Menu

أمريكا اللاتينية: صراع التحرر والهيمنة

اسحق أبو الوليد

تظاهرات فنزويلا.. حشود مناصرة لمادورو.jpg

منذ أن وطأت أقدام المستعمرين، وفي مقدمتهم الأسبان إلى القارة المعروفة الآن "بالقارة اللاتينية" (العالم الجديد) والصراع لم يتوقف لامتلاكها والسيطرة عليها من قبل الاحتكارات والشركات متعددة الجنسية؛ سواء الأوروبية أو الأمريكية الشمالية (الولايات المتحدة)، بسبب احتوائها على أهم مخزون واحتياط لكافة المعادن والمياه العذبة، وتمتعها بأقاليم متعددة إلى جانب الإقليم الاستوائي، مما يجعل من أراضيها إذا ما استغلت مصدر رئيسي لإنتاج المواد الغذائية عالميًا، وبالتالي تتحكم بجزء هام من مكونات "الأمن الغذائي"، هذا بالإضافة إلى وجود النفط والغاز والفحم الحجري والشلالات الجبارة كمصادر للطاقة. وحسب أحدث التقديرات يوجد في باطنها أكثر وأهم الاحتياطات العالمية من النفط والمياه العذبة.

إن "اكتشاف" هذا العالم والقضاء على شعوب سكانه الأصليين، فحسب الكاتب الأمريكي من أصل فلسطيني منير عكش في كتابه: حق التضحية بالآخر، فإن المستعمرين أبادوا أكثر من 110 مليون مواطن أصلي، وحطموا حضاراتهم التي كانت متطورة نسبيًا وذو جمال رائع، وسرقوا ثرواتهم ونقلوها إلى أوروبا لتحدث نقله نوعيه على تطور النظام الرأسمالي حديث النشأة والتطور في تلك الفترة، ولكن من أبرز وأهم نتائج تلك الغزوات هو تأسيس دول جديدة بسكان قدموا من القارة العجوز (أوروبا) واستوطنوا في هذا العالم الجديد، وشكلوا دولًا هي امتداد سكاني وسياسي للدول المستعمرة، وخاصة في شمال القارة، وهو ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأمريكية التي تشكلت من خليط سكاني (قومي) أوروبي وخاصة سكسوني بريطاني، ورث هذه "الأمة الجديدة"؛ اللغة والتراث الاستعماري العنصري والاستعلائي منذ تأسيسها.

كانت أنظار الولايات المتحدة تتجه أولًا نحو جنوبها وقاومت حروب الاستقلال في كافة دول الجنوب، وأعلنوا عدائهم لحرب التحرير من الاستعمار التي قادها المحرر سيمون بوليفار الذي قال في خضم نضاله التحرري: "إن الولايات المتحدة ستعمل على إغراق شعوبنا بالدماء والجهل والفقر باسم الدفاع عن الحرية"، وكم هي مسكينة المكسيك بسبب "بعدها الشاسع عن الله وقربها من الولايات المتحدة".

