سعى دونالد ترامب منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في تصفية القضية الفلسطينية والاجهاز عليها، واتخذ هذا المسعى صورًا وأشكالًا متعددة، لكن القراءات القاصرة في فهم هذا المسعى تجعل من الصعب فهم هذا الاندفاع الأمريكي غير المسبوق نحو هذا المسار، بحيث تطابقت وجهات النظر الأمريكية مع اليمين الصهيوني الحاكم في دولة الاحتلال.
هذا التطابق رافقه بناء تصورات مشتركة تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق ايقاعات الزمن الأمريكي الإسرائيلي بالتحالف التام مع نظم النفط الخليجي، هذا التشكيل الذي تحول دونه عقبات كثيرة تمنع حتى الآن من تبلور رؤية واضحة لدى صانع القرار الأمريكي رؤية تمتلك القدرة على الفعالية خارج حدود السيناريوهات المكتوبة.
فالحسابات على ما يبدو مختلفة بين الحقل والبيدر الذي مازال عصيًا على التطويع، لهذا نجد الإدارة الأمريكية مربكة في إعلان سياساتها العامة تجاه المنطقة ومتذبذبه في طرحها بشكلها النهائي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المضمار ويتعلق بقدرة الولايات المتحدة على الإمساك بالمنطقة وتطويعها، هل هي فعلًا قادرة على ذلك؟
الإجابة على هذا السؤال تتطلب فهمًا عميقا للعقلية الأمريكية التي تحكم البيت الأبيض اليوم والتي تتعامل مع القضايا الكبرى من منظار الصفقات التجارية ومنطق السوق والذي يسود فيه الأقوى والقادر على تسويق السلعة، بغض النظر عن مواقف الأطراف الأخرى ومدى تقبلها لهذا المنطق ولتلك الطروحات الفجة والوقحة والتي تفتقد إلى الحد الأدنى من مقومات صمودها على الأرض، وبخلاف الرؤية الأمريكية اليوم نجد القوى الدولية المتعددة تمتلك تصورات مختلفة عنها وبالتحديد موقفها الموحد من القضية الفلسطينية وسبل حلها والمختلفة بالتأكيد مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال؛ هذه القوى وإن اختلفت أسبابها، فهي التعقيد المبني على التشابك في محتلف الملفات، والمرتبط بقضايا خارج حدود السوق والذي تنتهجه وتسوق له الإدارة الأمريكية وتعتمده كعقيدة في فهم السياسة والسيطرة والقوة.
والمتابع لحراك السياسة الأمريكية في المنطقة يرى حتى هذه اللحظة أن تلك السياسات لم تحقق مبتغاها على الرغم من أن الإدارة الأمريكية قد أفرغت كل ما في جعبتها من أدوات السيطرة والتحكم، ولم تحقق مبتغاها! لكنها لم تُهزم حتى هذه اللحظة، على الرغم من تلقيها ضربات متعددة ومتنوعة وفي أكثر من زاوية؛ فالفلسطيني الرسمي والشعبي مجمع على رفض صفقة القرن، بالإضافة إلى عدم قدرة بعض النظم العربية الحليفة للولايات المتحدة على ابتلاع الطرح الأمريكي لأنه بكل بساطة يشكل خطرًا على أمنها القومي كالأردن ومصر، بينما السعودي عاجز عن الموافقة العلنية على الطرح الأمريكي، بالإضافة إلى غرقه في المستنقع اليمني الذي استنفذ القدرات السعودية على الصعيد المادي والسياسي وحولها إلى طرف عاجز عن اتخاذ المبادرة.
بالإضافة ما سبق، نجد أن الإدارة الأمريكية أصبحت في مواجهة مفتوحة مع إيران وتتلقى الضريات المتنوعة منها في قلب السعودية وبغداد مرورًا ببحر العرب وانتهاءً بالحدود الجنوبية والشمالية ل فلسطين بعد التعهد الإيراني المعلن بإسقاط صفقة القرن.
كل تلك الصراعات التي تجري على جغرافيا البركان تجعل من الصعب على الإدارة الأمريكية حسم الصراع، ففي حده الأقصى تستطيع إدارة الصراع كما الإدارات التي سبقتها، وكل الادعاءات (الترامبية) مجرد لغو لا يرتقي إلى السياسات العملية؛ لأنه وبكل بساطة حتى تستطيع الإدارة الأمريكية امتلاك زمام المبادرة والدفع بتصوراتها لتصل منتهاها لا بد لها من خوض حروب دامية في المنطقة والتي يلزمها اللحم الأبيض والمال الذي تفتقده حتى الوقت هذا.
نحن إذًا أمام مشهد متشابك ومعقد ومتغير ولا أحد قادر في العالم مهما علا شأنه أن يفرض منطقه على الآخرين، فالقوة والضعف لا يفسران بامتلاك المال والسلاح فقط، فيما التاريخ يقف شاهدًا على أن الشعوب قادرة على انتزاع حريتها.. وحريتنا قادمة مهما تأخر الوقت.