عدت من زيارة إلى سوريا، وتحديدًا إلى دمشق مدينة الياسمين، بعد غياب عنها لمدة ثماني سنوات. مكثت فيها سبعة أيام هزت مشاعري بشدة، فسوريا اليوم تبدو مختلفة بعد سنوات الحرب والمعاناة، فهي دحرت المؤامرة التي استهدفتها، والتي كانت تهدف إلى تقسيمها والمضي في إقامة الشرق الأوسط الجديد.
لا يعني ما سبق أن سوريا لم تكن مثلها مثل بقية الدول التي بحاجة إلى إصلاح وتجديد وتغيير، وإلى ثورة بكل معنى الكلمة، ولكن طريق الثورة لا يمر عبر الاستعانة بالشيطان، لأن من يستعن به يصبح عبدًا له. فالثورة التي تحتاجها سوريا قلب العروبة النابض تحفظها وتحافظ على وحدتها، وتبني على كل العناصر المضيئة فيها، وتعمق استقلالها ووطنيتها، وتسعى لتجسيد القضية الفلسطينية، القضية المركزية للشعوب العربية شاء من شاء وأبى من أبى، خصوصًا الذين اعتبروا أن تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية يقضي على مركزيتها جرّاء التردي العربي والحروب العربية البينية وبين المحاور المختلفة.
القضية الفلسطينية مركزية للعرب لأسباب لا حصر لها، ولا يتسع لها هذا المقال، خصوصًا في بلدان الطوق، التي عانت الأمرين من الوجود الاستعماري الاستيطاني العنصري الذي لم يكن يستهدف فلسطين فقط، ولا يقدم حلًا لليهود الذين استُغلوا لتحقيق هذا المشروع الصهيوني، الذي رغم أن العديد من قادته التاريخيين ملحدون لكنهم روّجوا بأن "الرب أوفى بوعده بمنح أرض المعياد لشعب الله المختار"؛ وإنما أدى إلى خلق كيان معادٍ غريب عن المنطقة العربية، ويعمل على إبقائها أسيرة التخلف والتبعية والتجزئة.
سوريا بحاجة إلى ثورة تحفظ وحدتها، وتحقق الديمقراطية التي تحتكم إلى الشعب، وتبني المؤسسات، وتجسّد فصل السلطات واستقلالها، خصوصًا سلطة القضاء، وتحقّق سيادة القانون، وتؤمّن لقمة العيش والخبز والعيش الكريم والعدالة، وتجسّد المواطنة من دون تفريق بين المواطنين على أساس العرق والدين والجنس واللون والطائفة، وتحترم حقوق الإنسان وحرياته وكرامته.
إن دحر المؤامرة التي استهدفت بقاء سوريا ووحدتها واستقلالها التي اشتركت فيها أطراف محلية وعربية وإقليمية ودولية يحتل الأولوية، لا سيما أنها استهدفت كل ما هو مضيء، وليس إنارة الظلام وفتح طريق الحرية. ولكن لا ضمان للتقدم إلى الأمام من دون استخلاص الدروس والعبر مما جرى، وفتح طريق جديد يُحصّن سوريا من الداخل، ويجعلها عصيّة على المؤامرات الداخلية والخارجية.
منذ أن وصلنا إلى الحدود السورية لم تختلف إجراءات الدخول والمعاملة جوهريًّا عما كانت عليه سابقًا، باستثناء فرض رسوم جديدة على الدخول مبررة بسوء الأوضاع الاقتصادية. فالحياة تبدو في دمشق عادية إلى حد كبير، فلا آثار تذكر للدمار، بخلاف الحواجز على مداخلها وعلى الطرق فيها وإليها، والدمار الذي تراه في مناطق عدة حولها، وارتفاع الأسعار، وانخفاض سعر صرف الليرة إلى 600 ليرة للدولار الواحد.
فالحرب في سوريا لم تنته بعد، وشبحها لا يزال يحلق في السماء، ويظهر في المناطق الواقعة خارج سيطرة السلطة المركزية بدعم وتواجد من قوات أجنبية، وفي ظل وجود أكثر من 150 ألف مسلح من جنسيات مختلفة في منطقة إدلب ينتمون إلى "فصائل المعارضة"، وخصوصًا "الإسلامية"، وهؤلاء ترفض دولهم استقبالهم.
وكذلك يظهر استمرار الحرب في الحصار الاقتصادي، الذي يعد شكلًا من أشكال الحرب العسكرية، فأطراف المؤامرة لا تزال تحاول تحقيق الأهداف التي لم تحققها الحرب العسكرية، من خلال أشكال الحرب الأخرى، مثل منع عودة المهجّرين وإحكام الحصار ومنع الإعمار.
