Menu

تحولات أحمد حجازي

جابر عصفور

عندما أبلغونى انهم يحتفلون بالعام الثمانين من ميلاد العزيز أحمد عبدالمعطى حجازي، وددت لو شاركت فى الاحتفال لاتحدث عن ذكرياتى معه وشعره، وهى ذكريات عديدة وطويلة، ولكنى قبل أن أطلق عنان الذكريات فى التداعى تناولت الطبعة الجديدة للأعمال الشعرية الكاملة التى طبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، ووقفت عند الصفحة الأولى فى الديوان الأول، فقرأت: أصدقائي/ نحن قد نغفو قليلا/ بينما الساعة فى الميدان تمضي/ ثم نصحو. فإذا الركب يمر/ وإذا نحن تغيرنا كثيرا، وتركنا عامنا السادس عشر

وقادتنى مطالعة المقطع الأول من الأعمال الكاملة إلى العودة بدقات ساعة الزمن إلى الوراء كثيرا، تحديدا عام 1964، حين اشتريت الطبعة الأولى من ديوان »مدينة بلا قلب« بعد أن أخبرتنا أستاذتنا سهير القلماوى ـ رحمها الله ـ بأننا سنتوقف عند قصيدة من هذا الديوان لنقرأها بوصفها نموذجا للشعر الحر الذى كنا نحن الشباب ـ فى ذلك الوقت ـ نتحمس له. وكان المقطع الأول من القصيدة أول ما لفت انتباهى إلى ما يفعله الزمن بالكائنات. وها أنذا أعرف مجددا أننا تغيرنا كثيرا جدا عن ذلك الزمن البعيد الذى ناقشت معنا سهير القلماوى قصيدة »أنا والمدينة« التى تدربنا فيها على تحليل الشعر الحر للمرة الأولي. والقراءة الأولى لا تنسى كالحب الأول، ويظل لها مذاق وأثر لا يكف عن التشكل والتغير، لكن نواته تظل باقية لا تنسي. ولقد كان الله كريما معى وحجازى فلم تتوقف ساعات العمر عن دقاتها، وانتقلنا من زمن إلى زمن، وانتقل حجازى من تحول إلى تحول، ولم تتوقف دقات الأعوام إلى أن احتفلنا بالساعة التى جاوز فيها حجازى عامه الثمانين، وجاوزت فيها عامى السبعين.

أما عن ديوان حجازى الأول فعنوانه دال على توتر القروى الذى يجد نفسه ضائعا تائها فى »مدينة بلا قلب«، هذا عن الظاهر، لكن الباطن يكشف عن ذات مؤرقة بقضية الهوية، تحن فى البداية إلى هويتها الريفية التى تذوب شيئا فشيئا فى المدينة، فتغدو ذاتا مدينية بالتدريج ومع الوقت، فتؤكد تحولها الأول. يدهشنا أنا نحن هذه المدينة/ وأننا اكتشفنا خلسة، فى هذه الأبنية الجواثم/ أشياءها الدفينة

هكذا تذوب الهوية القروية الضيقة فى الهوية المدينية الأكثر اتساعا وانفتاحا، الأمر الذى يفتح هوية المدينة القاهرية نفسها على آفاق أوسع فتضيف الصفة القومية إلى الذات الشاعرة التى تتفتح كالقاهرة العاصمة الأم على كل العواصم التى تجاوبت معها فى وجدة النضال الوطنى ضد الاستعمار، وفى وحدة التلاحم القومى لتحقيق أحلام:الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية مع الاستقلال الوطني. ولذلك حمل الديوان الثانى عنوان »أوراس« الجزائرية التى كنا معها، وساعدناها، فى التحرر من الاستعمار الفرنسي، ودفعنا الثمن غاليا، وطبيعى أن تتسع الهوية الوطنية لتغدو هوية قومية، ما ظل الرابط شعارات الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية. وهكذا أصبح حجازى شاعرا قوميا، ويأتى ديوانه الثالث بما يؤكد ذلك، حاملا قصائد »تموز« و»رثاء المالكي«و»أغنية للاتحاد الاشتراكي» و»عبدالناصر«. ولكن هذه الهوية القومية لم تخف هواجسها من الاشارات القمعية التى كانت تطفو على السطح البهيج للحلم القومى الواعد، فقرأنا عن »السجن« مثلا: فالسجن باب، ليس عنه من محيد/ والسجن ليس دائما سورا وبابا من حديد/ فقد يكون واسعا بلا حدود

