Menu

باسل الأعرج... أجاب على أسئلة الواقع

محمد العبد الله

"إنني أدعوكم للإنصات إلى صوت الواجب، صوت الشرف، صوت الطبيعة، صوت بلادنا المهددة. دعونا نشكل جسداً واحداً، وعلى قلب رجل واحد، لندافع عن بلادنا وبيوتنا ومزارعنا وحرياتنا وقبور آبائنا. هيا أسرعوا قبل أن تجدوا أنفسكم عزلاً منفردين، تحت رحمة عدو لا يرحم".

من خطبة زعيم المقاومة الهندية «تِكومْسِه» في أيلول/ سبتمبر 1811 "كتاب دولة فلسطينية للهنود الحمر – تأليف الدكتور منير العكش–".

فجر السادس من شهر آذار/ مارس 2017 بادر مُطارد فلسطيني لإطلاق النار على عناصر وحدة "يمام" الخاصة، التي طوقت المكان الذي يختفي به منذ عدة أشهر في مدينة البيرة بالضفة الفلسطينية المستباحة، بهدف إعدام/ تصفية "باسل الأعرج". قاوم "المطلوب رقم 1" المتحصن في سدة/ سقيفة المنزل، ببسالة ثورية – له من اسمه نصيب– حتى استشهد بعد أن نفذت ذخيرة بندقيته ولم يرفع الراية البيضاء كما قال شقيقه في نعيه: "لم تُسَلم لهم، ومثلك لا يعرف التسليم. اخترت أن تكون مقاوماً وأن تموت شهيداً مقبلاً مشتبكاً لا خانعاً".

لم تكن وحدات القتل الفاشية وأجهزة استخبارات المحتلين هي وحدها التي تبحث عن باسل، بل كانت أيضاً، أجهزة التنسيق الأمني المُدَنس. خاصة، وأن باسل لم يكن "شخصاً" عادياً، فقد عرفته المظاهرات الصاخبة في ميادين مدينة رام الله، احتجاجاً على السياسات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لسلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود. قاوم مع رفيقاته ورفاقه كل النتائج الكارثية ﻟ"اتفاق أوسلو" على الأرض، وتأثيراتها في العقل المجتمعي. وترجمة لذلك، قاد مع مجموعة من الشباب والصبايا في تموز/ يوليو عام 2012 مظاهرات الرفض لدعوة مجرم الحرب "شاؤول موفاز" لزيارة رام الله، واستطاعوا، بوضوح موقفهم وصلابة إرادتهم واتساع التضامن الشعبي معهم، منع القاتل من القدوم، بعد أن تعرضوا للضرب والقمع على يد أجهزة أمن السلطة. في حزيران/ يونيو 2013 شهدت مدينة رام الله مظاهرة صاخبة للتنديد بإعلان السلطة توجهها للمفاوضات بعد 3 أعوام على توقفها. لم تسلم تلك الأجساد المفعمة بحب الوطن والشعب من القمع والضرب بالهراوات التي أصابت إحداها رأس باسل بجروح عميقة مما تطلب علاجه بسبع قطب.

لم تكن شوارع المدن هي المجال الحيوي للتحرك الشبابي الذي يكون باسل في مقدمته، بل إنه جال في قرى وجبال ووديان وسهول الوطن، باحثاً في تربتها وصخورها وكهوفها عن تاريخ الناس وعلاقتهم بالأرض، وعن كل فدائي قاتل واختفى بعيداً عن عيون المخبرين والعملاء والمحتلين من أجل الانطلاق لجولة جديدة من القتال، ثم استشهد. كان باسل يستلهم من دروس كل التجارب في نقاشاته العديدة مع الفلاحين في تلك المناطق، تقديم النماذج المضيئة في تاريخ الشعب، بهدف ربط الماضي بالحاضر من أجل صياغة المستقبل: التحرر من الغزاة المحتلين. وقد تعرض باسل واثنان من رفاقه أثناء إحدى الجولات الميدانية (آذار/ مارس 2016) للاعتقال على يد عناصر التنسيق الأمني التي وسعت حملة الاعتقال لتشمل ثلاثة آخرين من الناشطين. في أثناء التحقيق تعرض الشباب لأشد صنوف التعذيب، حتى أن قلب باسل توقف عن النبض ثلاث مرات، كما قالت والدة باسل بالصوت والصورة. وقد اضطرت سلطة رام الله بعد عدة أشهر لإطلاق سراح الموقوفين الستة بعد أن خاضوا إضراباً عن الطعام، واستطاعوا بإرادتهم الصلبة هزيمة جلاديهم، مما أطلق حملة شعبية واسعة وضاغطة، أثمرت جميعها عن إطلاق سراحهم.

