لا يمكن الحديث عن سايكس بيكو بدون التطرق الى اسباب نشأة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية (التي أوكل إليها تنظيم مبرمج للهجرة اليهودية الى فلسطين).
أنشات الحركة الصهيونية عام 1897، بناءً على ضرورة لاستمرار دور رأس المال (اليهودي) المستقل عن النظم الرأسمالية وفي مرحلة تطور محددة من تطور رأس المال، فرضت نظمًا رقابية وطنية على حركته وتمركزه، إضافة إلى فرض نظم ضريبية على حركته.
لقد ارتبط رأس المال (اليهودي) بنزعة استقلالية، كانت انعكاسًا لنزعة اليهود (الدينية) الدائمة لإيجاد موقع مستقل عن المجتمعات التي عاشوا ضمنها عبر العصور.
وعليه؛ فإن أسباب النزعة العدائية للجماعات اليهودية جاءت بأوضح تجلّياتها في الإصدارات الأدبية لكبار الأدباء الأوروبيين، واتّسمت بالشمولية ما بين روسيا وبريطانيا، وشملت كل المملكات والإمبراطوريات التي مرت على المكان عبر الزمان منذ عهد القنانة وحتى ظهور النزعة العدائية وتناميها (لليهودية) في مراحل الحروب القومية ما بين الرأسماليات المتشكلة في أوروبا.
إنّ التدقيق برسالة الكاتب الكبير تيودور ديستوفسكي حول المسألة اليهودية، ونقاشه لها وتحليله للشخصية في قصته الجريمة والعقاب حول دور الشخصية اليهودية (المرابية). إذا ما أضفنا إليها كتابات الكاتب المسرحي الكبير شكسبير (تاجر البندقية) ودققنا بما كتبه فولتير (كانديد) و(كافكا اليهودي) قصته المتحول، وتشارلز ديكنز في قصته (أوليفر تيست)، وغيرها من القصص الأدبية والروايات التي لخصت دور الشخصية اليهودية كمرابية ولص يستغل الأطفال، ودور الأب في قهر أبنائه. كل هذا يشرح دور الشخصية اليهودية في أوروبا، ودورها واللافت للنظر في قراءة التاريخ من منظور نقدي مدقق، يستطيع الوصول إلى أسباب الكراهية الشديدة للجماعات اليهودية التي كانت تتفجر في كل مرحلة من مراحل التاريخ تشهد ضعفا للسطات المركزية أو انتقالًا من مرحلة إلى أخرى.
إن شخصية اليهودي ودوره التي جاءت في الأدب، كانت تعكس دورهم في المجتمع كمرابين وتجار رق ودعارة وجامعي ضرائب للأمراء والسلاطين والأرستوقراطيين، وكانوا هم الحلقة الأضعف في سلسلة القمع والاضطهاد، اللذان كانت تعاني منه المجتمعات على امتداد القارة الأوروبية، وقد تمت حمايتهم في عدة عهود، إن كانت في عهد حملات الفرنجة حيث كانوا في حماية حكم الإمبراطورية الكارولينجية؛ حيث أصدر هنري الرابع عدة مواثيق عام 1090 يؤكد حقوقهم التي حصلوا عليها في العهد الكارولينجي، بشأن حماية ممتلكاتهم وأرواحهم، وتؤكد حرية السفر والعبادة لكل أعضاء الجماعات اليهودية، وأكد على إعفائها من المكوس (الجمارك ورسومها) والضرائب التي تفرض على المسافرين، وكان لهم حق التقاضي فيما بينهم، وحق الفصل في الأمور اليهودية، أي كانت لهم إدارتهم الذاتية.
وجاء فردريك الأول ليؤكد على حماية الجماعات اليهودية، حيث أصدر ميثاقًا عام 1157 استخدم فيه مصطلح (أقنان البلاط) كوصفٍ للجماعات اليهودية، هذا يعني أنهم يملكون الحماية من السلطة الملكية، واعتبروا ممثليهم أمام الجمهور والتصاقهم بالسلطة الإقطاعية، ويتحملون وزر أعمالها وشرورها من قبل الفلاحين الفقراء.
