لطالما قدَّم الإعلام الغربي بشكلٍ عام شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية كمصدرٍ للقلق و"العنف" وحتى "الارهاب"، ما يكشف ازدواجية المعايير "المهنية" –إن وجدت- لدى هذه الوسائل، وفي غالبية دول أميركا اللاتينية التي ضرب بعضها مثالاً في التضامن مع فلسطين لسنوات طويلة، على سبيل المثال اليوم: إذا كنت صحافيًا قد تُطرد من عملكَ لأنك فقط وجهت انتقادًا لـ "إسرائيل".
ما مدى حضور القضية الفلسطينية إعلاميًا بدول أميركا اللاتينية، ونتساءل أيضًا في هذا التقرير: هل هناك إعلام عربي فلسطيني في القارة؟، وما دور مؤسساتنا الفلسطينية الرسمية في هذا الجانب، وبهذا الصدد تواصلت "بوابة الهدف" مع عدَّة شخصياتٍ من تشيلي، وكولومبيا، وفنزويلا للإجابة على هذه التساؤلات.
احتكار الإعلام
مدير مؤسسة فلسطين الحرّة الإعلامية في تشيلي أبو رفيق مسعد، قال إن "وسائل الإعلام في تشيلي مثلها مثل الصحافة في جميع دول أمريكا اللاتينية، محتكرة من قبل الشركات الكبرى والعالمية لخدمة مصالحها والتي تتناقض مع حركات التحرَّر".
وأكَّد للهدف أن هذه الشركات "هي نفسها التي تحتكر تجارة الأدوية والمختبرات، وهي جزء من شركات البترول والطاقة وتصنيع الأسلحة والبنوك التي تتحكّم بالاقتصاد العالمي".
وتابع أبو رفيق "كما أنه من المعروف سيطرة اللوبي والمؤسسات الصهيونية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على وسائل الإعلام، وحاليًا على وسائل التواصل الاجتماعي"، مُشيرًا "بالنسبة لوسائل الإعلام الكلاسيكية "تلفزيون, راديو" صحافة اللوبي الصهيوني لا تسمح بتاتًا توجيه أي نقد لـ "إسرائيل"، وهناك مراقبة وملاحقة لكل من ينتقد الكيان الصهيوني، بل ويجب عليه الاعتذار وقد يتم طرده من عمله كما حصل مع العديد من الصحفيين، عدا عن أن المؤسسات الصهيونية تمنع الشركات المراقبة من طرفها للإعلان في الصحافة والإذاعات الغير صديقة والذي يتسبب في إفلاسها".
استراتيجية مدروسة
وفي سياق حديثه أوضح مسعد "عدا عن هذا الضغط والابتزاز، هناك استراتيجية مدروسة ومطوّرة لنشر أخبار تتعلّق بالتطوّر العلمي والتكنولوجي الإسرائيلي لتبييض الجرائم وانتهاكات حقوق الانسان، وفي الفترة الأخيرة كانت وسائل الإعلام تغطي بشكلٍ مفصل ومطوّل ما كان يحدث في فنزويلا وهونج كونج، لكن لم يتم نشر أي خبر يتعلّق بجرائم الاحتلال في فلسطين. التعتيم شامل!".
وعند سؤاله عن وجود إعلام عربي فلسطيني حقيقي في القارة، بيَّن أبو رفيق أن "الإعلام الفلسطيني يقتصر فقط على وسائل التواصل وبعض المواقع على الانترنت، ومن يريد الاطلاع على الإعلام الفلسطيني باللغة الأسبانية فإن أكثر موقع من ناحية القراءة هو موقع فلسطين الحرّة (200 ألف قارئ شهريًا، و218 ألف مشترك على الفيسبوك، وحوالي 50 ألف مشترك على موقع التويتر وانستجرام)، ما يُعبّر عن عن نسبة الهوة الكبيرة بين الإعلام الصهيوني والفلسطيني في القارة".
وأردف بالقول "هناك تضامنًا اعلاميًا من قِبل الإعلام اليساري، ولكن نسبة تأثيره ضئيلة حيث من يُتابع فقط من قِبل كوادر اليسار المناصرين والمتضامنين أصلاً مع القضية الفلسطينية وليسوا لحاجة لأي إعلام أو توجيه من هذه الناحية"، مُشددًا على أن "الإعلام مطلوب لكسب أنصار غير مسيّسين، وهذه الشريحة من المجتمع هي التي تتلقى الأخبار من قِبل الوسائل المُهيمنة والتي تتبنى الرواية الصهيونية وتعتِّم على الإجرام والهمجية المُرتكبة بحق شعبنا الفلسطيني".
عزل الشرائح اليسارية
يتابع أبو رفيق حديثه للهدف "أهم المؤسسات الفلسطينية في القارة هي اجتماعية ولا توجد أي استراتيجية سياسيّة علمية حقيقية لجمع شمل الجاليات تحت الراية الفلسطينية والعمل الجماعي من أجل القضية، ومن الممكّن أن نقول أن أهم مؤسسة فلسطينية في أمريكا هو النادي الفلسطيني في العاصمة التشيلية سانتياغو, فلديه الكثير من القدرات المالية والبنية التحتية".
