عندما تسير في طرقات مخيم شاتيلا الضيقة، تعود بك الذاكرة إلى ما يزيد عن 70 سنة من المعاناة عاشها أهالي المخيم، من المجزرة الأولى عام 1948 التي افترشوا خلالها الأرض وتلحّفوا السماء، مروراً بشظَف العيش وشُحّ سبل الحياة الآدمية، وصولاً للمجزرة الجديدة عام 1982، وفصولها المستمرة على وقع الإهمال وسوء واقع الحال، الذي تفيض الذاكرة به كلما كان الحنين يعيدها إلى موطئ قدم، بقدر ما تتفتح من باطن أرضه شقائق النعمان، تفوح منه رائحة الدم، المسفوح على يد ذات القاتل في القرن العشرين، الذي هو ذات القاتل في القرن الواحد والعشرين، فهذه حكاية الذاكرة الممتلئة حنيناً وشوقاً ولوعةً ودماً وحزناً ومقاومةً وأملاً في لبنان على طريق العودة إلى فلسطين.
شاتيلاً، هذا المخيم صغير المساحة، الذي ضاق بأهله من اللاجئين الفلسطينيين، أسسته وكالة الأونروا عام 1949، لإيواء المئات الذين تدفقوا إليه من قرى شمال فلسطين بعد أن أوغلت فيهم يد الصهيونية التي عادت، محمولة على رواية من الأساطير، وتاريخ توارتي مختلَق، لم يجد له مكاناً ليحيي مدينة القتل والخراب، سوى على حساب التاريخ والرواية العربية الفلسطينية، التي باتت عرضه لكل أشكال الاستلاب والسرقة والتزييف والتزوير وشطب ذاكرتها: فالكبار يموتون والصغار ينسون، هكذا قالت وأرادت غولدا مائير، لكن الفلسطيني بقي يولد الحكاية ويحرس الذاكرة ويفتح لها متحفاً كي تحكي قصة البلاد التي تتوارثها الأجيال.
ماذا حصل للأهالي؟!
المخيم الذي يقع جنوب العاصمة اللبنانية، بيروت، ولا تزيد مساحته عن كيلو متر مربع، وكان يسكنه أكثر من 12000 لاجئ فلسطيني، صار خليطًا من بشر متعددي الجنسيات، حيث أثناء السير في طرقاته توقظك من توهانك أصوات لهجات لم تكن معتاداً عليها. أعدادٌ كبيرة من غير سكانه الفلسطينيين لجأت إليه لتسكنه، نظرًا لأن أساليب العيش فيه لا تحتاج إلى تكلفة عالية، لكن ما الذي حل بالفلسطينيين؟
بفعل المذابح والمجازر التي شهدها هذا المخيم، بعد الاجتياح الصهيوني لبيروت، عام 1982، واستشهاد أعداد كبيرة منهم، وتعرض من بقي على قيد الحياة، إلى صنوف عديدة من القهر والغبن وسوء المعاملة، كما محدودية مجالات العمل أمامهم، واتساع رقعة البطالة، وانتشار آفة الفقر، مما حدا بالكثير من قاطني هذا المخيم، إلى ركوب البحر أو الطير في السماء أو السير على اليابسة بحثاً عن قارب نجاة أو عُش أو ملجأ قد يجده في ألمانيا، أو السويد، أو غيرهما من الدول الأوروبية، ليؤمنوا لأنفسهم حياة كريمة، بعدما ضاقت بلاد العرب بأهلها.
ترك معظم الفلسطينيون خلفهم ذكرى بعض من وطن، باعوا بيوتهم للبنانيين، ومحلاتهم لسوريين، وهاجروا، منهم من مات غرقًا، ومنهم من وصل، ومنهم من عاد حاملًا معه خيبة تفقده الكثير من الأمل..!
حلقة وصل
برغم كل الموت، والحزن يبقى هناك بعض من أمل، الأمل الذي يبتكره أناس ما زالت جذور فلسطين تنبت في أجسادهم حُباً، وتحفِز باستمرار وجدانَهم بثمرة وعيهم لماضيهم، وتحفظ لهم استمرار النمو في حاضرهم ومعه، إنها هي الذاكرة التي يختزنها متحف الذكريات الذي يمتلكه الطبيب محمد الخطيب، في ركنٍ من بيوت المخيم، حيث تجد فلسطين فيه، بما يحتوي ويختزن من مما استطاع اللاجئون حمله، وهم هائمون على وجوههم بحثاً عن بقعة يلقون بها خوفهم وتعبهم ومصير بات مجهولاً بالنسبة لهم.
الطبيب محمد الخطيب، ابن قرية الخالصة الفلسطينية، الذي لم يكن عمره يتجاوز أشهر معدودة حين حلت النكبة بأهله كي يدرك لماذا اضطروا لترك بيتهم، وعدم القدرة على حمل إلّا ما تيسر لهم من أمتعته ومقتنيات، اختار أن يشتري بيتاً في المخيم، ليس تعويضاً عن البيت الذي تركه أهله في الخالصة، بل للاستمرار معه في المخيم الذي أراد له أن يحتضن المتحف، ويحفظ الذاكرة، ويشكل حلقة الوصل بين بيته في قرية الخالصة، وبيته في مخيم شاتيلاً، الذي حط به لاجئاً على طريق العودة لاحقاً.