 إن التطور الهائل والسريع نسبيًا للولايات المتحدة، وتأسيس نظام رأسمالي متقدم استفاد من الخبرات والاختراعات التي حدثت في أوروبا وعدم تضرره من الحروب العالميه التي أحدثتها الرأسمالية الأوروبية في أوروبا وخارجها لاقتسام الأسواق العالمية، وانتقال رؤوس الأموال إليها وحدوث تراكم هائل للكارتيلات والاحتكارات ومتعية الجنسية، جعل منها بلا منازع المركز الإمبريالي الرأسمالي الجديد، الذي أخذ على عاتقه تشكيل أنظمه حكم "على شاكلته" تخدم مصالحه وتنفذ استراتيجياته في كافة القارات للسيطرة على العالم تحت مظلة "مقاومة ودرأ الخطر الشيوعي الذي يمثله الاتحاد السوفييتي وكتلته" والدفاع عن "قيم ومبادئ العالم الحر"، ووقفت بالمرصاد ومارست كل أنواع البطش والقتل والتدمير لأي محاوله لتغيير الأنظمة الموالية لها أقامت الديكتاتوريات الدموية - الفاشيه في كافة بلدان القارة اللاتينية منذ بدايات القرن التاسع عشر، ليس فقط من أجل الحفاظ عليها كأسواق لتصريف بضائعها ومناطق لنهب ترواته، بل وكما يقول كيسنجر لفرض قيادتها وهيمنتها على العالم. ففي أعقاب الانقلاب الدموي الفاشي في 11 أيلول عام 1973، الذي نفذته وكالة المخابرات الأمريكية (س آي إي) على الرئيس سلفادور الليندي المنتخب شرعيًا من الشعب وبأغلبية كبيرة، وتنصيب بينوشت، الذي كان وزيرًا للدفاع في ذلك الحين، رئيسًا للبلاد بعد أن قام بقصف القصر الجمهوري واغتيال الرئيس الاشتراكي الليندي صرح هنري كسنجر، الذي شغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت، وما زال يعتبر من اهم المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين، أن: "الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج لأمريكا اللاتينيه التي هي حديقتها الخلفية، من أجل فرض قيادتها وهيمنتها على العالم"، وبدون السيطرة على وسط وجنوب القارة ستكون "قيادتنا للعالم موضع شك". وهذا يعتبر مبدأ مكّمل، بل تجديد لمبدأ مونرو الذي يقول "أمريكا للأمريكيين"، أي لا نفوذ لغير الولايات المتحدة في هذا "العالم الجديد". 

حقيقة أن هنالك انكفاء للنفوذ الإمبريالي الأمريكي عالميًا، وخاصة في منطقة ما يسمى الشرق الأوسط، التي نحن نشكل مركزها، يرافقه محاولات جادة وحثيثة لإعادة التمركز والتموضع في القاره اللاتينية، وسط وجنوب القارة، منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما الذي أعلن استراتيجية العوده للمواقع التي خسرتها الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينيه التي احتلها البوليفاريون بقيادة الرئيس الفنزويلي (السابق) هوغو تشافيز، بعد ذهاب جورج بوش، الأب والابن، للحروب في الشرق الأوسط، خاصة في أفغانستان و العراق وتركيزهم على تلك المناطق، مما ترك فراغًا في أمريكا اللاتينيه ملأه تشافيز. "بدأ الهجوم المضاد من قبل أوباما في هندوراس بانقلاب "دستوري" على الرئيس سيلايا الذي كان من يسار الوسط، وصديق جدًا للرئيس الفنزويلي السابق تشافيز، والتي يوجد على أراضيها أكبر، وأهم قاعدة عسكرية للولايات المتحدة، تبعه انقلاب "دستوري" آخر في البراغواي وسقطت الارجنتين انتخابيًا، تبعها انقلاب "دستوري" في البرازيل في النصف الثاني من العام 2016، من ثم سقطت السلفادور انتخابيًا بفوز المليونير اليميني الصهيوني نجيب أبو كيله (من أصل فلسطيني)، في المقابل فشلت كافة المحاولات للإطاحة برئيس فنزويلا نيكولاس مادورو، الذي أوصى به الرئيس هوغو تشافيز كخلف له؛ إلا إنها حققت بعضًا من أهداف البيت الأبيض الاقتصادية والأيديولوجية، مما ساهم في عرقلة تطور العملية الثورية ودفعها خطوات للخلف.

