Menu

وزراء الثقافة وثقافة الوزراء!

أحمد عبد المعطي حجازي

كنت أحب أن أكمل ما بدأته يوم الأربعاء الماضى عن «القناة، والأوبرا، والبرلمان»، فمازال هناك الكثير يجب أن يقال عن كل من هذه المفردات وعما يربط بعضها ببعض، وعن نهضتنا التى آن أن نعود إليها ونستأنفها بعد أن تخلينا عنها أكثر من نصف قرن .

لكننى تابعت ما يحدث فى وزارة الثقافة وما تنشره الصحف وترسله الإذاعات حول القرارات التى اتخذها الوزير باستبعاد من استبعدهم من رؤساء الهيئات التابعة لوزارته وإحلال غيرهم محلهم، وما أثارته هذه القرارات فى أوساط المثقفين وغيرهم من ردود فعل اتسعت دائرتها وتزايدت حدتها وأصبحت أزمة لا يمكن أن نتجاهلها ونتركها للعابث والمتطفل، بل علينا أن نواجهها بحزم ومسئولية، ونجتهد فى معرفة أسبابها القريبة والبعيدة التى لم تنجم اليوم، وإنما هى واقع موروث لا يفعل فعله فى وزارة الثقافة وحدها، وإنما يتجاوزها إلى غيرها من الوزارات والمؤسسات، سوى أن ما يحدث فى الثقافة يجابه بأصوات مسموعة أكثر من غيرها.

ولا أظن أن أحدا يستطيع أن ينكر على الوزير حقه فى أن يختار من يعاونونه، وأن يضع فى كل مؤسسة من المؤسسات التابعة لوزارته من يرى فيه الكفاءة الفنية والإدارية التى تمكنه من العمل مع غيره فى مؤسسته وفى باقى المؤسسات بالأسلوب الذى يؤدى إلى ضبط العمل الإدارى وتنشيط الإنتاج الفنى فى مؤسسات الوزارة كلها، وكل ما يطلب من الوزير وهو يمارس هذا الحق أن يكون مدركا لرسالة الوزارة ووظيفة كل مؤسسة من مؤسساتها، وأن يحفظ لكل ذى حق فى الوزارة حقوقه سواء كان قريبا منه أو كان بعيدا عنه، وأن يتحلى قبل ذلك وبعد ذلك بما يجعله مقنعا لمن يعملون تحت رئاسته وللجمهور المثقف الذى تخاطبه وزارة الثقافة وتتجه إليه، وذلك بأن يتحرى الموضوعية، ويضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، ويقبل النقد ويعترف بالخطأ ويصححه كما يجب أن يفعل كل مسئول فى الدولة، خاصة حين يكون مسئولا عن الثقافة التى هى نشاط أخلاقى بالدرجة الأولى نعبر فيه عن توقنا للحرية وبحثنا الدائب عن الحق والخير والجمال.

ليس مطلوبا من وزير الثقافة أن يكون شاعرا أو كاتبا أو ممثلا، لأننا لم ننشئ وزارة الثقافة لتكتب لنا أو لتمثل أو لتغنى، وإنما أنشأناها لترعى الكتاب والممثلين والمغنين والمصورين وتفتح أمامهم طرق التجويد والتجديد والإبداع، وهذا ما صنعه أول وزير للثقافة فى مصر.

ثروت عكاشة لم يخرج أفلاما ولم يكتب روايات ولم يؤلف مسرحيات، لكنه أنشأ أكاديمية الفنون لتزودنا بالمخرجين والممثلين والملحنين والعازفين وراقصى الباليه، أنشأ أكاديمية الفنون لأنه كان يحب هذه الفنون ويتذوقها ويعرف كيف يمكن ل مصر أن تحتضنها وترعاها حتى تنمو فيها وتزدهر.

فإذا سألنى القارئ العزيز عما أعرفه عن ثقافة وزير الثقافة الحالى، أجبته معتذرا بأننى عاجز عن الجواب، لأننى لم أقرأ له شيئا، ولم أدخل معه فى حوار، ولم أطلع على الأسباب والمبررات التى رشحته لتولى منصبه.

رأيته مرات، وحضرت معه ومع غيره اجتماعات مجلس إدارة دار الكتب، وعرفت أنه يشتغل بالتدريس فى جامعة الأزهر، وأنه متخصص فى التاريخ، غير أن الفرصة لم تسمح لى بأن أعرف شيئا عن ثقافته أو عن رؤيته للثقافة عامة وللثقافة المصرية بوجه خاص، لكن هناك انطباعا وصلنى من الملابسات التى صاحبت دخوله الوزارة بديلا عن جابر عصفور ـ فضلا عما نشر حوله وحول نشاطه من أنباء وتعليقات ـ أقول إن الانطباع الذى وصلنى من هذا الذى أشرت إليه، أنه رجل محافظ، وأن علاقته بالثقافة المصرية من حيث هى تراث حافل، ومن حيث هى أسئلة مطروحة، وقضايا راهنة، علاقة محدودة.

