موجات الغضب المُتتالية التي يطلقها الشعب العراقي ضد القمع والفساد، والهيمنة الاستعمارية، لا تقابلها السلطة الطائفية الحاكمة إلّا بمزيدٍ من القمع والرصاص، عشرات الشهداء نزفت دماؤهم مع مئات الجرحى، لكن الأولوية دائمًا ليست للعراق، لا في وسائل الإعلام أو منابر الساسة ولقاءاتهم، فما يُراد لهذا البلد منذ الغزو الأمريكي الوحشي، أن يُمحى من التاريخ ومن الخارطة الذهنية العربية.
محاولة المنظومة المهيمنة في هذا العالم، هي أن تمحو التاريخ من التاريخ، أن تطمس بلد الحضارة والهوية العروبية الأصيلة وتغيّبه من تخيلاتنا وتصوراتنا لهذا العالم، فلا يحضر العراق اليوم في تحليلات المحللين حول المنطقة، أو تصوراتهم وخططهم لمستقبلها وكأن هناك ثقب أسود في تلك البقعة التي تحتلها خارطة العراق.
هذا الغضب العراقي الذي يندلع في الساحات اليوم، هو شعلة تبدّد السواد والظلمة، وتقحم العراق عنوة في ذهن كل عربي تنكّر لوجوده، وتفضح تلك الشراكة المعلنة حينًا والضمنية حينًا آخر بين الفساد والاستعمار، بين الطائفية والقهر، وتعيد للعراق ولنا جميعًا مفهوم الشعب الواحد الموحّد في مواجهته للقهر كما في تعرضه للقمع والنهب وكل مآسي ومكاره الحياة التي تفرضها عليه هذه النظم الهزلية.
حكومات بول بريمر المُتعاقبة على العراق لم ينقطع حبلها بالانسحاب الأمريكي، بل استمرت رغم كل تلك التغييرات الشكلية في المنظومة التي نصبها بول بريمر لمسخ العراق لكانتونات طوائف يديرها مجموعة من الفسدة والقتلة، وصوت شعب العراق اليوم ما هو إلّا مقاومة ومحاولة مستمرة لمواجهة الغزو، عبر مواجهة تأثيراته الممتدة.
إن الفصل التعسفي تحليلًا أو موقفًا بين مقاومة المستعمر والثورة على الطغاة، يخلق ضبابية مشتهاة لدى كل متلعثم في موقفه من كليهما، وتحاول إرباك نضالات الشعوب وأدواتها في المقاومة، مراهنة على فهم مغلوط لهذه المرحلة، ولطبيعة العلاقات بين المركز الاستعماري وتوابعه وأطرافه، فالهدف كان دومًا من تنصيب هذه الطغم الفاسدة استعماري بامتياز، وهو تسهيل استمرارية السيطرة والنهب والإلحاق والتبعية، تلعب فيه الطغم الحاكمة دور الوكيل المحلي للمركز الاستعماري، ويقوم فيه المركز الاستعماري بتغطية هذه النخب أو استبدالها إذا فقدت قدرتها على القيام بدورها.
لعل أكبر خدمة مجانية لا زلنا نقدمها للمنظومة الاستعمارية وهيمنتها في هذه المنطقة، هو الاستمرار في إخراج العراق من معادلة تفكيرنا ورهاناتنا، والأسوأ من ذلك خذلان الشعب العراقي والإعراض عن مناصرة تطلعاته المشروعة، التي ربما إن تحققت تكفل لهذه المنطقة وشعوبها فرصة أفضل بكثير في مواجهة كل هذه الهجمة البربرية الاستعمارية.