Menu

بلير والمهمة الفاشلة

د.علي الجرباوي

وأخيراً، وبعد طول تلكؤ، أعلن توني بلير عزمه ترك موقعه مبعوثاً للجنة الرباعية الدولية لعملية السلام بالشرق الأوسط. يغادر بلير المشهد الذي تمدّد لثماني سنوات دون أن يحقق نتائج تُذكر، هذا إذا استثنينا بعض الصغائر، كالمساعدة في إعادة فتح معبرٍ أغلقه الإسرائيليون خلال فترة الانتفاضة الثانية، أو إزالة حاجز عسكري احتلالي كان قد وُضع خلال تلك الفترة. عشرات الملايين من الدولارات المحسوبة على الشعب الفلسطيني كمساعدةٍ أنفقتها الرباعية الدولية على ممثلها، وشملت إلى جانب مصاريفه تكاليف المكتب الفاره، ورواتب الطاقم الضخم، ومصاريف الإقامة المُكلفة والسفريات المستمرة. أما حصيلة كل ذلك فيمكن إيجازها بالبلاغة الواجبة: «لا شيء».
لم يحقق بلير شيئاً، ولكنه مع ذلك استمر لمدة ثماني سنوات في منصب ذي مُسمّى رفيع. وقد يكون ذلك مثالاً ممتازاً يمكن اقتباسه وتدريسه على إمكانية وجود مواقع ذات مُسمّيات وظيفية مُبهرة، ولكنها مفرغةٌ تماماً من أي مضمون فعلي. المهم هنا بالنسبة لحامل المُسمّى هو المُسمّى ذاته، وليس مضامينه. وقد يكون مفيداً استقصاء الأسباب الكامنة وراء إخفاق بلير، حامل المُسمّى الطويل والمبهر لفترة طويلة، من تحقيق نتائج تذكر.
يمكن التفكير بخمسة أسباب لهذا الإخفاق. هذه الأسباب متداخلة مع بعضها، وعلى بعضها البعض. وهي تُشكّل مجتمعةً، وبمجملها، تفسير، وليس تبرير، إخفاق بلير الشديد في مهمته.
السبب الأول يعود إلى عدم فاعلية الجهة التي أرسلته مبعوثاً. فاللجنة الرباعية تشكّلت كإطار ليتابع عملية التسوية السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل، يتكون من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. ولكن هذا الإطار لم يُمنح، ولم يتمكن، منذ بداية تشكيله من الاستحواذ على القرار المتعلق بملف عملية السلام. فهذا الملف بقي حكراً للولايات المتحدة، بينما بقيت الرباعية الدولية رهينة لدى المهيمن على الملف، تعقد اجتماعات عند اللزوم، وتصدر بيانات عند الضرورة. انتفاء فاعلية هذا الإطار تنسحب بالتأكيد على نواتجه. وبالتالي، فإن مبعوث الرباعية يفتقد بالضرورة، مثلها، للفاعلية. فهو لا يمتلك أمام السيطرة الأميركية المباشرة على كامل الملف قوةً كافيةً، أو حتى نفوذاً نافذاً. فزمام المبادرة، والقدرة التأثيرية، ليست عنده.
أما السبب الثاني فهو تحديد اختصاص مبعوث الرباعية في التركيز على تحسين الجانب الاقتصادي والأداء المؤسسي الفلسطيني، استعداداً وتهيئة لإقامة الدولة، ما يعني استثناء الجانب السياسي من هذا الاختصاص. وفي الفصل بين الاقتصادي والسياسي مكمن العّلة ومبعث الفشل. فأساس معالجة ملف الاحتلال هو سياسي، وليس اقتصاديا. والسياسات الاقتصادية أساسها ومنبعها سياسي. لذلك فإن تحسين الاقتصاد الفلسطيني والبنية المؤسسية الفلسطينية يحتاج إلى تغيير في السياسة والسياسات الاحتلالية، كون إسرائيل، كسلطة محتلة، تتحكم بالحياة الفلسطينية من كل جوانبها، وفي كل تفاصيلها. وإذا كان دور مبعوث الرباعية لا يشمل معالجة الأصل (السياسي)، بل يتركز في متابعة الفرع (الاقتصادي)، فإنه لن يتمكن من تحقيق الاختراق المطلوب. 
