمكنها أن تقودنا الى تحقيق هذا الهدف: بناء الجبهة الوطنية الموحدة من خلال استعادة حركة المقاومة الفلسطينية، واعادة الاعتبار لأهدافها الجوهرية المعروفة والجامعة لكل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات.

هناك الأسباب الجوهرية الداخلية (العامل الذاتي الفلسطيني) والتي تحول دون الوصول الى مثل هذه الجبهة للمقاومة الفلسطينية وتجديدها، هذه العقبات والتحديات الداخلية، سنأتي عليها لاحقاً، يقف في مقدمها النهج السياسي المهيمن في منظمة التحرير الفلسطينية الذي وصل الى هزيمة تاريخية محققة في العام 1982 بعد اجتياح بيروت، والى خيانة علانية للتطلعات والحقوق الوطنية المشروعة في العام 1993 مع توقيع «اتفاقيات أوسلو» او ما عرف بوثيقة اعلان المبادئ في العاصمة الاميركية واشنطن.

إن قيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» اليوم إذ تملك «مفاتيح» القرار السياسيّ، تمثل في الشكل والجوهر مصالح الطبقة البرجوازية الفلسطينية الكبرى، المرتبطة مع مصالح وكيان الإحتلال الصهيوني في الأرض المحتلة بالتعاون الوثيق مع نظامي كامب ديفيد ووادي عربة ومشيخات الخليج التابعة. وتشكل الامبريالية الأميركية مرجعية لكل هؤلاء فيما يحتل الكيان موقع المقرر المحلي. لقد انتقلت قيادة المنظمة، حكما، الى موقع الخصم السياسي للشعب الفلسطيني واصبحت هي العقبة التي تحول دون تقدم مشروعه التحرري والانساني.

ولم تعد «منظمة التحرير الفلسطينية» تمثل مصالح وحقوق كل طبقات الشعب الفلسطيني وفئاته الاجتماعية وتجمعاته الشعبية وتياراته الأساسية، حتى لو ادعت عكس ذلك، أو اغتصبت بالقوة «وحدانية وشرعية التمثيل الفلسطيني» سواء بالقمع أو بالإتكاء على اعتراف معسكر بها. فهذا التمثيل لا يقوم على شرعية شعبية حرة، او رضى وتوافق فلسطيني حقيقي، فضلاً عن أنه يقوم على أسس وطنيّة وديمقراطيّة!

ولا شك في أن ما يسمى «المصالحة الفلسطينية» بين حركتي فتح وحماس، إنما يكشف عن طبيعة الأزمة المشار أليها أعلاه، أكثر مما يخفيها ويسترها، وأكثر مما يقدم الحلول أو الخطوات العملية للسير على طريق تجاوزها. إن الوحدة الوطنية لم تكن موجودة على أرض الواقع، إلا في فترات زمنية قصيرة، وقبل وجود حركة «حماس» في المشهد السياسي الوطني المقاوم. هذه المصالحة المقترحة، برعاية نظام كامب ديفيد، هي الحل للأزمة المتفاقمة التي يعاني منها يمين فلسطيني فقد شرعيته تماماً وليس حلاً للازمة الوطنية العامة. أي أنها حل لأزمة البرجوازية الفلسطينية (الكومبرادور) وليس لمصلحة الطبقات الشعبية المفقرة، صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والتحرير، ان اكثر ما يجري تقديمه لهذه الطبقات المستغلة، هو الوعد بوظيفة وفتح معبر رفح!

وعلى الوتيرة نفسها، فإن ما يسمى أيضاً بالحوار الوطني الفلسطيني، لا يقوم على أساس اعادة بناء مداميك حركة المقاومة الفلسطينية بقدر ما هو حوار شكلي وبائس، ينزع الى تقاسم وادارة المصالح بين قوى اليمين الفلسطيني بشقيه الليبرالي والديني، ومن اجل تقاسم المؤسسة الفلسطينية (السلطة + المنظمة)، ونيل اعتراف دول الاقليم، ورضى والولايات المتحدة على وجه التحديد.

واذ تعتبر حركة «فتح» أن «منظمة التحرير الفلسطينية» بمثابة مزرعتها وساحتها الخاصة، وترفض أن يكون لـ «حماس» و«الجهاد» وغيرهما من القوى، أية مشاركة حقيقية فيها… إلا وفق مقاسها، فإنها في الوقت ذاته تعمد وبإستمرار إلى تهميش دور القوى الجذرية داخل المنظمة نفسها واقصائه، خصوصاً « الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين »، فتحرمها من المشاركة الحقيقية في صنع القرار، بل وتحاصرها وتعاقبها في بعض الأحيان وتعتدي عليها بالتواطئ مع العدو نفسه.

ولأنه لم تعد هناك مقاومة عسكرية منظمة وفاعلة (العمل الفدائي)، بمعناه الواسع خارج فلسطين المحتلة، وعبر الحدود مع فلسطين، ولأن نار البندقية الفلسطينية خمدت طوال ربع قرن تقريباً، ولم يعد الكفاح المسلح هو الشكل الرئيسي السائد وجرى تفريغ المؤسسات الشعبية ومصادرتها، فإن كل هذه الأسباب صادرت دور فلسطينيي الشتات، وهمّشت حضورهم، وانتقصت من حقهم الطبيعي ومشاركتهم الفعلية في مشروع العودة والتحرير.

اليوم تعيش التجمعّات الشعّبية الفلسطينية الكبرى في ما يشبه الجزر المعزولة المحاصرة ، سواء داخل فلسطين المحتلة او في المنافي والشتات. فما هو الإطار الوطني والسياسي الذي يمكنه أن يجمع بين فلسطينيي الداخل وبين الشعب الفلسطيني في اي مكان ؟ بين شعبنا في قطاع غزة وبين اي تجمع فلسطيني آخر؟ بين شعبنا في لبنان وبين… إلخ.

إن الشعب الفلسطيني يختزن تجربة تاريخية كفاحيّة غنية، عمرها من عمر «وعد بلفور». كما يملك طاقات بشرية وعلمية ومالية هائلة تؤهله لتجاوز الحالة الراهنة وإعادة بناء حركته التحررية من جديد. أما شرط تحقق هذا الحلم، فهو أن تكون الصدارة للشباب الفلسطيني الثوري من الجنسين، ليقود الأكثرية الشعبية القادرة على إحداث النقلة الثورية المطلوبة في الواقع الفلسطيني.

منذ «وعد بلفور»، وهذا الشعب الفلسطيني على موعد كل عشرين أو ثلاثين عاماً تقريباً مع تجديد ثورته المسلحة والشعبية، واستئناف نضاله الوطني. وقد آن له أن يطوي مرحلة ويستقبل أخرى، ويستمر في سعيه المحموم من أجل خلاصه الجماعي من الاحتلال والمنافي. وكل الظروف مؤاتية الآن لانطلاقة متجددة للأمل الفلسطيني في التقدم واستعادة المبادرة الشعبية من جديد.

إن الوصفة «السحرية» الوحيدة التي يمكن ان تخرجنا من هدا النفق الطويل، هي بناء «الجبهة الوطنية الفلسطينية الموحدة»، التي تعتمد الكفاح المسلح والعمل الشعبي المقاوم طريقاً رئيسيةً في انجاز مشروع العودة والتحرير. وصولاً الى المجتمع الديمقراطي في فلسطين المحررة، والى الدولة التي ستكون لكل مواطنيها وساكنيها بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والدين واللغة.