بالمقارنة مع نماذج الاحتجاج التي سادت الإقليم خلال هذا العقد، يبدو النموذج اللبناني متمايزاً بعض الشيء، لجهة عضوية الارتباط بين نظامه الاقتصادي وآلية التراكم في الغرب. هذا الارتباط يضع الأزمة في سياق التحوّلات التي يشهدها النظام الرأسمالي، وخصوصاً في أطرافه، لجهة العبء الذي تضعه عليها سياسات المديونية النيوليبرالية. في الحالات التي شهدت انهيارات مماثلة نتيجة انعدام القدرة على السداد كانت الأمور تنتهي إما بإيصال قوى أو أحزاب ممتثلة تماماً لبرنامج الإصلاحات النيوليبرالي المنوي فرضه، أو بجعل القوى التي تعارضه من موقع المسؤولية تدفع ثمن معارضتها هذه غالياً. حدث ذلك في أكثر من منطقة في العالم, والقاسم المشترك بين هذه التجارب، بالإضافة إلى عامل الدَين، هو موقعها من النظام الرأسمالي العالمي، حيث تكون طرفيتها سواءً جغرافياً أو لجهة شكل نظام الإنتاج فيها، عاملاً أساسياً في إيقاف تدفّق الثروة إليها، عبر جعلها تُفلس أو تغرق بالديون.
أبعاد أخرى للأزمة
في الحالة اللبنانية لا تختلف التجربة كثيراً، فالبلاد التي يقوم الاقتصاد فيها على تدوير الثروة عبر القطاع البنكي، وصلت بسبب السياسات نفسها إلى حدٍّ لم تعد قادرة معه، ليس فقط على السداد للدائنين (في الداخل والخارج)، بل باتت تفتقر حتى إلى السيولة التي يوفّرها عامل جذب الدولارات من الخارج، عبر أدوات مصرفية مثل الودائع وسواها. تعطُّل النظام المصرفي في ظلّ الافتقاد إلى الحدّ الأدنى من البنية الإنتاجية التي يمكنها في حالات كهذه ــ وفي نظام لا يقوم على الدولرة والاستيراد فقط ــ التعويض عن نقص السيولة، جعَلَ الأزمة الاقتصادية تتحوّل فوراً إلى أزمة نظام، بالمعنى السياسي المباشر للكلمة. عادةً لا يحصل ذلك في التجارب المماثلة التي تتعرّض للإفلاس، ولكن الموقع الجيوسياسي للبنان يجعل دائماً من أزمات كهذه مدخلاً إمّا إلى إصلاح سياسي متّفق عليه إقليمياً كما حصل في عام 1958، أو لنشوب الحرب في حال لم تصل الحركة الاحتجاجية إلى نتيجة، وهو ما يُخشى من حدوثه مجدداً. التداخل بين العاملين الاقتصادي والجيوسياسي يخلط الأوراق كثيراً، ويصعِّب إلى حدٍّ كبير تناول الأزمة التي هي اقتصادية أساساً بمعزل ليس فقط عن صراعات الإقليم، بل أيضاً عن الصراع بين أقطاب النظام الرأسمالي نفسه. فالانقسام الحالي حول وجهة العولمة بين الولايات المتّحدة والصين، يضع الدول الصغيرة التي تعتاش على فتات التراكم الرأسمالي في مهبّ الريح، حيث يزداد الخضوع ليس فقط لسياسة العقوبات، بل أيضاً لاتّجاهات الثروة التي تتغيّر بسرعة خلال الأزمة، وتغيِّر معها كل شيء، بما في ذلك موقع الدول التي ليس لديها بنية إنتاجية تقيها ارتدادات هذا الصراع المدمِّر.
بهذا المعنى لا يدفع لبنان ثمن موقعه الجيوسياسي فقط، بل خيارات نخبته الأوليغارشية أيضاً التي فضّلت تاريخياً الريع على الإنتاج كمصدر للثروة. هكذا، تحوَّل الارتباط العضوي بالغرب إلى عائق أمام الحصول على المزيد من التدفّقات النقدية في ظلّ سياسة العقوبات التي تعتمدها الولايات المتّحدة لتغيير اتّجاهات الثروة، واستعادة ما تعتبره حصتها من التراكم العالمي من الصين وحلفائها في الإقليم.
