Menu

دفن النكبة: هل تنتهي الجريمة بإخفاء وثائقها؟!

غزة_ إيمان العبد _ خاص بوابة الهدف

طوال سنوات ما بعد النكبة روت جدّاتنا لأجيالٍ قصص تهجيرهن وعائلاتهنّ، وعلقت في الذاكرة التي كبرت معهن بعمر النكبة أو أكثر، عن قتل النساء الحوامل والأطفال وكبار السن، وخوف الأهالي من الفظائع التي ارتكبتها العصابات الصهيونيّة في قُرى مُجاورة، والأقاويل تارة والترهيب تارةً أخرى، التي دفعت بمُعظمها سكّان القُرى الفلسطينيّة للهرب، عدا عن القصف والتفجير الذي لحق بالمنازل والقُرى المأهولة، والقتل بالجمُلة، وحتى الاستهداف الذي طالهم في الطرقات أثناء تهجيرهم وطردهم.

يروي أمنون نيومان الجندي السابق في عصابات "البلماخ" الصهيونيّة -"القوة المُتحركة الضاربة" التابعة لعصابات "الهاجاناه"- شهادته عن مشاركته في حرب النكبة منذ شباط/فبراير عام 1948، وحتى تشرين الأوّل/أكتوبر عام 1949، وكيف شقّت عصابات "البلماخ" الطُرق في القرى الفلسطينيّة، رافضاً التحدث بالتفاصيل الدقيقة للمجازر، لخجله من تلك الأحداث.

تحدّث نيومان في شهادة مُصوّرة خلال جلسة علنيّة نظّمها مركز "زوخروت – ذاكرات"، عام 2011، عن احتلال قُرى فلسطينيّة، عام 1948 من قِبل جنود "البلماخ"، وعن جريمة الاحتلال بمحو آثار مجازره وتهجيره للفلسطينيين من منازلهم وقُراهم، فيقول نيومان "رأيت قُرى في الشمال، كنت أعرفها جيّداً، لقد اختفت، أتت الجرّافات على آثارها لتمحو المنطقة، وزرعوا الأشجار مكانها".

ومن يرى الأحراش والغابات في فلسطين المُحتلّة اليوم، يُدرك أنها تحصيل عمليّات تشجير البلاد على يد الحركة الصهيونيّة، منذ الفترة العثمانيّة وحتى اليوم، حيث زرعت "ككال – دائرة أراضي إسرائيل" بين أعوام (1904-1948) أكثر من (5) مليون شتلة على مساحة (23) ألف دونم، كان الهدف من هذا التشجير امتلاك الأرض الفلسطينيّة عنوةً "بفعل الطبيعة"، وتغييب مشهد القُرى المُدمّرة بعد النكبة، لتبتلعها الطبيعة.

بالعودة إلى شهادة نيومان، يقول إنّ الفلسطينيين لم يخرجوا من قُراهم طواعية "بل نحن طردناهم" في إشارة إلى العصابات الصهيونيّة التي اجتاحت القُرى الفلسطينيّة عام 1948، ولفت إلى أنّ كل ما حدث كان بسبب العقليّة الصهيونيّة، "فالأرض لم تكن فارغة بلا سكّان كما قيل لي وأنا طفل، حين كنّا أطفال كان يُقال لنا مثل هذه القصص، لكن الأرض لم تكن فارغة"، وتابع "لم ندخل القُرى للبقاء فيها، لكن لطرد سكّانها، لقد حرقنا منازلهم".

إخفاء وثائق لتقويض مصداقيّة التاريخ

في تحقيق مُطوّل نشرته صحيفة "هآرتس" التابعة للاحتلال، الجمعة 5 تموز/يوليو، حول إخفاء الاحتلال لوثائق تاريخيّة، خاصة تلك المُتعلقة بأحداث وقعت أثناء النكبة عام 1948، ووثائق مُتعلّقة بالبرنامج النووي لدى الكيان الصهيوني، أوضح أنّ طواقم تابعة لما تُسمّى بوزارة الأمن لدى الاحتلال، تعمل منذ مطلع العقد الحالي، على إجراء مسح لأرشيفات في أنحاء البلاد، وإخفاء الوثائق، حيث نقلت المئات منها ودفنتها في خزنات، في إطار عمليّة منهجيّة لطمس أدلّة على النكبة.

