المدقق بصورة نقدية في تاريخ اليهود ما قبل وخلال الدولة العثمانية وبعدها، يرى أنهم حظوا بمكانة عالية سياسية واقتصادية وإعلامية ودينية، ولعبوا دورًا مهما في توجهات الدولة منذ سيطرة السلاجقة؛ إذ كان أحد وزرائها نسبةً إلى (جالانتيه) يهودي. وفي الدولة العثمانية كانت كل الجماعات اليهودية تحظى بحماية وحرية في معابدها ومدارسها الدينية، وكانت تحاسَب حسب قوانينها. هذا يؤكد ان قانون حماية اليهود الذي كان ساريًا في أوروبا تحت عنوان رقّ البلاط كان هنالك شبيهًا له، لكن ليس تحت تعبير رِقّ. هذا يعني أن مكانتهم في الدولة العثمانية كان أكبر منها في عهود حمايتهم في أوروبا، وكانوا يمارسون ذات الأعمال في الدولة العثمانية، أبرزها عملهم كمُرابِين، إضافةً إلى التجارة والصناعة. ووقي نفوذهم بعد استقبال الدولة العثمانية اليهود الذين طُرِدوا من الأندلس، هؤلاء كانوا من السافرديم الذين أتوا مع أموالهم وخبراتهم السياسية والصناعية التي حظوا بها تحت حكم الأمراء المسلمين في الأندلس، واستلموا مناصب عديدة كمستشارين وأمناء خزانة، مثل الدون أبراهام سينور وايساك أبرافائيل، هؤلاء المهاجرين الذين أتوا بالسفن الحربية العثمانية في عهد السلطان بايزيد الثاني، وقد أخذوا من أسطنبول مركزًا لهم.
وفي عهد السلطان سليم الأول، رافق اليهود الحملة العثمانية إلى فلسطين ومصر، وفي عهده استلم اليهود مناصب عدة كان أبرزها استلام جوزيف هامون رئاسة أطباء السلطان، كما أُسنِدت إلى العديد منهم مناصب في الخارجية والبعثات، إلى جانب وظائف صكّ العملة والصرافة والمالية. وتشكلت مؤسسة تمثل الجالية اليهودية لدى القصر. واستمر تأثير اليهود والتعامل الإيجابي معهم في كل عصور السلاطين، حتى أنهم في عهد السلطان عبد المجيد قاموا بإصدار الصحف الخاصة بهم وكانت صحيفة (لادينو) في إزمير عام 1843، وصحيفة ضوء أبناء إسرائيل 1853 في اسطنبول، وجريدة يومية عام 1860 باسم الجورنال الإسرائيلي.
وكان اليهود قد سمح لهم بالتطوع في الجيش والمشاركة في حروب الدولة العثمانية، وسمح لهم بتناول وجبات الكوشير (الحلال اليهودي).
وسمح لهم ببناء المعابد والمستشفيات والمقابر الخاصة بهم، وبحكم تعدد الجماعات اليهودية فقد سمح بإنشاء معابد لكل جماعة.
وكانت الجماعات في الدولة العثمانية على الشكل التالي:
1- رومانيوت: حينما فتح العثمانيون آسيا الصغرى واليونان والبلقان، وجـدوا يهود الدولة الرومانية الشـرقية (البيزنطيـة) الذين كانوا يتحدثون اليونانية، وكان يُطلَق عليهم أيضاً "الجريجوس"، أي "اليونانيون".
2- الإشكناز: مع بداية القرن الخامس عشر الميلادي، هاجرت جماعات من اليهود الإشكناز من ألمانيا وفرنسا إلى الدولة العثمانية.
3- السفارد: مع طرد يهود شبه جزيرة أيبريا الذين كانوا يتحدثون اللادينو، هاجرت أعداد منهم إلى الدولة العثمانية، وكانت هجرتهم تفوق في أعدادها الهجرة الإشكنازية. وقد أصبح السفارد أهم العناصر اليهودية وطبعوا بقية الجماعات بطابعهم، حتى أن اللادينو أصبحت هي لغة اليهود الأساسية، تماماً مثل اليديشية في أوروبا آنذاك.