تعطُّل شرعية النظام
في ظلّ هذا المشهد الدولي المتغيّر، تبدو النيوليبرالية الاقتصادية القائمة في لبنان ليست قاصرة فقط عن فهم التحوّلات القائمة، بل أيضاً تصبح هي «الضحية» لها، حيث تقف المصارف التي تضخّ الثروة عاجزة عن تأمين الحدّ الأدنى من احتياجات زبائنها، وتتحوّل إلى هدف مشروع لاحتجاجاتهم، هي والأحزاب السياسية التي تعتاش على ريوعها. نضوب الثروة في البلاد، ومنع إجراء تحويلات جديدة إليها، ينعكسان مباشرة على مكانة القطاع المصرفي الذي يقوم عليه الاقتصاد اللبناني، والذي من دونه يستحيل حتى الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، كونه هو الذي يؤمّن خدمة الدين للدولة، ويوفّر بالإضافة إلى ذلك الملاءة النقدية التي تحفظ ودائع الناس ومدّخراتهم. انهيار هذه الشرعية بسبب سياسات المديونية وتغيير اتّجاهات الثروة، تسبّبَ بأزمة كبيرة للنظام السياسي الذي يعتمد على الغطاء النقدي لاستمرار مشروعيته لدى الفئات الاجتماعية المختلفة. فكرة التمثيل الوسيط التي يقوم عليها النظام أساساً تعتمد على تأمين هؤلاء السياسيين خدمات للناس عن طريق النظام المالي لقاءَ انتخابهم نيابياً، وحين يعجزون عن فعل ذلك تصبح كلّ هذه العملية بدون جدوى، ويتعطّل حتى مفعول الطائفية السياسية التي تقوم عادةً بتأمين الغطاء لهذه المقايضة. أزمة النظام بهذا المعنى هي أزمة شاملة، والخروج منها بتسوية جديدة لن يكون له مفعول كبير في ظلّ التغير البنيوي الحاصل دولياً، والذي يجعل من سياسة العقوبات في بلد صغير مثل لبنان مدخلاً ليس فقط لانهيار القطاع المصرفي، بل أيضاً لمواجهة مفتوحة مع الدول التي تتعاون مع الصين في مسعاها للحفاظ على العولمة بشكلها القائم.
الهروب مجدّداً نحو المديونية
الحلّ المطروح حالياً، حتى من قِبل أطراف داخلية غير موالية للغرب، هو الذهاب بعد انتهاء الأزمة وتشكيل حكومة متّفق عليها إلى تنفيذ أوراق اقتصادية «إصلاحية» تراعي في حدّها الأقصى، إن لم تكن تتبنّى بالكامل توصيات مؤتمر سيدر. وهو ما يضع البلاد في ظلّ هذا العجز الكبير في السيولة على سكة النماذج التي انهارت في أوروبا تباعاً، بعد تنفيذ إملاءات الدائنين الخارجيين. الهروب بهذا الاتّجاه يعني استخدام أموال الدائنين الجدد لتسكير الدين الداخلي، عبر استقطاب الأموال من أوروبا بدلاً من الخليج، وبالتالي جعل هذه التدفقات هي البديل عن تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، في انتظار أن يطرأ تعديل ملموس على السياسات الرأسمالية الجديدة للولايات المتحدة. المطروح في مؤتمر سيدر، بالإضافة إلى كلّ ذلك، هو تأمين سيولة إضافية عبر بيع ما تبقى من مرافق عامة بأسعار لا تتناسب مع ما تضخّه من أرباح على خزينة الدولة. هذا يعني أيضاً استمرار العمل بالنظام النقدي الذي تسبّب بكلّ هذه الخسائر، لكي يقوم هو بتوزيع الأرباح مجدداً على الجهات السياسية التي أتت بالأموال من أوروبا. حين يحصل ذلك لا يكون النظام المصرفي الذي تسبّب بالأزمة قد كوفئ على سياساته وأُعطي جرعة إضافية لمعاودة نهب ما تبقى من ثروة في البلاد، بل يصبح الحفاظ على كيان الدولة نفسه صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، مع تحويل ما تبقى من ممتلكاتها إلى ريوع، وإجبار الفئات الاجتماعية التي أُفقرت ونُهبت، على دفع ثمن المديونية الجديدة، تحت شعار الحفاظ على النموذج الذي يضخّ الثروة ويحافظ على الاستقرار.