أما فردريك الثاني في النمسا فقد أصدر عام 1244 نظامًا ضريبيًا، وأقر قانونًا يوضح فيه قيمة الفوائد على القروض، ينص على أن تكون نسبتها 173%، حيث كانت القروض تمنح بضمان رهونات، أو إذا لم يتمكن المَدين (من استدان) من تسديد دينه يحق للمرابي الاستيلاء على الرهن، وهذا كان مشروطًا بمدّة زمنية وكان يعلم المرابي مسبقًا أن المدين لن يتمكن من سداد دينه. وإذا كان الرهن مسروقًا (كالحُلِىّ الذهبية والفضية) فإن من حق المرابي أن يحتفظ بها إذا ما أكد أنه لا يعلم بأنها مسروقة، وهذا فتح بابًا للتعاون بين المرابين واللصوص والعصابات والمافيا لاحقًا.
ونتيجةً لهذا الدور ظهرت (تهمة الدم) لليهودية التي كانت تعبر عن امتصاص دم الشعب.
واستمر هذا الدور بالرغم من تغير السلطات والمملكات، فكان دائمًا يعتمد على التصاقهم بالسلطات الحاكمة، وهذا ولد نقمةً عليهم عرفت بمسمى (الكراهية للسامية نتيجة لتهمة الدم)، ارتباطًا بمصدر فكرتهم الدينية ورواياتهم الدينية التي تؤشر الى انتمائهم لقبائل الشرق الأوسط.
المدقق في وصف الجماعات (اليهودية) في غرب أوروبا، أو القبيلة (اليهودية) في روسيا، يتضح له أنهم كانوا يصرون على العيش كجماعة منفصلة عن المجتمع المحيط، وكانوا دائمي التنقل بين المملكات والإمبراطوريات، وهذا التنقل أكسبهم صفة المعرفة بالطرق والتجارة ومراكز تلاقي المواصلات، حيث كانوا يأخذون منها مكانًا لتجارتهم، أما تواجدهم في المدن فقد وافقوا أن تكون لهم "جيتوات" منفصلة، ليمارسوا فيها طقوسهم الخاصة.
وبالرغم من أن العداء والكراهية كانت نتيجة لأعمال المرابين والفئة التي كانت تخدم في قصور الأمراء والسلاطين والبلاط الإمبراطوري، إلا أنهم كانوا دائمًا يحتمون بالفئات اليهودية الفقيرة، التي كانت تعاني كبقية أفراد المجتمعات، وكان المرابون وأقنان البلاط يُصرون على استصدار قراراتٍ للحماية الشاملة لجميع أفراد الجماعات اليهودية، ومنع بيع اليهود الفقراء، وأن لا يكون التعامل معهم كعبيد أو رِقّ.
هذه القرارات كان سببها حماية أنفسهم (المرابون وأقنان البلاط) من الغضب الشعبي عليهم، فعندما كانت موجات الكراهية تعمّ في أوروبا على السلاطين والملوك والأمراء والأرستوقراطيين، كان اليهود الفقراء هم من يتحملون وزر أفعال المرابين وأقنان البلاط.
لقد جرت محاولات عديدة لدمج الجماعات اليهودية في المجتمعات التي تعيش بها، لم تنجح معظمها، سوى محاولة نجح بها نابليون بونابرت في دمجهم واعتبارهم مواطنين تنطبق عليهم واجبات وحقوق الفرنسيين، وفرض عليهم تغيير مهنهم التي كانوا يمارسونها من مراباة ودعارة وتجارة رقيق.
وجرت محاولات تنصيرهم في ألمانيا، بعد ظهور مارتن لوثر، الذي طرح أفكاره حول المسألة اليهودية التي كانت تتمحور حول تنصير اليهود.
