Menu

كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح4)

غازي الصوراني

موجز الفلاسفة.jpg

خاص بوابة الهدف

(تنفرد بوابة الهدف، بنشر كتاب المفكر غازي الصوراني، المعنون: موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور، الصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع، في يونيو/ حزيران 2020، على حلقات متتابعة.. قراءة مثمرة ومفيدة نتمناها لكم).

الفصل الأول

الفلسفة القديمة

تمهيد:

لم يكن عفوياً اختيارنا لتعبير "الفلسفة القديمة" بدلاً من "الفلسفة الاغريقية" لعنوان هذا الفصل، لأن قبولنا بما تطرحه العديد من المراجع والكتب الفلسفية الغربية بالنسبة للفلسفة الاغريقية باعتبارها الاطار الأول والوحيد للمعارف الفلسفية في التاريخ القديم، لايعني فقط شطب الدور الذي لعبته الفلسفة الشرقية في بلادنا في تلك المرحلة، وانما اسقاط هذا الموقف العنصري من أجل تثبيت مفهوم مركزية الحضارة الغربية في الوضع الدولي المعولم الراهن على حساب الفلسفة والحضارة الشرقية القديمة عموماً، وشطب كل مايمثله الشرق من دور معرفي وفلسفي في الماضي، وتأثيره في الحضارة الغربية.

وفي مواجهة مواقف وأساليب "الحضارة الغربية" المعاصرة، تتبدى أهمية رؤيتنا الواعية والموضوعية في آن واحد للفلسفة القديمة، التي تقوم على تخطئة المزاعم القائلة، ان الفلسفة الشرقية ليس لها دور هام في تطور المعرفة البشرية من جهة، والعمل على تفعيل دورنا في نفي مقولة "العقلية الغربية والعقلية الشرقية" والتناقض الدائم بينهما من جهة اخرى، وصولاً إلى التصدي للنزعات الفكرية العنصرية الراهنة التي تؤكد على مقولة مركزية الحضارة الغربية في معظم طروحات الفلسفة الغربية المعاصرة، انسجاماً مع أهداف النظام الرأسمالي المعولم الراهن.

اقرأ ايضا: كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح1)

كان لابد لهذه المقدمة / المدخل لموضوعنا، التي تتوافق -في تقديري- مع مقولة ماركس في ان "الحاضر هو الذي يملك مفتاح الماضي وليس العكس".

في هذا الجانب، لا نعتقد اننا نجافي الحقائق الموضوعية في السياق التاريخي القديم، اذا اكدنا منذ البدء على ان الاغريق ليسوا وحدهم من أوائل محرري الفكر والتساؤل عن طبيعة الواقع وحقيقة العقل، رغم دورهم الطليعي، ذلك لأن الحضارات السابقة على الاغريق لم يكن التفكير عندها "مجرد تفكير من النوع العملي المباشر" فقط، حيث ان هذا الجانب العملي في الفلسفات الشرقية القديمة لم يكن سوى نتاجاً لأسلوب الحياة القائم على المركزية بما يتوافق مع نظام الرق أو الاسلوب الأسيوي الذي ساد إبان تلك المرحلة في الالفين الرابع والثالث قبل الميلاد.

اقرأ ايضا: كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح2)

فعند البابليين "كانت النجوم أصل العالم، والقمر أبو الالهة، والشمس تطفئ النجوم بما يحقق حركة النور والظلام"، وفي بابل كانت تعاليم حمورابي، واختراع النظام الستيني الذي ما يزال يستعمل إلى يومنا هذا، كما وضعت في الشرق اسس الجبر والهندسة، وحسب المؤرخ اليوناني هيرودوت فان "المصريين القدماء اول من توصل إلى تحديد طول السنة ب 365 يوم" وعلوم الرياضيات التي تفوقت في حساب حجم الهرم والنظام الالهي القائم على التوحيد.