إن المد الثوري الذي اجتاح القارة في بدايات هذا القرن، جاء نتيجة للتراكمات النضالية الجماهيريه والتضحيات الكبيره للقوى والأحزاب الشيوعية والماركسية التي خاضت نضالات متعددة الأشكال بما فيها المسلحة، وبسبب تراكم المعاناة االكبيرة نتيجة القمع والاضطهاد والقتل والاستغلال الفاحش، مما خلق شرائح شعبية كبيرة فقيرة، بل يمكن القول شعوبًا فقيرة في دول غنيه بالثروات الطبيعية. فالمد السريع للعملية الثورية في فترة زمنية قصيرة نسبيًا، ومن ثم التراجع المدوي لهذا المد، يؤكد من جديد على الأهمية العلمية والتاريخية للطبيعة الطبقية لقيادة العمل الثوري، وأن لا "ثورة بدون نظرية ثورية"، كما قال لينين ، وأن كافة الحلول الإصلاحية مهما بدت "ثوريه وبراقة" في حينها، والتي لا تمس البنية الرأسمالية وشبه الإقطاعية للأنظمة التابعة للمركز الإمبريالي؛ فإن الزمن يكشف عن جوهرها الرجعي الذي يصب في خدمة وإطالة عمر أنظمة التبعية والتخلف. وقد تعاملت الإمبريالية العالمية وخاصة الأمريكية، مع أمريكا اللاتينية بأسلوب العصا والجزرة؛ العقاب ومد اليد "للمساعدة"، وهنا يبقى حاضرًا المثل والنموذج الكوبي، الذي تنظر له القوى التي تطمح للتحرر، كنموذج نضالي بطولي قدمت من خلاله كوبا كشعب وحزب وقياده أعظم التضحيات، منذ أن انتصرت الثوره بقيادة فيدل كاسترو القائد التاريخي، على نظام باتيستا العميل للولايات المتحدة، وحققت العديد من الإنجازات وخاصة الاجتماعية والفكرية الثقافية والصحية، رغم الامكانات الاقتصادية والحصار الجائر.

أما الجماهير الشعبيه التي صقلت أيديولوجيا ونفسيًا في قوالب المجتمع الاستهلاكي الرأسمالي تنظر إلى كوبا "كدولة متخلفة" وشعبها "جائع"، ومحروم من كلفة مقومات "الحضارة الحديثة" (الرأسمالية)، ولا تشكل بالنسبة لهم نموذج يمكن أن يحتذى، مما يؤكد أن الصراع على "النموذج" هو جوهر الصراع، وهذا ما أكده بريجنسكي في كتابه "بين عصرين"، الذي طرح فيه مقارنة تاريخية بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة، وحاول أن يثبت فيه فشل النموذج "الشيوعي"، وأفضلية النظام الرأسمالي "كنظام أزلي" لأنه النظام المعقول؛ ولأن نظرية الاشتراكية العلميه كما وضعاها ماركس ورفيق دربه انجلس تؤكد على حتمية الانتقال من التشكيلة الرأسمالية إلى التشكيلة الشيوعية والتي ستكون فيها الاشتراكية أحد أطوارها، وليس نظامًا قائمًا بذاته، كما تعاملت وما زالت تتعامل مع هذا الموضوع أحزاب وحركات تدعي إنها ثورية واشتراكية، وفي بعض الأحيان أنها ماركسية، تهدم أحيانًا من حيث لا تدري مستقبل الإنسانية الخالي من الحروب والاستغلال، أي مجتمع الحرية الحقيقية، الذي سيقدم فيه كل حسب امكانياته وينال منه حسب احتياجاته. 

إن إنجاز مهام التحرر الوطني في الدول التابعة وشبه المستعمرة (النامية) أو ما يسميه الرأسماليون "العالم الثالث"، وخاصة أمريكا اللاتينية المرشحة أكثر من غيرها لصراعات طبقية وقوميه ضد الإمبريالية، وكذلك مهام الانتقال للتشكيلة الشيوعية في المجتمعات المتطورة، سيعتمد على الطبيعة الطبقية للقيادة، ولن تنجح إن لم يقودها ثوار حقيقيين يتعاملون مع الثورة كعلم، وأن الصراع الطبقي والقومي لا يلغيان افتراضيًا، بل بحاجه أى نضالى عنيد ودؤوب وهذا ما ينطبق علينا كفلسطينيين وأمة عربية .