تستعد جهات دولية وإقليمية لفرض خطة استسلام جديدة على الفلسطينيين. ملمحُها هذه المرة، خطةٌ للتهدئة في غزة ورفع الحصار مقابل تسليم سلاح المقاومة، لا شك لدى أي عاقلٍ مُبصرٍ أنه لا يوجد فلسطيني منتمٍ لقضيته مستعد لقبول هذه الطروحات، ولكن مجرد عرضها أو طرحها أو حتى تقديمها كتسريبٍ إعلاميّ لجسّ النبض، يشي بالكثير من الخطر.
فالمقصد الصهيوني اليوم واضح، لا حقوق سياسية للفلسطينيين، وعليهم أن يعيشوا تحت سقف ما يقدمه لهم الاحتلال، من فتاتٍ معيشيّ وليس حقوق إنسانية حتى بمفهومها الفردي الضيق، وهو ما يجري محاولة تطبيقه في غزة والضفة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨، وحتى تجاه تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في الخارج التي تجري محاولات تفكيكها واستكمال تشظّيها بموجات تهجير ولجوء، في ظل انعدام وجود الحد الأدنى من الظروف الملائمة للحياة الإنسانية في معظم مخيمات وتجمعات اللجوء الفلسطيني، مقصد العدو وحلفائه واضحٌ، ولم يعد يخفِه، دولة يهودية عنصرية، تفرض على الفلسطينيين الذين تبتلعهم نوع من العبودية، تتغير شروطها وفقًا لمقدار طاعتهم وخضوعهم.
ولعل واحد من أسرار عظمة هذا الشعب، واستمرارية وجوده على أرضه، يكمن في وعيه الجمعي، وغريزته اليقظة الدائمة، التي تتنبّه لكل أشكال الاحتيال ومحاولات الإخضاع، حتى لو تم تزيينها بمفردات ومصطلحات ومسميات براقة، فشعبنا يستند في كشفه المبكر لمثل هذه المخططات، لإدراكٍ حقيقيّ لتاريخه، وما حفل به هذا التاريخ من مواجهات متكررة لمثل هذه المخططات، ويعي جيدًا قدرته على إسقاطها.
إن مواجهة هذه المخططات بجهد شعبي جماعي مثل مسيرات العودة، لهو عبقرية شعبية حقيقية، مهما اختلف البعض مع الآخر حول سبل الاستثمار لهذه المسيرات، أو طرق تنظيمها وتحقيق الفائدة المثلى منها، وكذلك حال العمليات الفدائية الفردية، التي جاءت لتتغلب بمعجزات بطولية، على الظرف الأمني الذي يفرضه الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، وكل هذا لا ينفصل عن الحركة الوطنية الواعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨ التي تتبنى خيار مقاطعة انتخابات الكنيست الصهيوني، وتستثمر في الوعي الوطني لجماهير شعبنا في الأرض المحتلة عام ١٩٤٨، وتراهن على استعادة الهوية الوطنية الجامعة لهذا الشعب، في مواجهة محاولة الأسرلة وطمس الهوية الوطنية، وفصل أهلنا في الداخل المحتل عن عموم الشعب الفلسطيني المناضل.
رغم بؤس الأداء السياسي لكثير من القوى والمكونات السياسية، خصوصًا على المستوى الرسمي، فإن الرصيد الحقيقي للقضية الفلسطينية، تختزنه هذه الجماهير المخلصة، في بيئتها الحاضنة للمقاومة، والتي تترفع على أي محاولة لكسر ارتباطها بقضيتها وحقوقها وتاريخها وحاضرها النضالي، رصيد وإرادة تستحق أداء سياسي وتنظيمي أفضل ينظمها في إطار إستراتيجية وطنية كفاحية، قادرة على الحاق الهزيمة بكل مخططات العدو، من خلال استعادة الوحدة الوطنية على قاعدة الانتماء لهذا المشروع الوطني الفلسطيني الجمعي التحرري، الذي يرفض تقسيم هوية هذا الشعب، أو تجزئته جغرافيًا، أو إخضاعه للظروف التي يسلطها الاحتلال عليه في هذه البقعة أو تلك.
إن المخرج من محاولات التجزئة والتفتيت والإخضاع، هو الوحدة الهويّاتية، التي تنطلق من وحدة الهمّ ووحدة التطلعات، ووحدة النظرة إلى العدو ومشروعه الإجرامي الإرهابي في هذه البلاد، فالقضية ليس إدارة وضع السكان تحت الإحتلال، بل قضية شعب، وحقٌ لهذا الشعب بتقرير المصير، فلهذا ضحى مئات الآلاف من أبناء هذا الشعب، ولهذا وحده فقط يستعد شعبنا بمنتهى الإصرار لمزيد من التضحيات.