كذلك الأمر بالنسبة للفلسفةالهندية، " ففي كتاب الفيدا، افكار فلسفيه عن العالم والإنسان والاخلاق، تسمى بالفلسفة البراهمانية (برهمان هو الله) التي ظلت مسيطره حتي ظهور البوذية في القرن السادس قبل الميلاد "التي أسسها غاوماتا بوذا" أو المستنير، والتي كانت وما زالت فلسفه أو ديانة قائمه على الخضوع والاستسلام.

اقرأ ايضا: كتاب موجز الفلسفة والفلاسفة عبر العصور للمفكر غازي الصوراني (ح3)

إن حجر الزاوية في هذه الفلسفة يقوم على ان الحياه مليئة بالشقاء، واحتقار الحياه الدنيا وان الخلاص من الشقاء "لايكون الا عبر" النرفانا "التي تعني الفناء في الإله"، إنه شكل من اشكال التصوف([1]) والزهد، ثم برزت الكونفوشية التي أسسها كونفوشيوس - 551- 479ق.م- في  الصين، واشتهرت بتعاليمها الأخلاقيةالسياسية التي تقوم على أن السماء هي الإله الأعلى تفرض مشيئتها على الناس، وإن حياة البشر رهن بالقدر، وأن الجاه والثروة منَّة من السماء.

 

الفلسفة الهندية:

" تتمتع الهند بتقاليد فلسفية غنية ومتنوعة يرجع تاريخها إلى نصوص الاوپانیشاد في الفترة الڤيدية المتأخرة (حوالي 1300 ق.م) وهي أقدم المذاهب الفلسفية في العالم.

تقليدياً، الفلسفة الهندية تُعرَف كمدارس متعصبةأو غير متعصبةحسب ما إذا كانت تعتبر الڤيدا مصدر معصوم من المعرفة أو لا. يوجد 6 مدارس للفلسفة الهندوسية متعصبة وثلاث مدارس بدعية، المتعصبة هي نيايا، ڤايسـِسيكا، سامكيا، يوگا، پورڤا ميمامسا وڤنداتا، أما الفلسفة البدعية فهي: الجاينية، االبوذية، والمادية (كارڤاكا)" ([2]).

إن تفوق الهند أوضح في الفلسفة منه في الطب؛ ولو أن أصول الأشياء هاهنا أيضا، ينسدل عليها ستار يخفيها وكل نتيجة نصل إليها إن هي إلا ضرب من الفروض؛ فبعض كتب يوبانشاد أقدم من كل ما بقي لنا من الفلسفة اليونانية، لكن الفلسفة الهندية كانت -من وجهة نظري- أقرب إلى المذاهب الدينية والتقاليد المجتمعية التي ارتبطت بها من ناحية، بمثل ما كانت في نفس الوقت فلسفة محلية محكومة للرؤى الغيبية الميتافيزيقية الخادمة لمصالح الشرائح العليا في المجتمع الهندي من ناحية ثانية.

وفي هذا السياق، يقول هيجل عن الهند القديمة، وفق رؤية تكاد تكون عنصريه معادية للشرق: "امتازت الهند بانتقال الروح من الخارج إلى الداخل (أي من الموضوع إلى الذات) لكنا لن نجد هنا الذات الفردية الحقيقية, وإنما فكرة عامة عن الذاتية, فكرة هلامية عن الوجود كله بوصفه ذاتياً, فهنا اتحاد للذاتية والوجود أو المثالية الوجود الفعلي, وهي مثالية الخيال, ومن هنا كانت النظرة الهندية–حسب هيجل- هي نظرة وحدة الوجود العام لكنها وحدة لقوة الخيال لا للفكر, فهناك جوهر واحد يتغلغل في جميع الأشياء" ([3]).

ويضيف هيجل قائلاً: "أننا في الهند نسير في خطوة إلى الأمام من الوحدة إلى الاختلاف، أو من الدمج إلى الانفصال, وهذا التميز أو الاختلاف يرتد إلى طبيعة وليس إلى الروح, حيث تتميز طبقية مغلقة مصدرها الطبيعة أساساً, وتنقسم إلى :

الطبقة الأولى العنصر الإلهي الذي يظهر بواسطتها إلى الجماعة وهي طبقة البراهمة، وقد خرجت من فم براهما.