بعد ذلك، أخذ الباسل قراره، توارى عن الأنظار، بعد أن اعتقل العدو بعضاً من رفاقه. وتنقل متخفياً تحت اسم مستعار، في حركة حذرة، لمتابعة تواصله مع الحلقة الضيقة التي تحيط به والتي شَكلت مفاتيح التواصل مع الحراك الشبابي. اختفى، من أجل أن يستعد ويتحضر للساعة الحاسمة والفاصلة. جَهَز المكان بضرورات الحياة البشرية من طعام وماء، ومن غذاء العقل: الكتب. خبأ السلاح والطلقات وأصبح بكامل جهوزيته. استطاع باسل بعد كل تلك التجارب والدروس أن يصل إلى الإجابة على كل تلك الأسئلة الكبرى المرتبطة بالوطن والتحرر من الغزاة المحتلين ومن كل مظاهر التخلف والقهر والزيف والتضليل التي روج لها صانعو كارثة اتفاق إعلان المبادئ "اتفاق أوسلو".

"عِش نيصاً وقاتل كالبرغوث" كما كتب عنواناً لإحدى مقالاته، وقد جسدها على أرض الواقع. ارتقى شهيداً بعد أن تطرز جثمانه بأوسمة الشجاعة والبطولة التي ثبتتها اثنان وعشرون طلقة من بنادق الغزاة القتلة الذين صادروا الجسد واحتفظوا به في الثلاجة لعشرة أيام. في السابع عشر من آذار/ مارس تم تشيعه بجنازة جماهيرية حاشدة في قريته "الولجة" في تحد لسلطات الاحتلال، ليُزف الباسل في عرس جماهيري إلى حبيبته: تراب الأرض الفلسطينية التي افتداها بدمه، ليزهر أفكاراً ومقاتلين ومقاتلات من أجل حرية الوطن وتحرر الإنسان. ارتحل الشهيد بعد أن كتب عشرات المقالات وأنجز العديد من الدراسات النظرية من واقع البحث الميداني. وتُظهر معظم مقالاته ودراساته وتعليقاته على وسائل التواصل الاجتماعي، ثقافة عالية ومن طراز ثوري رفيع، خاصة، أن حاملها لم يكن من نمط ما تعج به الفضائيات وسواها من منابر وصفحات إعلانية وإعلامية، من رموز الثرثرة والتسطيح الفكري الانتهازي، و"الفهلوة" الشطارة التي تبرر التنازلات والارتزاق. كانت تلك الأفكار التي حملها باسل، غنيةً بالمضمون الإنساني التحرري والوطني المقاوم، وهذا ما ترجمه بالواقع الميداني الكفاحي طول سنوات عطائه المجيدة.

في وصيته التي افتتحها ﺑ(تحية العروبة والوطن والتحرير) تكثيف واضح للثوابت التي آمن بها الباسل. أما خاتمتها فتحمل من كاتبها، اعترافاً بالقناعة التامة لما وصل إليه، بوعيه وثقافته وممارسته لكل ذلك على أرض الواقع (أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ أو أفصح من فعل الشهيد. وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة إلى أنَّ ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم. أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله).

في داخل ساحته التي استعد فيها للمواجهة وللإجابة على الأسئلة التي طرحها الواقع المباشر، كانت أدوات الإجابة تختزل أية اجتهادات وتوفر الوقت لكل باحث من أجل الحرية: الكتاب/ الوعي والبندقية المسيسة والإرادة.

باسل الأعرج، كان مثقفاً ثورياً وفدائياً مقاتلاً من أجل قضيته وقضيتنا جميعاً. وقد جمع في ذاته نموذجين بارزين في حركتنا الوطنية التحررية: غسان كنفاني ووديع حداد.

يكتب شهيد قضية التحرر الوطني والقومي "غسان كنفاني" (كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح، وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه).

الباسل أحد أولئك الرجال الحقيقيين الذين مزجوا الكلمات/ الأفكار مع السلاح، من أجل حرية وطنهم وكرامة شعبهم.