Menu

الدعوة الوحدوية ومناوئوها

عبد الإله بلقزيز

مَن يراقب مجريات حالة الاهتراء في أوضاع الكيانات العربيّة، اليوم، وما يقترن بها من نزاعات أهليّة وحروب داخليّة وفتنٍ طائفيّة ومذهبيّة، يستكثر على الداعين إلى الوحدة العربيّة دعوتَهم إليها، ويجد في حوزته من الأسباب والدواعي ما يردّ بها على دعواهُم، وما يقيم في وعيه من الأدلّة على «بطلانها» ما يحتجّ به ضدّها. وقد تأخذُه معاينةُ حال الاهتراء تلك إلى الهزء بالدعوة والسخريّة من حَمَلَتِها الوحدويّين، والقدْح فيهم؛ بدعوى فشلهم في إدراك استحالةِ وحدةٍ بين مجتمعات لا يجمع بين أمشاجها جامع، ولا تنفع عمليّةٌ قيصريّةٌ في رأب صدعها والشروخ. ولقد أفصح خطابُ التشنيع، هذا، على فكرة الوحدة منذ زمنٍ بعيد؛ منذ انفراط عقد الجمهوريّة العربيّة المتّحدة، ومن بعده هزيمة العام 1967، ولكنّ إفصاحَه ذاك يبلغ مبلغاً قصيّاً في الأحوال التي تصل فيها أوضاع البلاد العربيّة إلى الدَّرْك الأسفل، كهذه الحال التي تشهد عليها أوضاعُها في هذه السنوات السّبع العجاف منذ هبّت عليها عاصفة «الربيع العربيّ» الهوجاء. فكأنّ حقبة الجزر هذه ما أتتْ مأتى الدَّوْرات الطبيعيّة في التاريخ؛ حيث مدٌّ وجزر، صعود وهبوط، ظفر ونكسة، وإنما أتتْ مأتى القانون والناموس من تاريخ العرب؛ فكأنما هي لعنةُ التكوين حلَّت بهم ولا ترتفع؛ وكأنّ مِحَنَهُم منهم وحدهُم من دون غيرهم؛ كأنّ الأجنبيّ و«الإسرائيلي» بعيدٌ من نسيج حياتهم ويوميّاتهم ! لا ينصرف الحديث هذا إلى أولئك الذين قد يستصعبون فعل التوحيد القوميّ العربيّ، متعلّلين بأنه خيارٌ غيرُ واقعيّ تنوء بحمله قدراتُ أولئك الذين يدعون إليه؛ بل حتّى الذين يتّهمون الوحدويّين بأنهم طوبويُّون رومانسيّون، يعانون نقصاً فادحاً في الواقعيّة، قد لا يَدْخلون في جملة مَن تحدثنا عنهم من المناوِئة لفكرة الوحدة العربيّة.

والعبرة، في الموضوع، ليست في أنّ أوضاع الجزر والاهتراء الحاليّة تقرِّب مواقف هؤلاء (المستصعِبة) من أولئك (المناوِئة)، إنما العبرة في أنّ المتشكِّكين في إمكان إنجاز التوحيد القوميّ ليسوا كالرافضة لها كفراً بها؛ فلقد تكون ممكنةً، عندهم، في زمنٍ ما ولكنه ليس الزمن المنظور. وفي الأحوال جميعها فَهُمْ لا يعالنوها اعتراضاً، من حيث المبدأ؛ بل يُعْرِضون عن الانهمام بها كإمكانيةٍ متاحة، تاركين المعركة - غير المتكافئة اليوم - بين دُعاتها، وقد باتوا قلّة، ورافضتها، وهمُ الكثرةُ الكاثرة اليوم، تجري بين كرٍّ وفرّ.

