بينما يجتمع زعماء العالم في مسرحية نفاق معتادة، في ذكرى إغلاق معسكر الإبادة في أوشفيتز، مكيلين المديح للكيان الصهيوني، ومتذكرين جريمة النازية في اختزال مشين لضحاياها باليهود فقط، يغض هؤلاء المنافقون النظر عن جرائم الكيان الصهيوني في فلسطين وحول العالم، بل في أوربا نفسها، والمساهمة الصهيونية في الإبادة الجماعية في البوسنة تحت سمع وبصر الدول الأوربية التي تأتي للبكاء ندما على صدر الصهيونية في يادفاشيم.
من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا، ومن البرازيل إلى راوندا إلى جنوب السودان إلى الهند، لم تترك "إسرائيل" حفرة جريمة قذرة إلا وغطست فيها، موفرة المال والسلاح والدعم الأمني لكل فاشي وديكتاتور وقاتل وعدو للشعوب.
وكما تورط الكيان الصهيوني في الإبادة العرقية المشينة في راوندا، كذلك تورط في إبادة المسلمين بو البوسنة ومد الجيش الصربي والمليشيات الصربية بكل أنواع الدعم.
وكالعادة تبقى هذه المسائل ممنوعة من النقاش في الكيان الصهيوني، وإذا ما حدث ووصلت الأخبار إلى المحكمة العليا في الكيان الصهيوني، تقوم هذه بدورها في التغطية على الإجرام المتمادي، وهذا ما فعلته المحكمة العليا الصهيونية الشهر الماضي تحت حجة منع الضرر المحتمل للعلاقات الخارجية، رافضة الالتماس الداعي إلى كشف تفاصيل صادرات الحكومة الصهيونية من السلاح للجيش الصربي أثناء أحداث الإبادة الجماعية في البوسنة عام 1990.
وزعمت المحكمة في رد الالتماس أن فضح التورط "الإسرائيلي" في الإبادة الجماعية سيضر بالعلاقات الخارجية للكيان إلى حد يجعلها تفوق المصلحة العامة في معرفة تلك المعلومات، ومحاكمة المتورطين فيها.
الالتماس قدمه كل من المحامين إيتاي ماك والبروفيسور يائير أورون، الذين قدما أدلة ملموسة على هذه الصادرات والتي شملت أيضا التدريب والذخيرة، والبنادق، ومن ضمن الأدلة الملف الشخصي للسفاح راتكو ملاديتش الذي يحاكم حاليًا في محكمة العدل الدولية لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وترد في ملف ملاديتش صراحة علاقات الأسلحة الكثيرة بين صربيا و"إسرائيل" في ذلك الوقت.
وكان الكيان الصهيوني يصدر الأسلحة إلى صربيا خارقا قرار مجلس الأمن الدولي الذي حظر نقل السلاح إلى يوغوسلافيا السابقة، بعد التقارير حينذاك عن الإبادة الجماعية ومعسكرات الاعتقال التي شهدت أفظع الجرائم ضد المسلمين.
ومن الجلي طبعا أن ما جرى في المحكمة والمرافعة التي قدمها محامي الدولة ورد المحكمة على الالتماس تثبت يقينا ضلوع الكيان الصهيوني في الإبادة الجماعية في البوسنة، ومن المؤكد أن لدى حكومة الاحتلال الكثير لإخفائه حول هذه القضية، كما سبق لها ومنعت النقاش أيضا حول راوندا والهند وغيرها لذات الأسباب.
من المعروف أن نهاية يوغوسلافيا كدولة موحدة أدت إلى سلسلة مروعة من الجرائم العسكرية ما بين عامي 1991 و 1995، عندما شن الصرب الحرب ضد كرواتيا (1990-1992) ومن ثم ضد البوسنة (1992-1995)، و ارتكبو جرائم تطهير عرقي كبيرة للمسلمين في المناطق التي احتلوها، حيث تشير التقارير إلى مقتل أكثر من ربع مليون إنسان، ماعدا المصابين والمشردين وعمليات الاغتصاب المنهجية التي قام بها الصرب في القرى المبادة أو في معسكرات الاعتقال التي قاموا بإنشائها. وقد وصفت تلك الأعمال بأنها الأكثر وحشية في أوربا منذ الهولوكوست.
في سيل الدم هذا، لعبت الصهيونية لعبة مزدوجة، فبينما كانت منظمات يهودية تنادي بمنع الإبادة أدانت "إسرائيل" الإبادة ظاهريا، بينما استمرت في مد القتلة بالسلاح والتدريب.
لم يتغير الأمر حينذاك سواء كان الليكود أو العمل في السلطة في الكيان الصهيوني، فك الحكومات حافظت على موقف مؤيد للصرب في البلقان، واستمر هذا حتى 1995 طوال فترة الإبادة الجماعية، ورفض الكيان باستمرار الانضمام إلى الإدانة العالمية للصرب لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. بل وقدم الحزبان الصهيونيان على رأس الحكومة مختلف أنواع الدعم السياسي والمعنوي والعسكري و الاستخباري للصرب، وكانت مواقف وزارة الخارجية الصهيونية تنقل إلى الإعلام عن طريق طرف ثالث ولم تفتح الحكومة أبدا نقاشا علنيا حول هذا.