لكنه أضاف عن ذات النادي "تاريخيًا من يتحكّم ويُدير النادي هم مجموعة من الأثرياء الذين يعملون على استغلال الجالية لمصالحهم الشخصية والاقتصادية، وبالنسبة للقضية الفلسطينية فلهم انتماء ويدافعون عنها، ولكن من وجهة نظرهم الخاصة، بحيث لا تسبب آرائهم أي ضرر لمصالح شركاتهم، وفي أغلب الأحيان يحاولون بكل جهد عزل الشرائح اليسارية من الجالية وإبعاد من ينتقد التصرف المتذبذب بشأن القضية".
منظمات وهمية
كما أكَّد على أن "أغلب المؤسسات السياسية في القارة هي منظمات خيالية ولا يوجد لها عمل على أرض الواقع ولا أي وزن حقيقي، فهناك الفيديراليات والاتحادات والكثير من الأسماء، ولكن كلها تكتفي بإصدار بيانات لا يقرؤها أحد ولا تنشرها الصحافة، بل تنشر على "الفيسبوك" فقط التابع لها أو للرئيس والأقارب".
ومن تشيلي إلى كولومبيا، قال الفلسطيني المُطّلع على الشأن الكولومبي أبو أحمد (اسم مُستعار)، إن "الحكومة الكولومبية موالية تمامًا للصهيونية، ولكن في عهد الحكومة السابقة تم تحقيق الاعتراف بالدولة الفلسطينية".
وخلال حديثه مع "الهدف"، أكَّد أبو أحمد "عدم وجود وسائل إعلام فلسطينية في كولومبيا"، مُشيرًا "لديَّ مؤسسة تحاول أن تفعل ما في وسعها بشأن هذا الموضوع، وأهم شيء هو العمل مع الأجيال الجديدة وأعضاء الكونغرس من أصل فلسطيني".
وبيّن أن "اللوبي الصهيوني هنا قوي جدًا، وكولومبيا هي الدولة الثالثة في العالم التي تتلقى المساعدة من الولايات المتحدة بعد إسرائيل ومصر".
وحول دور البعثات الدبلوماسية الفلسطينية في الشأن الإعلامي، أوضح أبو أحمد "للأسف لا يوجد عمل نشط من جانب السفارات، والعمل القليل تقوم به المجتمعات المحلية فقط".
وبالانتقال إلى فنزويلا التي تشهد عاصمتها كاراكاس وباقي مدنها مظاهرات كبيرة نصرةً لفلسطين وشعبها في كل الأحداث، تحدّث الفلسطيني المطّلع على الشأن الفنزويلي إسحق أبو الوليد لـ "بوابة الهدف"، يقول "مما لا شك أن القضية الفلسطينية تعرّضت منذ بداية الهجمة الصهيونية لحربٍ إعلامية حقيقية كانت وما زالت تهدف لشطب ومحو ما يمكن شطبه من الذاكرة الإنسانية وخاصة هوية المكان والجغرافيا، وتشويه ما بقى حيًا من هذه القضية، وتزوير التاريخ والرواية الفلسطينية الحقيقية المتعلقة بحرب الإبادة والتطهير العرقي، وخاصة في الفترة ما بين 1940 و1960؛ أي فترة بناء مداميك الكيان الاستعماري في فلسطين المسمى (إسرائيل)".
وتابع أبو الوليد حديثه "توجّه الإعلام الصهيوني للرأي العام العالمي من خلال الفئات والشرائح الأكثر تأثيرًا في المجتمع والتي تسيطر على المال والدين، ووثّق التحالف والتآلف بين هاتين الفئتين وخاصة في القارتين الأوروبية والأمريكية"، موضحًا بالنسبة لفنزويلا "لا أبالغ إذا قلت إنها شكّلت أحد أهم مراكز العمل الإعلامي والاقتصادي والأمني للحركة الصهيونية وكيانها الاستعماري في فلسطين، منذ تحريرها من قبل سيمون بوليفار".
"فقط للتذكير، عندما حصل الانقلاب العسكري الفاشي في 11 نيسان عام 2002 على القائد الراحل هوغو تشافيز مفجّر الثورة البوليفارية في فنزويلا، كان حاخام الطائفة اليهودية في مقدمة المهنئين للانقلابي، بيذرو كارمونا، ويتقدّم الصفوف في جلسة البرلمان التى ألغى فيها الديكتاتور كافة المؤسسات المنتخبة من قبل الشعب، وخاصة الجمعية الوطنية والدستورية ومحكمة العدل العليا، وأعلن في حينه حكم الفرد الذي لم يمكث أكثر من يومين"، يُكمل أبو الوليد للهدف.