4- اليهود المستعربة: وهم اليهود العرب الذين يتحدثون العربية، وينتمون إثنياً إلى الأمة العربية، ويرتدون الزي العربي.
5- اليهود الأكراد (في العراق): وكانوا يتحدثون الكردية. وكان منهم أيضاً من يتحدث الآرامية في القرى الجبلية البعيدة، كما كان سكان المدن منهم يتحدثون العربية.
6- اليهود القراؤون: وكان من بينهم من يتحدث العربية (في مصر) ومن يتحدث التركية (في شبه جزيرة القرم) وربما كان هؤلاء بقايا دولة الخزر اليهودية.
7- اليهود السامريون في فلسطين.
8- كانت هناك جماعات يهودية متناثرة تتحدث المجرية والرومانية وغيرها من اللغات الأوربية في المقاطعات التي ضمها العثمانيون. (المراجع: تاريخ اليهود في تركيا ورومانيوت ومعاداة السامية في تركيا)
وبالرغم من تعدّد الجماعات، وتعدد الخلافات بينهم كما حدث في عهد السلطان عبد العزيز من نزاعٍ بين (المتعصّبين دينيًا والعلمانيين)، إلا أنها كانت تحظى بحرية العبادة والنشاط السياسي والاقتصادي، وتشكيل الجمعيات الخاصة بهم، وحسب ما ورد بوصف الليدي ماري ورتلي مونتاكيو "إن اليهود يتمتعون بسلطانٍ لا يصدق في هذا البلد، فلهم امتيازات كثيرة يفوقون فيها جميع الأهالي الأتراك أنفسهم، وقد استقطبوا كل تجارة الإمبراطورية العثمانية في أيديهم". (المرجع: Guleryuz 2012 wtpm 40).
وفي عهد عبد الحميد الثاني، تمّ طرح توحيد الجماعات الدينية في كل أنحاء العالم في وثيقة قدمت لمؤتمر اسطنبول المتعلق بالحقوق لغير المسلمين عام 1877.
لقد عاش اليهود بحرية وحماية ومساواة في كل العهود في الدولة العثمانية وكان لهم تأثير سياسي واقتصادي واجتماعي وإعلامي.
وبناء على هذا يطرح السؤال التالي: رغم كل هذا النفوذ والإمكانيات السياسية والاقتصادية والإعلامية، لم تُطرَح في أيِّ وقتٍ قبل العام 1897، عام تأسيس الحركة الصهيونية، لم تُطرَح فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين أو حتى الهجرة إلى فلسطين!
لقد كان لليهود، في كل عصور الدولة العثمانية، الإمكانيات للهجرة والانتقال إلى فلسطين بأعداد كبيرة، ورغم ذلك لم يحصل هذا. فلماذا طُرِحت فكرة الوطن القومي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؟!
إن انتقال المجتمعات الأوروبية إلى مرحلة جديدة من التطور الاقتصادي والسياسي، جعلها تطرح فكرة الحدود القومية والدولة القومية القائمة على أساس المواطَنة، وهذا يعني أنّ الجمعات اليهودية قد تفقد الكثير من ميزاتها التي اكتسبتها في ظل الإمبراطوريات الشمولية، التي كانت تسمح لهم بالحرية الدينية التي كانت هي الإطار القانوني الخاص بهم ولمحاسبتهم، وكانوا يحظون بفرمانات خاصة بحمايتهم وأعمالهم، إن تشكيل الدول الرأسمالية الحديثة القائمة على أساس المواطَنة والحرية والعدالة والمساواة أمام القانون دفع بأكثرية الجماعات اليهودية إلى القبول بفكرة الوطن القومي، منهم من آثر هذا اعتقادًا بأنّه سيعيد إحياء الفكرة التلمودية، أمّا الرأسماليين فاعتقدوا أنّ هذا الوطن القومي سيشكل حمايةً وملاذًا لرؤوس أموالهم إذا ما تعرّضوا إلى ضغوط مالية في بلدانهم الأصلية.