في مرحلة متأخرة للغاية من نزاع البلقان، انحرفت الحكومة، لبعض الوقت، عن هذه السياسة. في منتصف يوليو 1995، مع دخول الإبادة الجماعية و "التطهير العرقي" في البلقان في عامها الخامس، أقر وزير الخارجية بيريز ورئيس الوزراء رابين ووزير قضايا البيئة يوسي ساريد الفظائع التي ترتكبها مليشيات الصرب. ومن الواضح أن هذا الاعتراف جاء تحت ضغط الإعلام حيث كانت أخبار سقوط سبرينيستا وذبح أكثر من 6000 رجل بوسني تغطي الصحف في العالم وفي الكيان أيضا، وقد مثل ذلك الكثير من الضغط على الدعم المستمر للحكومة الصهيونية للصرب، ولكن ذلك كان ربيعا قصيرا كما يقال، إذ سرعان ما عادت تل أيبب إلى طبيعتها، ولم تعد أبدا لإدانة الصرب، وبعد فترة قصيرة من اتفاق دايتون، كانت العلاقات بين إسرائيل وصربيا تتطور بأقصى سرعة، و اليوم، يبدو أن هناك علاقات سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية غنية وقوية بين الجانبين وهذا لا يثير الدهشة أبدا.
. فصربيا لا تنسى للكيان موقفه عام 1991 عندما وفي أواخر صيف 1991 ومع بدء الهجوم الصربي على كرواتيا، وبينما تحولت صربيا إلى النبذ عالميا، سارعت تل أبيب إلى إقامة علاقات دبلوماسية معها، و سرعان ما فتحت صربيا سفارتها في تل أبيب.
طبعا على العكس من الكيان، لم يشعر الصرب أبدا أنهم بحاجة لإخفاء المعلومات عن الصحافة، بل تباهوا بها في الواقع، وفي عام 1992 نشرت دوبريلا غاجيتش غليسيتش التي عملت كسكرتيرة في مكتب وزير الحرب في بلغراد كتابا عن التاريخ الحديث للجيش الصربي واصفة صفقة أٍلحة كبرى مع الكيان أبرمها جيزدمير فاسيليفيتش أحد كبار المصرفيين المعروف بعلاقاته الوثيقة مع ميلوسيفيتش.
وقد تمت هذه الصفقة في الوقت الذي كان فيه الصرب يجرفون فوكوفار على الأرض وبدأوا في قصف دوبروفنيك، وقد وصل فاسيليفيتش إلى الكيان في شباط/ فبراير 1993 وأعلن أنه سيبقى في الكيان لبعض الوقت، ويبدو أنه بقي لمدة عام على الأقل.
طبعا الكيان الصهيوني استفاد من الأمر، وبينما كان المسلمون يذبحون في سراييفو كان الكيان مهتما لإخراج اليهود منها، ووفقا لتقرير نشر في مجلة "الأوربي" The European عام 1993، نقلاً عن وكالات مخابرات غربية، سُمح ليهود سراييفو بمغادرة البلدة المحاصرة في عدد من الجسور الجوية والقوافل في عام 1992 كجزء من صفقة تتضمن إمدادات أسلحة "إسرائيلية" إلى الصرب.
في عام 1995 أفيد أن تجار الأسلحة "الإسرائيليين" بالتعاون مع الفرنسيين أبرموا صفقة لتزويد صربيا بصواريخ LAW ووفقاً لتقارير صدرت عام 1992، جاء وفد من وزارة الحرب الصهيونية إلى بلغراد ووقع اتفاقًا لتوريد القذائف.
من جانبه كتب الجنرال ملاديتش الذي تتم مقاضاته الآن بسبب جرائم الحرب والإبادة الجماعية "من إسرائيل - اقترحوا نضالًا مشتركًا ضد المتطرفين الإسلاميين. عرضوا تدريب رجالنا في اليونان وإمدادات مجانية من بنادق القناصة"، وتضمن تقرير أعد بناءً على طلب الحكومة الهولندية بشأن التحقيق في أحداث سريبرينيتسا ما يلي:" تعتبر بلغراد إسرائيل، وروسيا واليونان أفضل أصدقائها. في خريف عام 1991، أبرمت صربيا صفقة أسلحة سرية مع إسرائيل. "
السجل الصهيوني، مليء بأعمال تماثل هذه الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني أو ساعد على ارتكابها، حاميا مرتكبيها، وداعما لهم بالسلاح والذخيرة والتدريب والاستخبارات، وهذا الأمر جزء من طبيعة شخصية الكيان الصهيوني، وليس أمرا مفاجئا أو غريبا إلا للمنافقين في العالم الغربي الذين يصرون على إغماض عيونهم عن حقيقة هذا الكيان الفاشي ودوره في أي جريمة تقع حول العالم.