Menu

الوجه الأصيل للمسيحية في عيد الميلاد

محمّد جبر الريفي

من المعروف أن نشأة المسيحية كديانة سماوية تؤرَّخ بميلاد السيد المسيح عليه السلام في الأرض المقدسة فلسطين. أما اعتناق الغرب للمسيحية فقد كان في فترة الإمبراطورية الرومانية، حيث جاءت المسيحية من الشرق وانتشرت في القارة الأوروبية كديانة سائدة غير وضعية في مواجهة استبداد السلطة السياسية في أوروبا، وبذلك قامت الحضارة الغربية أساسًا على مكونات ثلاث: الإغريقية، والمسيحية الغربية، والنظرة المادية، يحكمها معًا القانون الروماني، كما يقول (دريبر) في كتابه بين العلم والدين.

الأمر الذي جعل المسيحية الغربية تختلف عن المسيحية التي عرفها الشرق، بحكم هذه العلاقة التي نشأت عن الامتزاج، حيث الاستقرار العاطفي والديني بين جماهير الشرق المسيحيين في الاحتفال بأعياد الميلاد المجيد التي تأتي كل عام في مثل هذه الأيام. تجد الإشارة إلى الوجه الأصيل للمسيحية كديانة سماوية ظهرت في الشرق وحافظت على نقائها ولم تختلط بغيرها من المكونات الحضارية الأخرى، كما حصل في الغرب، فبقيت تستمد أصولها من قيم التسامح والتعايش والسلام، بعيدًا عن التمييز والاضطهاد التي مارستهما المسيحية الغربية، فتعانق الصليب والهلال في الحركات الوطنية العربية ضد الاستعمار الغربي، وكان ذلك بارزًا في ثورة 1919  في مصر التي قادها الزعيم سعد زغلول. كما أسهمت إبداعات الأدباء والكتاب العرب المسيحيين في بلاد الشام دورًا رياديًا في تجديد الحركة الأدبية والفنية والنهوض بها والتي أصابها الجمود والانحطاط الفكري في فترة الهيمنة العثمانية على الوطن العربي، حيث أوجد الحكام الأتراك من السلاطين العثمانيين ممن يحملون في معتقداتهم السياسية نزعة طورانية عنصرية أوجدوا علاقة متأزمة بين الدين والفكر، بما فرضوه على الشعوب العربية من سياسات مثل حركة التتريك التي هاجمت العروبة مهاجمة عنيفة، من خلال محاربة أهم مقوماتها المتمثلة باللغة العربية. وكانت حركة التتريك هذه بمثابة محاولة سياسية عنصرية لتقويض القومية العربية بذريعة شرعية السلطة الدينية والسياسية المتخلفة.

في الاحتفال بأعياد الميلاد يتضح بجلاء تاريخ المسيحية في بلادنا العربية وهو تاريخ حافل بالمودة والتسامح، وكان ذلك في كل عهود الحضارة العربية الإسلامية على اختلاف أنظمة الحكم السياسية فيها، بينما تاريخ المسيحية الغربية وتاريخ الحضارة الغربية كذلك أيضا تجاه شعوبنا العربية والإسلامية، وتجاه شعوب العالم الثالث، هو تاريخ صراع وحروب ونزاعات، ومليء بمظاهر التعصب والتمييز والاضطهاد والتجهيل الثقافي وتعميق التخلف الحضاري، وعلى الغرب المسيحي الذي يحتفل بأعياد الميلاد والتي كثيرا من مؤسساته تقوم بممارسة هذه السياسات، أن يراجع مواقفه السياسية والأخلاقية تجاه هذه الشعوب.

أما في بلادنا فلسطين التي على أرضها ولد السيد المسيح رسول المحبة والمسرة والسلام، يحتفل شعبنا بهذا العيد المجيد في ظل قمع الاحتلال الصهيوني، الذي تجاوز كل الحدود، حيث نهب الأرض بالاستيطان المكثف، في محاولة عنصرية لتغيير الواقع الديموغرافي، واستباحة الأقصى يوميا باقتحامات المستوطنين الصهاينة العنصريين، والإعدامات اليومية على الحواجز العسكرية الاحتلالية للشباب والنساء. وفي منطقتنا العربية عامة تدق أجراس الكنائس دقات حزينة وغاضبة من جراء ما حدث من ضرب أسس التعايش الذي أصاب الأديان السماوية والطوائف والمذاهب والأعراق، بسبب هجمة التنظيمات التكفيرية الارهابية الظلامية البعيدة عن سماحة الإسلام.

في دقات أجراس الكنائس في المنطقة العربية خاصة في بلاد الشام و العراق ومصر، ما يوحي بضرورة التأكيد على مواجهة ومقاومة هذه التنظيمات والتيارات المدمرة للنسيج الاجتماعي لشعوب هذه المنطقة، والإصرار على بقاء الوحدة والتعايش بين أبنائها من كافة الأديان.