Menu

أوروبا ترمي المهاجرين في أحضان العصابات

أديا غيو

رسالة صغيرة بلغتني في تلك الليلة دامت عشرين ثانية ونقلت إلى هاتفي صوت سعد المحبط. «تعاركنا مع أشخاص... هم ربما أفغان. ومجموعتنا تشعر بالتعب. نحتاج إلى أدوية. وبعض الأصدقاء تمس الحاجة إلى نقلهم إلى مستشفيات. إذا في إمكانك المساعدة في مسألة المستشفى... سأرسل لك إحداثيات جي بي سي عن مكاننا»، قال سعد (اسم مستعار) الشاب السوري وجهه بشوش. ويتابع فريق المراسلين رحلة سعد ورفاقه منذ وصوله قبل حوالى أسبوعين إلى جزيرة كوس اليونانية. وتعرض سعد وأصدقاؤه لهجوم حين كانوا يحاولون مغادرة الحدود اليونانية إلى مقدونيا. والهاتف شد عرى الاتصال بيننا، وتعلقت به في تلك الليلة. فهو صلة سعد الوحيدة بالعالم وبالصحافيين. ودامت مكالمتنا 40 دقيقة سعيت فيها إلى إقناعه بأن الشرطة اليونانية التي ترافقنا لن تؤذيه ورفاقه، ولن تعيدهم إلى سورية. وفي قلب الغابة، مشينا على تربة وحلية لم تمتص بعد مياه الأمطار التي انهمرت في النهار، والتقينا مجموعة سعد في الجهة اليونانية من الحدود. وخرج الشباب الواحد تلو الآخر من مخابئهم، وكانت الدماء تغطي وجوههم، وبعضهم كان عاجزاً عن المشي ونظرته هائمة. وفي المركز الصحي القريب، الواقع في بلدة بوليكاسترو على بعد 30 كلم، سعت الممرضات إلى مساعدة الجرحى، ولكن إمكاناتهن الطبية قليلة، وليس في اليد حيلة. فالأزمة الاقتصادية وتقليص الإنفاق استنفدا قدرات الإغاثة والاستشفاء. «نستخدم في عملية الإسعاف الطارئة هذه آخر القفازات المعقمة وآخر الضمادات وآخر قطر ة من سائل صور الأشعة. ولكن ماذا عن الغد؟ ماذا سنفعل حين تصل موجة جديدة من الضحايا؟، تقول والقلق يعتصر صوتها إيفي بودبارا، نائب مدير المركز الصحي.

شيئاً فشيئاً، يتخفف الشباب من خوفهم، فيروَون ما حصل معهم: «مضى على مشينا في مقدونيا ساعة ونصف الساعة حين بدأ 150 شخصاً، من الأفغان (المافيا تجند مهاجرين أفغان معدمين وتوكل إليهم عمليات الضرب والسلب) يرشقوننا بالحجارة ويوجهون ضربات العصي إلينا. ودافعنا عن أنفسنا طوال ساعة»، يقول سعد أثناء تخييط الممرضة جرحاً في رأسه.

 

هجمات يومية

على بعد 15 متراً من مكان النزاع، كانت الشرطة المقدونية تسلط ضوء مصابيح مركباتها وتنير درب العصابة التي كانت تسطو على أموال مجموعة المهاجرين وأحذيتهم وبعض هواتفهم الخليوية، قبل أن تعيدهم إلى ما وراء الحدود اليونانية. «إفادات الشهود العيان، عن هجمات تشترك الشرطة في دول الجوار مع العصابات في تنظيمها، تتكاثر. ولكنها المرة الأولى التي يملك فيها الضحايا جرأة التبليغ عما حصل والادعاء»، يقول كريستوس بابابوستولو، ضابط الشرطة في إيدوميني، القرية الأخيرة قبل الحدود المقدونية. «مثل هذه الهجمات يقع يومياً»، يقول فاسيلي تسارتسانيس، متطوع ناشط في إيدوميني يسعى منذ أكثر من 8 أشهر إلى إبلاغ أوروبا بالانتهاكات التي تجري في وقت تعم مقدونيا اللامبالاة إزاء المهاجرين ومصيرهم. «أكثر من 15 مجموعة إجرامية تسعى منذ أشهر إلى الإمساك بمقاليد تجارة تهريب اللاجئين الذين يضطرون إلى المرور عبر مقدونيا لبلوغ دول شمال أوروبا»، يقول تسارتسانيس. وفي الأسابيع الأخيرة، تدهورت الأمور: «العصابات الناطقة بالألبانية استقرت في مقدونيا، وهي الأكثر عنفاً في العالم وتسعى إلى السيطرة على المنطقة الحدودية».

