في سياق قضيّة محورية ومفصليّة مثل القضية الفلسطينية لابدّ من توظيف كافة المقدرات المحلية والقومية والدولية في سبيل تحرير الأرض، وبناء الدولة، وتعرية ومقاضاة الاحتلال الصهيوني أمام الدوائر القضائية العالميّة.
وفي فضاء إقليمي تأخر فيه الاستحقاق الفلسطيني بعد أن بات الوطن العربي بركة من الدماء المسكوبة تحت سياط الطائفية والداعشية والهويات القاتلة، يصبح استدرار أي تعاطف رسمي، أو شبه رسمي، أمرا معقولا ومنطقيا لاسيما وأنّ القضية الفلسطينية انتصرت في الكثير من المحافل الدولية بفضل القوة الناعمة التي حصّلتها بفضل تأييد زعماء كبار ومفكرين عظام على غرار نيلسن مانديلا ونعومي تشومسكي وروجيه غارودي.
مقدّمات لابدّ من الاستناد إليها عند التطرق إلى ظاهرة سياسية باتت تدبّج المشهد الفلسطيني، حيث يعمد البعض من السياسيين العرب، وغير العرب، إلى الاستثمار السياسي في القضية الفلسطينية عامة وقضيّة غزة خاصّة وتوظيفهما في التوازنات المحليّة والتجاذبات الإقليمية، وفي بعض الأحيان استغلال القضية الفلسطينية قصد إعادة تأهيل “الفاعل” السياسي بعد أن يكون قد استنزف دوره في لعبة الأمم أو البحث عن دور جديد في رقعة شطرنج الكبار.
قد تكون ظاهرة “المناصرين” الجدد للقضية الفلسطينية، واحدة من أكثر الظواهر السياسية دلالة على “ميكيافالية” الفاعلين السياسيين في قضية مبدئية مثل قضية فلسطين، ذلك أنّ تتبّع مسار دعم بعض الشخصيات السياسية لقطاع غزّة، التي باتت مؤخرا عنوان كسر الإرادة الدولية في تجويع ومعاقبة شعب بأكمله على خياراته، يصطدم بازدواجية في الأداء من حيث التقاطع الجوهري والإستراتيجي مع إسرائيل، في مقابل التأييد “التكتيكي الخطابي” لغزّة.
فرجب طيب أردوغان الذي ملأ الدنيا ولم يقعدها عند مجزرة أسطول الحرية 1 في يونيو 2010 مركزا على قضية “غزّة” وعلى المظلمة الإنسانية المقترفة في أكبر سجن بشريّ، لم تمنعه المجزرة من تطوير العلاقات التركية الإسرائيلية في الكثير من المجالات، وعلى رأسها المجال العسكري حيث ترتبط أنقرة بتل أبيب بـ60 اتفاقية عسكرية وأمنية، كانت آخرها اتفاقية موقعة في 2013 تقضي بتزويد شركة إسرائيلية تركيا بمعدات عسكرية إلكترونية بقيمة 100 مليون دولار لأربع طائرات مزودة بنظام الإنذار والمراقبة المحمول جوا (أواكس)، إضافة إلى تزويد شركة تركية للجيش الإسرائيلي، الذي صبّ على غزة حمم النار في 2014، بالغذاء والمؤونة.
أردوغان، الذي لطالما بكى على غزّة، لم يؤمّن لمقاوميها من كافة الفصائل الوطنية والقومية واليسارية الحدّ الأدنى ممّا أمنّه من دعم لوجستي وعسكري ومادي وإعلاميّ لمتطرفي داعش والنصرة لضرب الأمن القومي العربي في مقتل، وهنا يبرز الفرق بين الإستراتيجيا والتكتيك.
أمير قطر السابق لم يشذّ عن أسلوب “المناصرين الجدد” حيث أنّ الماكينة الدعائية التخريبية كانت تعبث بأمن مصر “العمق الإستراتيجي” لغزّة، وكان التنسيق القطري الإسرائيلي في أعلى مستوى له في زمن كان أمير قطر السابق وزوجته يؤديان زيارة إلى قطاع غزّة المحاصر.
الرئيس المنصف المرزوقي لم يخرج عن القاعدة، ففي وقت ينضم فيه إلى أسطول الحرية 3 لكسر الحصار عن غزّة، كانت تونس، في زمنه، تطبّع سياحيا مع إسرائيل تحت يافطة “حج اليهود” في غريبة جربة، وكانت تونس أيضا منصّة سياسيّة لضرب مصر وسلطتها السياسية بعد 30 يونيو، ولـ”مأسسة” الانقسام الفلسطيني عبر الاعتراف والتعامل مع فريق سياسي دون آخر، ولم يسجل للمرزوقي موقف زمن حكمه حيال رفض المجلس الـتأسيسي دسترة تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو ما يتعزّز باعتراف المخابرات الإسرائيلية بنجاحها في اختراق 5 دول عربية من بينها تونس.
يفضل الكثير من الرؤساء والزعماء أداء دور الجمعيات الحقوقيّة من تنديد وشجب وتحركات تضامنية، في حين أنّ وجودهم على رأس السلطات التنفيذية في بلدانهم يسمح لهم باتخاذ خطوات ميدانية حقيقيّة ملموسة تكون تكريسا لمبدأ التضامن الحقيقي مع فلسطين التي تحتاج من الرئيس أن يكون زعيما يقود دولة بأكملها لدعم “القضيّة”، ولا تحتاج من الرئيس أن يتحوّل إلى حقوقي يتحرّك بمفرده دون قرار.
ترتاح إسرائيل كثيرا لأداء هؤلاء المسؤولين من حيث أنهم رؤساء مسؤولون مع مصالحها، وحقوقيون متضامنون مع غزّة وأهلها، وطالما أنّ المعادلة باقية على حالها فتل أبيب مطمئنة لمسلكية سياسيّة لـ“المناصرين الجدد” قوامها “التخالف” في التكتيك و“التحالف” في الاستراتيجيا.
لسنا في وارد مصادرة حقّ التضامن مع غزّة خاصة، وفلسطين عامّة، ولسنا في سياق التنديد بحركة تضامنية من الرئيس المنصف المرزوقي نتمنى أن تكرّر مستقبلا، ولكن من حقّ فلسطين على المتضامنين أولا، ومن واجب المناصرين ثانيا، أن يكونوا أصحاب قرار ورأي مبدئي عند المسؤولية، وأصحاب مواقف عند الخروج منها، لا أن يكونوا “أمعّة” في الكراسي، وضوضائيين في المعارضة.
نقلاً عن: العرب