سامر العربيد في الإعلام الفنزويلي!
يُتابع "تحظى القضية الفلسطينية بدعمٍ ملموس وواضح في وسائل إعلام الدولة والحزب في فنزويلا، وخاصة في المناسبات الرسمية وأثناء زيارات المسئولين الفلسطينيين، التي تتابعها الدوائر والأجهزة الأمنية والإعلامية الصهيونية عن كثب، ولكن هنالك أكثر من دليل على أن عناصر هذه الأجهزة تتحكم عند الضرورة القصوى في صياغة الخبر بما يخدم الهدف الصهيوني (مثلًا تم ذكر خبر اعتقال الأسير سامر العربيد في القناة 8 الرسمية على أنه تم اعتقال فلسطيني قاتل طفلة إسرائيلية!)، ومنع خبر آخر من التكرار والظهور الإعلامي بسبب فضح ممارسات الكيان وسياساته الاستعمارية الفاشية القمعية والتوسعية".
وكمثالٍ آخر على هذا التدخّل "تم حجب مُداخلة القيادي في الجبهة الشعبية ماهر الطاهر عندما حضر مهرجان (كلنا فنزويلا) في سبتمبر 2017 وتحدَّث باسم المجموعة العربية، رغم ذلك ردّدت القناة 8 مداخلات رؤساء الوفود المشاركين لعدة مرات، بل عشرات المرات خلال الأيام التي تلت الحدث، وتم الاحتجاج على ذلك لوزير الخارجية السابق، ري شادرتون"، والحديث هنا لأبو الوليد.
تقصير فلسطيني
وأكَّد إسحق خلال في مقابلةٍ مطوّلة مع "الهدف"، أن "الكفاح المسلح الفلسطيني، طرح القضية الفلسطينية وبقوة كحركةِ تحرَّر وطني، وأدخل إلى بيوت ومكاتب وجماهير حركات التحرَّر الوطني العالمية، خاصة في أمريكا اللاتينية عدالة قضيتنا، حيث أصبحنا جزء من هذه الحركات؛ نواجه وإياها نفس العدو وأساليب القمع والتشوية الإعلامي، إلّا أن هذا التطور لم يترافق مع تأسيس مراكز إعلامية وصحفية سواء لمنظمة التحرير أو للفصائل والتنظيمات، ولم يتم استثمار مكاتب المنظمة في العديد من الدول للتعريف بالقضية، من خلال النضال ضد الصهيونية ومركزها الأساسي في فلسطين، أي "إسرائيل"، رغم وجود إمكانيات مادية هائلة تحكَّم بها اليمين الفلسطيني وجيَّرها لتقوية نفوذه وسلطته، ولم يكن معنيًا على ما يبدو بخوض المعركة على الجبهة الثقافية والإعلامية".
وختم حديثه بالقول "إن معركتنا على الجبهة الثقافية والأيديولوجية الفكرية ومن ضمنها الإعلامية قاسية وشرسة؛ لأن الإعلام الصهيوني يستمد قوته من مؤسسات النظام الرأسمالي، وفي نفس الوقت تعمل الصهيونية على تعزيز وصهينة تلك المؤسسات، كي تضمن استمرار انحيازها وتأييدها "لإسرائيل" ودعمها، وهذا ما أدركه القائد الراحل هوغو تشافيز، الذي قال: "إن دعم القضية الفلسطينية وتأييد نضال الشعب الفلسطيني العادل من أجل تحرير كل فلسطين لا يكفي ويبقى ناقصًا إن لم يقترن بالنضال ضد الصهيونية عدوة كل الشعوب بلا استثناء"؛ لهذا بعد وفاته، أجمعت الصحافة الصهيونية، وخاصة في "إسرائيل" على عنوان رئيسي (لقد مات لد أعداء إسرائيل)".
ويرى مراقبون أن الحركة الصهيونية تمكّنت بفعل عدّة عوامل من "صهينة" جزء كبير من الجاليات اليهودية في دول أمريكا اللاتينية، فقد نفذت برنامج السنوات الخمس للتثقيف الصهيوني في دول القارة، وضمنت بالتالي ولاء اليهود لأهداف الحركة الصهيونية بشكلٍ كبير، وخصوصًا في وسائل الإعلام المختلفة.
في المُقابل، ماذا فعلت منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية التي تمتلك 13 بعثةً دبلوماسية منتشرة في أمريكا اللاتينية لمُواجهة هذا النهج، أم أنها حذت حذو بعض الدول العربية، إذ أن بعض دول أمريكا اللاتينية سعت لإقامة علاقات اقتصادية مع بعض الدول العربية بداية خمسينات القرن الماضي، كما أقامت بعضها علاقات دبلوماسية معها، لكن الجانب العربي لم يعمل على تنمية هذه العلاقات وتطويرها، وبقى المجال مفتوحًا أمام الصهيونية و(إسرائيل) لمُواصلة نشاطهما هناك.