إن كان أساس السببين الأول والثاني هو الحالة الموضوعية للجنة الرباعية ودورها المُقلصّ، إن لم يكن المُحيّد، فإن شخصية بلير وهدفه من تبوء هذا الموقع يضيفان بُعداً رئيسياً للإخفاق. فبلير سعى لهذا الموقع بعد أن طرده حزبه من زعامته، ومن رئاسته للحكومة البريطانية. وفي أعقاب الانتقادات الهائلة للدور الذي لعبه في شنّ الحرب على العراق، كان يُريد استعادة مكانةٍ له في الساحة الدولية. حاول ترؤس المفوضية الأوروبية ولم يفلح، فاتجه باتجاه اللجنة الرباعية. وساعدته إدارة بوش على تأمين الموقع، اعترافاً وامتناناً لدوره الداعم لشن الحرب على العراق.
لم يكن بلير جاداً، أو مخلصاً، في القيام بمهمته. بل أخذ الموقع وحوّله إلى باب علاقات عامة، يُرمم من خلاله ما علق به من اتهامات، وخصوصاً بشأن دوره في الحرب على العراق. كان بلير منكبّاً أيضاً على جمع الأموال، من خلال ارتباطاته الاستشارية الكثيرة التي أشغلته عن متابعة ما كان يتوجب عليه متابعته كمبعوث للجنة الرباعية. كان يأتي إلى البلاد بشكل متقطع ومتباعد، يُثبت وجوداً، يعقد بعض اللقاءات، يُوزع ابتسامات أمام الكاميرات، ويُعطي تصريحات، ويغادر لأشهر حتى يعود ويُكرّر ما قام به في المرّة السابقة. صحيح أن الظروف الموضوعية لعمله لم تكن مواتية بالكامل، ولكنه لم يبذل أي مجهود لتغيير ذلك وإحداث تأثير إيجابي.
أما السبب الرابع فكان عدم رغبة بلير الواضحة في مواجهة إسرائيل أو إغضابها. فعلاوةً عن كونه مؤيداً تقليدياً لها، فإنه لم يتصرف على الإطلاق بنزاهة في مواجهة سياساتها الاحتلالية المكبّلة لكل مناحي الحياة الفلسطينية. كان ينتقي عباراته فيما يخصّ إسرائيل واحتلالها لتصبح في النهاية بلا معنى، أو جدوى. وكان في مهمته وكأنه يستجدي «العطايا» من سلطة الاحتلال استجداءً. لم يحاول بجدية، ولم يضغط، بل عمل فقط كـ»وسيط»، ينقل المطالب الفلسطينية، ويعود بإجابات الرفض الإسرائيلية. وإذا أعطاه الإسرائيليون بين كل فينة طويلة وأخرى «عطية صغيرة»، كانت تُهوّل وتُعرض وكأنها إنجاز هائل.
وأخيراً، يجب الإقرار بأن الأوضاع الفلسطينية – الإسرائيلية لم تكن خلال فترة طويلة من مرحلة بلير كمبعوث للرباعية الدولية مواتية لإحداث اختراقات أو تقدُم في مسيرة التسوية السياسية. حكومات يمينية في إسرائيل ذات توجهات استيطانية، حروب متتالية على قطاع غزة، انقسام فلسطيني داخلي، وانشغال إقليمي ودولي بمشاغل أخرى. كل ذلك لم يساعد في تهيئة أجواء مواتية للسعي قُدماً في عملية سلام بقيت، ولا تزال، متعثرة. لم ينجح بلير، وكان يعرف أنه لن ينجح، ولكنه مع ذلك لم يستخلص العبر، ولم يواجه، ولم يغادر مبكراً، بل استنزف الموقع حتى النهاية، وتركه ميّتاً لا حياة فيه، ولا إمكانية لبثّ حياة جديدة فيه.
من المفضل نَعْي موقع المبعوث، والأفضل هو نَعْي الرباعية الدولية. 


نقلاً عن: الأيام