والحقُّ أنه قد يكون بين الفريقين الناقديْن (المناوِئ والمستصعِب) جامعٌ سياسيّ «يبرِّر» لهؤلاء ولأولاء سلبيّتَهم - المتفاوتَة مرتَبَةً - من فكرة الوحدة؛ وقد يكون الجامع ذاك تمسُّكَهم بالفكرة الوطنيّةِ (ال قطر يّة في لغة كثيرٍ من القوميّين) وإطارها الكيانيّ، على الرغم من أنّ المناوئين للوحدة متشرنقون عقائديّاً في نسيج الفكرة الوطنيّة، مسوِّغون للنزعة الانكفائيّة، فيما لا تستند وطنيَّةُ المعارضين غير العقائديّين إلى أيّ منزع شوفينيّ. لكنّ أثرَ الجامع هذا نسبيٌّ غيرُ مقرِّر؛ وآيُ ذلك أنّ الوحدويّينَ، في المعظم منهم، لا يعالنون الكيانات الوطنية اعتراضاً إلاّ حينما يُنظَر إليها كأوطان نهائيّة، أي حين يصبح من وظائفها أن تحُول دون وحدة الأقطار العربيّة بحسبانها (الوحدة) مسلكاً مشروعاً لأيّ أمّة أعْمَل التمزيقُ الاستعماريُّ فيها أدواته، ناهيك بأنّ اعترافَهم بها يدُلّ عليه - فضلاً عن المنشور من خطابهم في هذا الشأن- مشاركتُهم السياسيّة في شؤونها العامّة، وخوضُ أحزابهم وقواهُم المنافسةَ السياسيّة والانتخابيّة مع غيرهم من الخصوم السياسيّين الذين لا يشاطرونهم موقفَهم الوحدويّ؛ فهل من اعترافٍ بالدولة الوطنيّة - أو القطريّة في خطابٍ قوميٍّ مشرقيّ- أكثر من الانتظام في نطاق حياتها السياسيّة العامّة، والمشاركة فيها بكلّ فعاليَّةٍ وهمّة، ومن غير ركونٍ إلى العدميّةِ السياسيّة أو إلى انكفائيَّةٍ سلبيّة بدعوى أنّ المشاركة فيها تعزيزٌ لوجودها وتسليمٌ بمشروعيّتها.

وإذا كان القوميّون العرب انزلقوا، في ما مضى من الزمن، إلى إدانة «الدولة القطريّة»، منظوراً إليها بوصفها ثمرةً للتجزئة الكيانيّة الاستعماريّة، فإنّ الموقف ذاك لم يُعَمَّر طويلاً؛ إذْ سرعان ما أوْسَع الفكرُ القوميّ مساحاتٍ أمام مراجعة نفسه، وإعادة النظر في كثيرٍ من يقينيّاته. وكان الموقف من الدولة الوطنيّة واحداً من تلك التي أُعِيدَ النَّظرُ فيها من مواقف القوميّين. ولقد بات مألوفاً، منذ سنوات السبعينات، أن نقرأ لمثقفين وحدويّين كثر آراء في الدولة الوطنيّة وبنائها، بناءً ديمقراطيّاً حديثاً، ما يقطع بأنهم ازْوَرُّوا عن مواقف القدح والتشنيع السابقةِ ازوراراً وطبعاً، من دون أن يتخلّوا عن دعوتهم التوحيدية التي عُرفوا بها، وبها تميَّزوا من غيرهم. ويُرَدّ ذلك إلى أنّ التجربة التاريخيّة المعاصرة علّمتهم كيف يتشبّعون بالواقعيّة السياسيّة، وكيف يقيمون كبيرَ اعتبارٍ للممكنات المتاحة ولأحكام ميزان القوى: في الداخل الوطني والإقليم والعالم.

لم يُقْدِم المناوِئون للفكرة الوحدويّة على مثل هذه المراجعة، والتزحزح قليلاً عن الفكرة الوطنيّة الضيّقة، حتى وهُم يلمسون بالخبرة كيف أنّ هذه الدولة الوطنيّة عاجزة عن إجابة حاجات مواطنيها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة، وخاصة في عصرٍ قاسٍ هو عصر عولمةٍ أزهقت أرواحَ دولٍ وكيانات في العالم كثيرة!