ورافقتنا مجموعة من المهاجرين إلى نقطة التقاء في الحقول المقدونية، على بعد أمتار قليلة من الحدود اليونانية. ولكن من العسير معرفة متى عبرنا الحدود اليونانية إلى الأراضي المقدونية. فالأراضي متداخلة. والحدود مشرعة من غير حاجز أو علامة مادية. وهنا، في كوخ متداعٍ يحتمي من سيل المطر أكثر من 300 شخص من الرجال والنساء والأطفال وهم من الأفغان والسوريين والعراقيين والباكستانيين. وينظم «عبّارون» (منظمو عمليات العبور والتهريب) متواضعو المكانة، الحياة في هذا المخيم المرتجل. وغالباً ما يجند المهربون أحد المهاجرين لقاء بدل مالي، ويوكلون إليه تنظيم عملية عبور غيره من المهاجرين مشياً على الأقدام.

وعلى رغم أن الريبة والحذر لا يفارقان هؤلاء «العبارين»، قبلوا الدردشة معنا من غير التقاط صورهم، وسألناهم إذا سبق لألبانيين أن اتصلوا بهم. «قبل 3 أيام، جاءت مجموعة رجال ناطقة بالألبانية إلى المخيم وهي تحمل أسلحة كلاشنيكوف لتنظيفها»، يقول يانيس (اسم مستعار) والتردد بادٍ عليه. «تنظيفها، ماذا تقصد؟»، سألنا. «خيرونا بين العمل لمصلحتهم أو التوقيف والتعرض للضرب. والمشكلة أن السلافيين- المقدونيين يضغطون علينا للعمل لمصلحتهم كذلك»، أجاب يانيس. وما يقوله هو مؤشر من المؤشرات إلى حرب بين عصابات المنطقة. وقابلنا عائلة منهكة. فمعظم الأطفال أصابهم المرض والعياء إثر المشي 15 إلى 20 ساعة من تسالونيكي، المدينة الكبيرة في أقصى اليونان، إلى الحدود مع مقدونيا. «الأوراق التي منحت لنا على الجزيرة تحظر علينا السفر إلى محافظة كيلكيس على مقربة من الحدود، يقول جواد، شاب أفغاني في الخامسة والعشرين يسلك منذ شهرين طريق الهجرة مع زوجته وأهله. لذا، لا يسعه أو عائلته ركوب باص أو سيارة أجرة، وعليهم المشي 75 كلم. وعمليات التهريب ينظمها سائقو سيارات أجرة أو يونانيون عاديون، لقاء 500 يورو لقاء السفر بين تسالونيكي والبلدات القريبة من إيدوميني. اقترب منا فتى صغير اسمه أحمد سكيم في الثامنة من عمره بخطوات ثابتة، وطلب منا بالإنكليزية مياهاً وثياباً. فهو كان شبه عار. وروى لنا كيف انتقل وعائلته من تركيا إلى بلغاريا (المجر) حيث انهالت عليهم الشرطة بالضرب وطردتهم إلى اليونان، إثر تجريدهم من ثيابهم.

واقترح علينا أن نلقاه على حدود الغابة في اليوم التالي وأن نجلب معنا أدوية لأخته الصغيرة المريضة. «الطريق تغير أطفالنا. هي تحملهم على القسوة وتنفخ فيهم القوة»، يقول جواد الذي كان شاهداً على الحديث مع الفتى. والناس في هذا المخيم لجأوا إلى خدمات عبّار. فهم يعرفون المخاطر التي قد تعترض طريقهم في مقدونيا. والشبكات الاجتماعية الأفغانية والسورية تحفل بشهادات مجموعات مثل مجموعة سعد وأصدقائه حاولت عبور الحدود بمفردها، وعانت ويلات العصابات: الملاحقة والضرب والطرد.

والرحلة الآمنة باهـــظة الكلفة: 800 يورو للشخص الواحد للعبور مشياً على الأقدام، 1700 يورو للسفر في سيارة إلى قرية لوجاني في شمال مقدونيا على الحدود مع صربيا. وهذه البلدة تحولت مركز عمليات التهريب. وكثر قالوا ان العصابات نقلتهم في قطارات مخصصة لشحن السلع في ظروف صحية مريعة. وثمة ثلاثة طرق هجرة تفضي إلى لوجاني: واحدة انطلاقاً من اليونان، الثانية من بلغاريا والثالثة من كوسوفو. وأرباح عمليات التهريب قدرها ملايين اليورو.

 

نقلاً عن :الحياة