وأنا هنا أرجم بالغيب والذنب ليس ذنبى، وإنما هو ذنب الوزير وذنب الذين استوزروه، لأنهم لم يحدثونا عنه، ولم يشرحوا لنا الأسباب التى رشحته لتولى المنصب الخطير، ولأنه هو لم يحدثنا عن نفسه، ولم يطلعنا على ثقافته، ولم يعرض علينا تصورا لما سوف يصنعه فى الثقافة أو سياسة أو برنامجا يعدنا بتنفيذه.. ولهذا أسأل نفسى عنه ولا أجيب، ويسألنى القارئ فأعتذر.

ولأننا لا نعرف شيئا عن ثقافة الوزير، أو عن فكرته عن الثقافة، أو عن خطته للعمل فيها والنهوض بها.. فنحن لا نعرف شيئا عن الدوافع التى أملت عليه أن يستبعد من استبعدهم من المسئولين فى وزارته وإحلال غيرهم محلهم.. ولهذا لا نستطيع أن نقول إن الوزير كان موضوعيا فى إجراءاته الأخيرة أو أنه قصد بها تنشيط الحركة الثقافية وتذليل العقبات التى تواجهها.. وليس أمامنا ـ والأمر كذلك ـ إلا أن نفسر إجراءات الوزير تفسيرا نفعيا أو مكتبيا، فنقول إنه قصد بهذه الإجراءات أن يستبعد الذين ارتبطت أسماؤهم بأسماء من سبقوه من الوزراء ويحل محلهم آخرين يضمن ولاءهم له، خاصة أن الظروف والملابسات التى تولى فيها منصبه تجعله متوجسا محتاجا للشعور بالأمان، خاصة من ناحية العاملين معه، وهو سلوك لجأ إليه قبله جابر عصفور، ومن سبق جابر عصفور، ممن تولوا المسئولية فى جميع الوزارات خلال العقود الستة الماضية التى انفرد فيها رؤساء الدولة بالسلطة وحكموا البلاد بواسطة الخبراء ـ التكنوقراط ـ بديلا عن الحكومات الحزبية المنتخبة.

فى النظم الديمقراطية تتداول الأحزاب السياسية السلطة، فالحزب الفائز بأغلبية الأصوات فى الانتخابات البرلمانية يشكل الحكومة ليطبق برنامجه الذى فاز بثقة الناخبين، ولهذا سيكون هو المرجع الذى يحتكم له وزراء الحزب فى تعاملهم مع من يعملون معهم فى الوزارات المختلفة، وعلى هذا الأساس الموضوعى يختار الوزير معاونيه، لا ليضمن ولاءهم لشخصه، بل للبرنامج الذى يثق فى قدرته على تنفيذه، لأن وصوله للسلطة كان استحقاقا سياسيا حصل عليه بإرادة الشعب الذى هو مصدر السلطات، ولم يكن منحة من حاكم فرد، ثم لأنه يطبق فى وزارته برنامجا متفقا عليه ولا يحتكم فيه لنزعة فردية أو مصلحة شخصية، ومن هنا ثقته فى نفسه وقدرته على تطبيق برنامجه دون أن يشعر بأنه مدين لأحد أو دائن لغيره، فإذا وقع مع ذلك فى خطأ أو انحراف فسوف تكشف الديمقراطية خطأه أو انحرافه، وسوف تحاسبه وتعاقبه.

ولأننا مازلنا نعانى من آثار الماضى الذى حرمنا فيه من نعمة الديمقراطية.. فالقضية التى تشغلنا الآن فى الثقافة لا علاقة لها بالثقافة، نحن لا نتحدث عن الأخطاء التى تهدد اللغة الفصحى، ولا عن غياب النقد، ولا عن انصراف الجمهور عن المسرح، ولا عن تراجع الإنتاج السينمائى.. وإنما نتحدث عن أسماء لا نعرف أكثرها حلت محل أسماء لا نعرف أكثرها، ونحن لا نقيم أداء وزارة الثقافة منذ إنشائها إلى اليوم، ولا نميز بين ما يجب أن تتولاه الوزارة وما يجب أن يترك للنشاط الحر، لا نحاسب ستة وزراء تعاقبوا واحدا بعد الآخر فى أقل من خمس سنوات ولم يسألهم أحد عما قدموه، ولم يسألهم أحد عما أخذوه.

المصدر: الأهرام