كما تستمر الحرب في القصف الإسرائيلي المستمر الذي يثبت أن إسرائيل كانت ولا تزال حاضرة في جزء مهم مما شهدته سوريا والمنطقة. فمن الذي يعطي إسرائيل الحق فيما تدّعيه من "دفاع عن النفس"، والمشاركة في تحديد مصير سوريا، ومع من تتحالف أو لا تتحالف، وما تحصل عليه سوريا من سلاح وعناصر قوة، وهي الدولة العدوانية المحتلة، والخارجة عن القانون، والنووية المدججة بكل أنواع الأسلحة، بما فيها المحرمة دوليًا!
ومن أشد اللحظات ألمًا في الزيارة ما شاهدته من بقايا مخيم اليرموك، عاصمة اللجوء الفلسطيني، مخيم الصمود والشهداء، الذي كان بمنزلة المركز التجاري الثالث في عموم سوريا، فكلمة مخيم لا تنطبق عليه إلا مجازيًا. فقد تعرّض 40% من المخيم لتدمير كامل، في حين تعرّض الباقي لتدمير متفاوت وعمليات نهب طالت كل شيء يمكن خلعه أو حمله حتى البلاط ومقابس الكهرباء.
المخيم الذي كان يضج بالحياة بمختلف أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويضم مع الأحياء المحيطة به مليون إنسان أشبه بمدينة أشباح. لا حركة تذكر من الناس ولا حتى الحيوانات، باستثناء بعض العائلات التي استمرت في المخيم رغم كل شيء. فلا توجد حياة في المخيم، وهذا مشهد يدمي القلب، ويصيب الروح في الصميم. مع أن هناك قرارًا أصدره الرئيس السوري بإعادة إعماره، لكن من غير المعروف كيف ومتى ومن سيمول هذا العمل الكبير.
تقترب سوريا من حسم الحرب عسكريًا، لكن المدافع لم تغمد بعد، والصراع على سوريا وفيها لم ينته بعد، والتقسيم أصبح أبعد. وهناك جولات قادمة سياسية واقتصادية، وربما عسكرية، تلوح بالأفق لحسم الحرب نهائيًا.
تتفاوت أرقام أعداد الضحايا من الفلسطينيين والذين هاجروا من سوريا من أصل عددهم الذي ناهز النصف مليون، ولكن تشير أدنى التقديرات إلى أنّ هناك 150 ألفًا اضطروا للهرب من كل أشكال الموت والقهر التي مرت، منهم 100 ألف إلى أوروبا وكندا وغيرهما، والباقي في لبنان، والقليل منهم في تركيا.
الأيام الأصعب خلفنا من دون التقليل من المصاعب والتحديات الجسيمة، فمصير سوريا يؤثر بشدة على مصير القضية الفلسطينية، لدرجة يمكن القول أنه لو نجحت مؤامرة تقسيم سوريا على أسس طائفية ومذهبية وخضعت لأصحاب الشرق الأوسط الجديد، لكانت القضية الفلسطينية أصعب مما هي عليه الآن بكثير على صعوبته.
كما يؤثر مصير سوريا على خارطة المنطقة والعالم، لذلك كل هذه الصراعات من أطراف لا حصر لها. وتشهد المنطقة مثلما يشهد العالم إرهاصات للتغيير الشامل، حيث لم تبق الولايات المتحدة القوة الأحادية المسيطرة على العالم، ولن تكون الدولة الأقوى على المدى المباشر والمتوسط. التغيير القادم حتمًا لا يؤدي بالضرورة إلى قطف الشعوب العربية لثماره، بل لا بد من توفر الأطراف والأحزاب والقيادات العربية المسلحة بالوعي والإرادة والقدرة على مواكبة التغييرات القادمة والتأثير عليها بما يحقق الأهداف والأحلام والمطامح العربية.
فالتغيير لن يحدث المطلوب وحده، بل بحاجة إلى مستلزمات لا بد من توفيرها، وإذا لم تتوفر ستصب الماء في طواحين الأعداء.
وأخيرًا، لا يفوتني التنويه إلى أنّ رائحة دمشق لا تزال تعبق برائحة الياسمين، وروح سوريا باقية تجدها في عيون الناس وعقولهم وقلوبهم، وفي الحميدية والبزورية وباب توما وبلودان وصيدنايا والحمامات الشامية، وفي الجامع الأموي وكنيسة القديس حنانيا، وفي المأكولات والحلويات التي لا يعلو عليها أحد، وكذلك في الفنون والتراث، حيث لا يزال عبق التاريخ سيد الموقف.