وتبيّن من تقرير أعدّه باحثون في معهد "عكيفوت" الذي يُعنى بكشف الوثائق التاريخيّة السريّة المُتعلّقة بكشف الصراع "الإسرائيلي – الفلسطيني"، أنّ المسؤول عن حملة إخفاء هذه الوثائق، هي دائرة "المسؤول عن الأمن في جهاز الأمن"، وهو جهاز سري يخضع نشاطه وميزانيّته أيضاً للسريّة.

وأكّد تقرير المعهد أنّ أفراد هذا الجهاز أخفوا توثيقاً تاريخيّاً خلافاً للقانون، ومن دون أي صلاحيّة قانونيّة، وفي بعض الحالات على الأقل، أخفوا وثائق صادقت الرقابة العسكريّة على نشرها سابقاً، ونقلوا إلى الخزنات وثائق تم الكشف عن فحواها في أبحاث أجراها مؤرخون "إسرائيليّون".

ومن بين الوثائق المخفيّة شهادات جنرالات في جيش الاحتلال حول قتل مواطنين فلسطينيين وهدم قُرى، وكذلك وثائق مُتعلّقة بتهجير البدو. وقال مُدراء أرشيفات إنّ أفراد الجهاز تعاملوا مع الأرشيفات كأنها بملكيّتهم وأحياناً هدّدوا المُدراء.

يحيئيل حوريف، الذي كان رئيس الجهاز طوال عشرين عاماً، وأنهى مهامه عام 2007، اعترف بأنه هو الذي أخرج هذه الحملة إلى حيّز التنفيذ، وهي مُتواصلة حتى يومنا هذا. وفي حديثه للصحيفة، قال إنّ هناك منطق في إخفاء أحداث عام 1948 لأنّ كشفها من شأنه أن يؤدّي إلى غليان لدى السكّان العرب.

وعن إخفاء وثائق بعد أن نُشرت في الماضي، قال حوريف إنّ الغاية من ذلك تقويض مصداقيّة أبحاث حول تاريخ قضيّة اللاجئين، "فالحكم على ادّعاء باحث مدعوم بوثيقة ليس كالحكم على ادّعاء لا يُمكن إثباته أو تفنيده".

بداية الجريمة "مجزرة الصفصاف"

عثرت المؤرخة تمار نوفيك في أيّار/مايو عام 2015، على وثيقة في أرشيف "يد يعري" في "كيبوتس جفعات حبيبا" التابع لحزب "مبام" اليساري، وتحدثت الوثيقة عن مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال بحق سكان قرية الصفصاف الفلسطينية في الجليل، واحتُلّت خلال عمليّة "حيرام" في نهاية عام 1948.

تقول الوثيقة، "صفصاف – أمسكوا بـ 52 رجلاً، قيّدوهم الواحد بالآخر، حفروا بئراً وأطلقوا النار عليهم، 10 كانوا يُنازعون الموت. جاءت نساء، طلبن الرحمة. وجدوا جثث 6 مُسنين، 3 حالات اغتصاب، إحداها لبنت عمرها 14عاماً، اغتصبت من قبل 4 رجال صهاينة وأطلقوا النار عليها وقتلوها، وقطعوا أصابع أحدهن بسكين كي يأخذوا الخاتم".

ووصف كاتب الوثيقة بعد ذلك سلسلة من المجازر وعمليّات النهب والتنكيل، وحسب المؤرخة نوفيك إنه "لا يوجد اسم للوثيقة وغير واضح من كتبها، والوثيقة مُقتطعة في وسطها. وقد أقلقني هذا كثيراً، وعرفت أنّ حقيقة عثوري على وثيقة كهذه يضع على كاهلي مسؤوليّة استيضاح الأمر".

وتدعم الوثيقة التي عثرت عليها المؤرخة، الأصوات التي تعالت باتهامات لـ "اللواء 7" في جيش الاحتلال الذي ارتكب جرائم حرب في الصفصاف، كما تُشكّل دليل آخر على أنّ القيادة السياسيّة "الإسرائيلية" في حينه كانت على علم بالمجازر.