ألف قطعة أثرية
يحوي المتحف الذي تبلغ مساحته 55 مترًا، ولا تدخله الشمس بسبب وجوده في طابق أرضي، في بنايةٍ تأكل حوائطها الرطوبةُ الشديدة، نحو ألف قطعة أثرية، بعد أن خسر قرابة 350 قطعة أخرى، بسبب الرطوبة، من بينها فرش ديوان عربي خسره المتحف بشكل كامل، بعد أن تعرض للتلف، ومن ثم الرمي في مكب النفايات!
القطع والأدوات الموجودة في المتحف، تقع بين أوانٍ منزلية، وأخرى للحراثة والفلاحة، وأدوات عمل الصناعة، وأثاث منزل. وعند سؤال لصاحب ومنشئ متحف الذكريات، الطبيب الخطيب عن أصل تلك القطع وكيف جُلبت؟ أجاب "لن أبالغ وأقول إن القطع فلسطينية مئة بالمئة، بل في بعضها ما هو من التراث اللبناني والسوري، إذ إن الأدوات التي كانت تستخدم في حينها متشابهة، كالأدوات المنزلية، من شوبك، ومقلاة، وآلات الحراثة، لكني أستطيع القول: إن النسبة الأكبر هي أدوات فلسطينية، استطاع أهلنا جلبها معهم، في أثناء ذهابهم إلى فلسطين ليلًا، وعودتهم صباحًا حتى عام 1952".
"احتلال التراث"
يقول الطبيب الخطيب: "إن هذا المتحف ضرورة ملحة، فالصهاينة بعد احتلالهم للأرض، يريدون ويعملون لاحتلال تراثنا، وعاداتنا، وثقافتنا، ليقولوا للعالم أنهم أصحاب الأرض الحقيقيين، فلذلك ادعوا أن الثوب الفلسطيني لهم، وكذلك الكوفية، وحتى الطعام. يريدون أن يؤكدوا أن لا حضارة سوى الحضارة العبرية في فلسطين. فهم أخذوا الأرض بقوة السلاح، ويودون أخذ تراثنا بقوة دهائهم وإعلامهم المتطور. وبعد مرور أعوام عديدة تغيب عن بال أطفالنا هذه الحضارة، وعندها يستطيع الصهاينة نزع ثقافتنا عنا، ونسبها إليهم".
وأكمل قائلاً بولعةٍ وحسرةٍ لا تخفيها رباطة الجأش التي بدت عليه، بعد سبعين سنة للنكبة: "لا أظن أن الأدوات الخشبية التي يحتويها المتحف ستظل على حالها، وخاصة بعد الحروب والمجازر التي شُنت ضد المخيم وأهله، والدمار والموت الذي حل به".
يُرجع الطبيب الخطيب، سبب اختياره مخيم شاتيلا، كونه مخيم ختم بالفقر ووصم بالجهل، فأراد الإخبار ، عبر هذا المتحف أن المخيم حي بثقافة عريقة، ثقافة فلسطين، وقال "جعلت المتحف منذ إنشائه قبل خمس عشرة عامًا مكاناً للتناظر الثقافي، من خلال المحاضرات والندوات التي كنت أقيمها وأنظمها بنفسي. الغريب أن هناك من كان يلقي اللوم عليّ، عبر سؤالي: ما الذي ستجنيه من محاضراتك هذه؟
ويُتابع "كنت أناقش هذا الموضوع كثيرًا، وأحيانا كُنت أثور في نقاشي، وفي مرات أخرى أصمت، فقد كان همي الوحيد تثقيف الناس، لأن الصهاينة استطاعوا التقدم علينا من خلال التثقيف".
مؤسسات وطنية وفصائل.. غائبة
عندما قرر الخطيب شراء المكان الذي صار متحفًا اليوم، لم يذهب إلى أية مؤسسة، بل اعتمد على نفسه في شراء المكان وتزويده بالقطع الأثرية، "لأن المؤسسات همّها الوحيد هو كيفية كسب المال من وجع الناس" كما يقول.
وأردف قائلاً "المتحف وجوده في المخيم أهم بكثير من أن يكون بالحمراء في بيروت، لأنه يحق للفلسطيني أن تكون لديه حضارة، يكبر بها، ومن يودّ رؤية هذه القطع، فليأت إلى المخيم". وباستهجان شديد أكمل "الأوروبيون يأتون إلى المخيم ليشاهدوا المتحف، في حين أن أعدادًا من الفصائل لا تعلم به".
وتحضر الأسئلة هنا، ألا تستحق فلسطين الحفاظ على تراثها؟ ألا يحق للفلسطيني الدفاع عن حضارته؟ ألا يجب أن تقوم المؤسسات الفلسطينية بحماية هذه الحضارة وتراثها؟ فهل يمكن للذاكرة أن تبقى محتفظة بموروثها الحضاري والثقافي وجدارة أحقيّتها في الوجود والاستمرار إن لم تحفظ متحف ذكرياتها حياً في وجدانها ومتجذراً بعمقٍ بين أجيالها المتتابعة؟!