وبناءً على هذا جاء تأسيس الحركة الصهيونية، كفكرةٍ رأسمالية تستخدم المقولات التلمودية كغطاءٍ لتشريع فكرة الوطن القومي في فلسطين.
وفي المرحلة الممتدة بين العامين 1900 و1924، كانت المرحلة الهامة التي تلاقت فيها مصالح الرأسمال اليهودي في وروبا مع مصالح الرؤية الاستعمارية البريطانية الفرنسية، في تقويض الدولة العثمانية.
وبرغم نفوذ اليهود في الدولة العثمانية انقلب هذا النفوذ الداعم للسلطنة إلى معادٍ لها، بعد تغيّر دور الجماعات اليهودية؛ وخاصة الإشكناز والسفارديم، بعد الاتفاق في المؤتمر الصهيوني الخامس والسادس على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وطُلِب من السلطان عبد الحميد الثاني الموافقة على هذا الخيار السياسي، لكنّهم اصطدموا برفض السلطان طلبَهم، وهنا تحوّلوا كعاملٍ داخليٍّ لتقويض السلطنة العثمانية، من خلال دعم مطالبات جمعية الاتحاد والترقّي التركية، التي كانت تطالب بعزل السلطان عبدالحميد الثاني.
من جانبٍ آخر، كانت الحركة الصهيونية طرحت مساعدتها للفرنسيين والبريطانيين في الحرب العالمية الأولى، وكان لها دورٌ في اتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور.
ولعبت عائلة روتشيلد البنكية- التي كانت تحظى بمواقع سياسية في مجلس اللوردات البريطاني والنفوذ في فرنسا- دورًا خفيًا في معاهدة سايكس-بيكو، التي قسّمت بلاد الشام بين الانتدابيْن، لما لهذا التقسيم من انعكاسٍ على وحدة البنية السياسية والاجتماعية لسورية وفلسطين، إذ سلخت فلسطين عن امتدادها الطبيعي لسورية، وكان لاختلاف طبيعة كل استعمارٍ دورًا في هذا الانسلاخ بأبعاده الاستراتيجية؛ فالاستعمار الفرنسي يقوم على أساس الإحلال الثقافي، أما البريطاني فيقوم على أساس تعميق التخلّف وخلق الأدوات الدينية السياسية، التي تستند إلى الاختلاف الديني والعرقي.
وفي ظلّ الانتداب البريطاني، نشأت أحزاب الدين السياسي لتقف أمام التوجّهات الوطنية والقومية لاحقًا.
إن إنشاء الحركة الصهيونية وأدواتها المالية، والوكالة اليهودية التي شُرِّعت قانونيًا عبر صك الانتداب، لتشارك حكومة الانتداب في إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، والتي استفادت-حكومة الانتداب- من نتائج الحرب العالمية الأولى، التي استغلت فيها بريطانيا وفرنسا العربَ الذين دعموا البريطانيين والفرنسيين في حربهم ضد الدولة العثمانية، وكانوا عاملًا داخليًا لتقويضها.
إنّ الطبيعة القبيليّة والعشائرية للمكونات العربية تمّ استثمارها من قبل الاستعمار في حربه، إذ قدّم إلى هذه المكوّنات وعودًا تفتقد إلى المصداقية، مستغلًا الطبيعة الأخلاقية للقبائل العربية التي كانت ترتبط بالوعود الشفوية، وفي أقصى الحالات الوعود الخِطابية التي فسّرتها بريطانيا بما يخدم مصالحها (رسائل مكماهون والشريف الحسين).
وجاء وعد بلفور وصكّ الانتداب كقوننة له، وأوجد له أرجلًا سياسية بعد أن استُكملت قوننته بالكتاب الأبيض لوزير المستعمرات تشرشل، الذي حصر الهجرة غرب الأردن؛ على أن يؤسس لـ"إمارة شرق الاردن"، التي سيكون لها دور إستراتيجيّ قادم في استيعاب النتائج السياسية والاجتماعية لإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
يتبع في الجزء الخامس...