التقت نوفيك مع المؤرخ بيني موريس الذي نشر كُتباً حول المجازر إبان النكبة ونشوء قضيّة اللاجئين، وتبيّن أنه اطّلع على وثيقة مُشابهة للغاية موجودة في أرشيف "يد يعري"، لكن حين عادت نوفيك للأرشيف من أجل الاطلاع على الوثيقة الثانية، فوجئت بأنها غير موجودة، وحين سألت عن سبب اختفائها قيل إنها أدخِلت لخزنة بأمر من مسؤولين في "وزارة الأمن"، وكذلك موريس كان قد اطّلع على وثيقة لجيش الاحتلال حول مجزرة دير ياسين، إلا أنه حين عاد للاطلاع عليها لاحقاً تبيّن له أنها سريّة ولا يُمكن الاطلاع عليها، حسب قوله.

وثيقة أخرى أيضاً أخفيت من جهاز "المسؤول عن الأمن في وزارة الأمن"، كتبها ضابط في "خدمة المعلومات"، أي جهاز المخابرات التابع لمنظمة "الهاغاناه" الصهيونيّة، وثّقت خلال الأحداث ظروف خلو فلسطين من سكانها، وتطرّقت لظروف كل قرية، وكانت الوثيقة قد كُتبت في نهاية حزيران/يونيو 1948، تحت عنوان "حركة هجرة عرب أرض إسرائيل".

هذه الوثيقة تحدّث عنها موريس في مقال نشره عام 1986، وبعدها تم سحبها من الأرشيف بهدف إخفائها عن الباحثين، وبعد سنوات أصدر الجهاز المذكور أمراً بإبقائها قيد السريّة، إلا أنه بعد الأمر الصادر بسنوات، عثر باحثون من معهد "عكيفوت" على نسخة منها وطلبوا فحصها من قبل الرقابة العسكرية، التي صادقت على نشرها دون تحفظ.

حسب كاتب الوثيقة، إنّ (70) بالمائة من العرب غادروا فلسطين بتأثير من العمليّات العسكريّة اليهودي، وتضمّنت تدريجاً لأسباب التهجير وفق أهميّتها: السبب الأوّل هو "عمليّات مُعاديّة يهوديّة مُباشرة ضد أماكن سكنيّة عربيّة"، السبب الثاني تأثير تلك العمليّات على قُرى مُجاورة، السبب الثالث هو عمليّات نفّذتها مُنظمتي "إيتسيل" و"ليحي"، السبب الرابع أوامر مؤسسات عربيّة و"عصابات"، السبب الخامس "عمليّة هجومية يهودية لدفع السكان العرب على الهروب"، والسبب السادس "أوامر إنذاريّة بالإخلاء" صدرت عن قوات الاحتلال.

ولم يُنكر كاتب الوثيقة أنّ العمليّات العدائيّة كانت السبب الأساسي لحركة السكان، لافتاً إلى أنّ "مُكبرات الصوت باللغة العربيّة أثبتت نجاعتها في مناسبات عدة، واستُغلّت بالشكل اللائق"، وفيما يتعلق بعمليّات "إيتسيل" و"ليحي"، "الكثير من قُرى الجليل الأوسط بدأوا يهربون بعد خطف وجهاء الشيخ مؤنس، وقد تعلّم العربي أنه ليس كافياً إبرام اتفاق مع الهاغاناه، وأنه يوجد يهود آخرون ينبغي الحذر منهم".

وجاء في الوثيقة مُلحق يصف أسباب تهجير سكان عشرات القرى العربيّة "عين زيتون-القضاء على القرية بأيدينا"، "قبطية – إزعاج، تهديد بعمليّة"، "علمانية – عملياتنا، قُتل الكثيرون"، "الطيرة-نصيحة يهودية وديّة"، "عرب عمرير-بعد سطو وقتل نفذه ايتسيل وليحي"، "سمسم – إنذار وجهناه"، "بير سليم-هجوم على بيت الأيتام"، "زرنوقة-احتلال وتهجير".

شهادات محذوفة

كذلك قام الجهاز المسؤول، بإخفاء أي شهادة حتى الشفهيّة منها، حول النكبة، وطمس جرائم المنظمات الصهيونية والكيان، ووضع أفراد الجهاز يدهم على تسجيلات سلسلة مقابلات مع شخصيّات عامة وعسكريين "إسرائيليين" سابقين، أجراها "مركز رابين" في بداية سنوات الألفين، في إطار مشروع لتوثيق عملهم في السلك الحكومي، وجرت مقارنة نُسخ أصليّة لعدة مقابلات حصلت عليها الصحيفة، ومقابلات يُسمح بالاطلاع عليها.