استخلاص هذه المرحلة، ما قبل مؤتمر بازل الصهيوني 1897، كانت تتسم بأن الإنجازات اليهودية في أوروبا كانت مهددة، بفعل تطور القواني، المرتبط بظهور الدولة الحديثة، والتي كانت تعتمد المواطَنة المدنية أساسًا للعلاقة بين الفرد والدولة، ناهيك أنّ تطوّر الرأسمالية فرضَ تطوير آليات عمل منظومتها الداخلية، وخاصة المالية منها، ممّا شكّل خطرًا على استقلالية رأس المال (اليهودي)، الذي كان قد دخل في صراعٍ مع رأس المال الكنسي، الذي وجه ضربة قاصمة للمرابين اليهود، عبر إقرار النظام البنكي والضريبي.
إن ظهور الحركة الصهيونية كان ضرورة لإيجاد كيانٍ سياسيٍّ مستقلّ لليهود، بعد أن تصادم استقلال وجودهم مع تطور الدولة المدنية، وأصبحت متطلباتها تعني انصهارهم في المجتمعات التي يعيشون فيها.
وفي هذا الصدد، فإن الجماعات اليهودية على اختلاف مشاربها واجهت سؤالًا تجب الإجابة عليه، بعد أن فقدت الكثير من أفرادها من خلال عملية التنصير أو الانحلال في المجتمعات، مما يُفقِد رأس المال (اليهودي) مبررات استقلاليته وحمايته؛ ألا وهو: كيف يمكن الحفاظ على الدور المستقل والفاعل لرأس المال اليهودي؟
إن فكرة الدولة اليهودية في فلسطين هي فكرة رأسمالية، استُنِد فيها إلى البعد الديني الغيبي في استحضار المبررات اللاهوتية، من أجل الهجرة إلى فلسطين لتأسيس دولة يهودية (للشعب اليهودي)، هذا المصطلح لم يكن موجودًا سوى في الرواية التلمودية، وهي بالواقع وعبر التاريخ فإن التعامل مع اليهود ورد في التاريخ كجماعات وقبائل منتشرة في أوروبا جاءت من شمال أفريقيا وانتشرت فيها بعد سقوط الأندلس، حيث كان اليهود متحالفين مع الدولة الإسلامية، ويعملون في بلاط سلاطينها.
إن الدولة اليهودية (المنشودة) يجب أن تحظى بذات الحماية التي حظيت بها الجماعات اليهودية في أوروبا.
أما السؤال الأهم الذي يجب أن نطرحه نحن الفلسطينيون: لماذا لم تعُد الجماعات اليهودية أو القبائل اليهودية إلى فلسطين، قبل 1897م؟ إذ كانت أعدادهم في فلسطين كقبيلة 17000 نسمة، في حين كانوا في روسيا وألمانيا وبولندا ما مجموعه 5,500,000 نسمة.
النظرة المتفحصة والنقدية لدور اليهود في التاريخ الإنساني تُبيّن أنهم كانوا دائمًا إلى جانب السلطات الحاكمة ضد الشعوب، وكانوا دائمًا يتعاملون كجماعاتٍ يحتمي أغنياؤها بفقرائها، وكانوا يستقرّون في المناطق الأكثر فقرًا واضطّرابًا، والأقل وعيًا، ليتمكّنوا من فرض دورهم كمستشارين وجامعي ضرائب ومُرابين للحكومات والسلاطين والأمراء والأرستقراطيون.
كما يجب تسجيل أن الكثيرين ممن نقد اليهود هم من أبناء جلدتهم، وممّن تخلّوا عن يهوديتهم، والكثيرون منهم كانوا رواد فكر إنساني عندما تخلّوا عن جوهر الفكرة التلمودية، التي أشار إليها ديستوفسكي في رسالته حول (المسألة اليهودية) لبعض منتقديه من المثقفين اليهود.