وأخيرا تأتى كارثة عام 1967 التى كانت وطأتها فظيعة، فتهتز الهوية القومية اهتزازها الجذري، وتواجه الذات القومية عالمها لكى تستبدل هوية بهوية، أو ـ على الأقل ـ تضع هويتها القومية ضمن دائرة إنسانية أكثر اتساعا، فيأتى التحول الثالث، ولكن لا يحدث ذلك إلا بعد قطيعة معرفية على مستوى الوعى السياسى والشعرى فى آن. وهو ما يتجسد فى قصيدة »مرثية للعمر الجميل« التى اراها احدى معلقات العصر الحديث ـ إذا جاز لى أن استخدم أحد تعبيرات صلاح عبدالصبور المائزة. وبقدر ما كان البعد القومى فى الهوية الجديدة ـ يشد حجازى إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلى والغناء لبطولة المقاتل المصرى فى شدوان، مثلا، كان البعد الإنسانى يجذب العين الشاعرة إلى لحظة الخطر التى يتجاوز فيها الموت والحياة فى »مرثية لاعب سيرك«. ولحظة الخطر هذه هى اللحظة التى تدخل صاحبها إلى عالم الحداثة. لكن تكون الغلبة، فى تتابع دقات ساعة العمر، للرحيل فى زمن السادات، والاقامة الطويلة فى المنفى الاختيارى فى باريس، بعيدا عن أنياب الدولة البوليسية التى أصبحت اداة قمع فى تحالف السادات وجماعات التأسلم السياسى الاخواني. وفى باريس، تراكمت قصائد الحداثة التى جمعت بين ديوانى »كائنات مملكة الليل« و»أشجار الأسمنت« ولن تتجاهل العين المراثى التى يحتويها الديوان الأول، ولا وطأة الشعور بالمنفى الذى يستعيد ذكرى الراحلين، وفى الوقت نفسه نرى »آيات من سورة اللون«، حيث يتكشف غرام حجازى بفن الرسم، ومحاولاته الموازاة بين كتابة القصائد ورسم اللوحات فى مدى الصراع بين أبوللو وديونيسيوس، نقيضى الحضور الحداثى بين كائنات مملكة الليل وأشجار الأسمنت.

ويعود حجازى من منفاه، بعد سنوات طويلة من الاغتراب القسري، ليكتب قصائد العودة من المنفي: »أغنية القاهرة« محاولا استرجاع الصحاب الذين رحلوا معارضا البحترى وأحمد شوقى معا، محوما على دلالة منتصف الوقت التى رأيت فيها ـ فيما تنطوى عليه من معنى الوجوه المتوترة بين نقيضين ـ مدخلا لفهم حداثة شعر حجازى كله (رؤى العالم، بيروت 2008). ولكن سرقت الكتابة الصحفية الملحة حجازى من حميمية وهدأة التدفق الشعري، وتطول المساحات الزمنية بين القصائد، ولكن لا يتوقف الاحساس بالزمن: زمن واقف/ يتعامد فوق مدى الزمن الأفقي/ وينأى عن المعدن المتدفق/ فى الطرقات المضيئة

هذا الشعور بالزمن يلفت الانتباه إلى ثقل تتابع سنوات العمر، وعبور منتصف العمر إلى ما بعد المنتصف، حيث يظهر: »طلل الوقت، والطيور عليه وقع رمزا يتعامد فيه الزمان على المكان، فنواجه مراثى الأماكن والأشخاص ومراثى الزمن المنسرب نفسه. والمطلع يدل ظاهره على استخدام تقنية الوقوف على الاطلال كما كان يفعل الشاعر القديم، لكنه ـ فى هذا السياق ـ صوت الذات التى تعاود الاهتمام بمعنى الزمن ومساره، وعلاقتها هى بهذا المسار، فى اللحظة التى يقع فيها الوعى بين نقيضين: زمن متطاول مضي، وزمن مجهول لابد أن يجيء. والوعى يتقرى سيرته فى امتداد الزمن الأول، ويهجس بما يمكن أن يكون عليه الزمن التالى من ذرى وقتنا التى نطل عليها خلسة، أو نتأمل فى إمكاناتها، غير ناسين متصل الوعى الذى بدأ منذ عامنا السادس عشر إلى أن وصلنا إلى الثمانين بعد تحولات صنعها تعاقب الزمن واختلافه وصنعناها نحن فى استجاباتنا إلى المسار المتعرج للزمن الذى حنا علينا وامتد بحضورنا، إلى أن أصبحنا شيوخا مسنين، نمتلئ بالحكمة والذكريات، وتتجسد فينا القيم التى ورثناها عن كل من رثاهم حجازى فى زمن جميل مضي، وذلك على نحو لم يبق معه إلا التمسك بهذه القيم بوصفها مفتاحات للوجود الحر الخلاق الآتى بالنجوم الوضاءة على كفى المستقبل الواعد لأولادنا وأحفادنا.

وتحياتى يا أحمد فى عيد ميلادك الثمانين.

نقلاً عن: الأهرام