وحُذفت مقاطع من الشهادات، منها لضابط يُدعى أرييه شاليف، تحدث فيها عن طرد سكان قرية صبرا إلى ما وراء الحدود، حيث حُذفت جملة "لقد كانت هناك مشكلة جديّة في الأغوار، وكان هناك لاجئون أرادوا العودة إلى الأغوار، وإلى المثلث، وقمنا بطردهم، وأنا التقيت معهم وأقنعتهم ألا يرغبوا بالعودة، ولدي وثائق تشهد على ذلك".

أخفى الجهاز أيضاً شهادة الضابط إلعاد بيلد، وقال فيها "دعني أقول لك شيئاً أكثر بشاعة ووحشيّة، عن الغزوة الكبيرة في سعسع، وكان هدفها ردعهم عمليّاً، والقول لهم: أيها الأصدقاء الأعزاء، بإمكان البلماخ الوصول إلى أي مكان، وأنتم لستم محميّون. لقد كان هذا قلب المجتمع العربي، لكن ماذا فعلنا؟ فجّرت وحدتي عشرات البيوت وكل شيء كان هناك".

في مقابلة أخرى تحدث الضابط برتبة لواء أبراهام تمير، عن عمليات في القرى العربية بموجب سياسة رئيس حكومة الاحتلال الأولى، بن غوريون، وقال فيها "التطور الأول كان عندما وصلت معلومات عن مسيرات لاجئين من الأردن باتجاه القُرى المُهجرة، وعندها أقر بن غوريون سياسة وجوب الهدم كي لا يكون لديهم مكان يعودون إليه، وهذا يعني جميع القرى العربية والتي غالبيتها كانت في المنطقة الوسطى".

وتابع "كانت البيوت قائمة، وكان ينبغي ألا يكون هناك مكان للعودة، فجندت كل الكتيبة الهندسية التابعة للمنطقة الوسطى، وسوّيت خلال 48 ساعة هذه القُرى بالأرض. نقطة. لا مكان للعودة إليه. بدون تردد. هذه كانت السياسة".

الصناديق المخفيّة

يُشير التحقيق إلى أنّ الخزنة في أرشيف "يد يعري" عبارة عن غرفة مُغلقة بإحكام، تقع في الطابق الأول تحت الأرض، وفيها صناديق تحتوي على وثائق سريّة تابعة لـ "هشومير هتسعير"، "الكيبوتس ال قطر ي"، "حزب مبام"، "حزب ميرتس"، وحركات أخرى بينها "السلام الآن"، فيما يُدير الأرشيف دافيد أميتاي، الذي قال إنّ أفراد جهاز "المسؤول عن الأمن في وزارة الأمن" كانوا يأتون إلى الأرشيف في السنوات (2009 – 2011) مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعياً، وكانوا أشخاص قيد التقاعد من وزارة الأمن ومن تأهيل العمل في أرشيفات، وبحثوا في الوثائق وفقاً لكلمات مثل "نووي، أمن، رقابة عسكرية"، وخصصوا وقتاً كبيراً لحرب عام 1948 ومصير القُرى العربيّة.

الحكم العسكري

أحد الملفات في الخزنة كان عن الحكم العسكري الذي فرضه الكيان الصهيوني منذ تأسيسه وحتى عام 1965، على ما أسموه بـ "الأقليّة العربيّة"، واطّلع أميتاي على الملف، في أعقاب طلب قدمه الناشط اليساري، البروفيسور غادي إلغازي، ورغم موقف الجهاز إلا أنّ أميتاي قرر فتح الملف.

البروفيسور إلغازي قال إنّ قرار الجهاز بإغلاق ملف الحكم العسكري نابع من عدّة أسباب مُحتملة، أحدها يتعلّق بمُلحق سري لتقرير لجنة دقّقت في الحكم العسكري، ويتناول الصراع على الأراضي بين الدولة والمُواطنين العرب، ويكاد لا يتطرّق إلى قضايا أمنيّة.

وأشار إلغازي إلى أنّ تقرير لجنة وزارية لشؤون الحكم العسكري هو سبب مُحتمل آخر، وفي أحد الملاحق السريّة يشرح الضابط ميشائيل شوحام المسؤول في الحكم العسكري، أنّ أحد أسباب عدم إلغاء الحكم العسكري كان الحاجة إلى تقييد توجّه المواطنين العرب إلى سوق العمل، ومنع بناء القُرى المُهجرة مُجدداً، وسبب ثالث مُحتمل، هو شهادة حول طرد البدو من مناطق في النقب.