الطبقة الثانية تمثل عنصر القوة والبسالة وهي طبقة المحاربين والحكام وهي طبقة الكشاترية، وقد خرجت من ذراع براهما.

الطبقة الثالثة التي تُعنى بمسائل الحياة وإشباع الضروريات (الزراعة، والحرف، والتجارة …) وهي طبقة الفيزيا، وقد انحدرت من حقوي براهما.

الطبقة الرابعة هي عنصر الخدمة وهم مجرد أداة لرحلة الآخرين ومهمتهم هي العمل من أجل الآخرين وهي طبقة الشودرا، وقد انحدرت من قدم البراهما.

والاعتراف بالتحيزات هنا "لا تعني ظهور الذاتية، ذلك لأن الأفراد لا يختارونها لأنفسهم وإنما يتلقونها من الطبيعة، فالمساواة أمام القانون والحقوق الشخصية والملكية مكفولة لكل طبقة؛ أما الأخلاق والعدالة والتدين والمحبة والعواطف فلا وجود لها بين طائفة وأخرى؛ وتزداد العقوبات مع ازدياد دونية الطائفة ؛ ولكل طائفة حقوقها وواجباتها الخاصة بها، ولا توجد حقوق وواجبات عامة للجميع.

بناءً على ذلك، يرى هيجل أنه: (لا وجود للدولة في الهند) فهنا شعب فحسب، وإذا كان الاستبداد في الصين أخلاقياً فهنا استبداد بلا مبدأ ولا قاعدة من أخلاق دين، ذلك إن تاريخ الهند يكشف عن أن شعب الهند لم يقم بأي (فتوحات خارجية، لكنه هو نفسه كان ميدانا للغزو الخارجي باستمرار)، من هنا يصل هيجل سريعا إلى استنتاج مفاده أن "القدر المحتوم للإمبراطوريات الآسيوية أن تخضع للأوروبيين" ([4]).

يعود ظهور الفلسفة في الهند القديمة، إلى حوالي 1500 قبل الميلاد، حيث بدأت في المرحلة الأولى بانتشار الديانة الفيديه (1500 – 700 ق.م ) إلى جانب أديان أخرى، ثم البوذية (500 ق.م) أما المميزات العامة للحضارة الهندية:

" 1- التنوع والتعدد (اللغة والأديان والطوائف والعقائد). 2- الألم والمعاناة (المعاناة من الجوع والمرض والوحدة، وهناك نوعين من الآلام، آلام نفسية وآلام جسمانية، والمعاناة دائما روحية ونفسية والألم هو أصل الوجود وهو ناتج من المعاناة النفسية والروحية في ذلك الإنسان (الحياة قائمة على الألم). 3- الانضباط والسيطرة (كلما كانت النفس منضبطة كلما قلت آلامه).   4- التجربة والممارسة (لا يهم الفكر في نظر الهنود ولكن المهم هو التجربة والممارسة والأساس هو العمل)، وتجربة الحياة تقوم أصلا على الألم والمعاناة).  5- الطريق (بالمعنى العلمي هو المنهاج ولكن بالمعنى الهندي هو اتباع التعاليم الدينية). 6- التأمل والتفكير (الاستبطان) التفكير بالمعنى الذاتي أي تأمل النفس والتفير فيها).  7- الدين والفلسفة  8- التحرير والسعادة 9- الواجب و المسؤولية.  10- العدل والإنصاف"([5]).

في هذا السياق، أشير إلى أنه في بداية تشكل الدويلات في أراضي الهند الحالية، "كان الاتصال المباشر بين الهند وأوروبا في العصور القديمة متقطعاً، على الرغم من غزو الإسكندر الأكبر للهند في العام 327 ق.م، وبالتالي فإن معرفتنا ضئيلة عن تأثير الشرق الفكري على الغرب، رغم اشارة بعض الباحثين إلى أن اليونانيين تلقوا حافزاً مهماً من الشرق، إلا أنه يصعب توثيق مصدر هندي معين"([6]).

على أية حال، "يبدو أن التقاليد الفلسفية والدينية في أوروبا والهند، قد تطورت تطوراً مستقلاً نسبياً إحداها عن الأخرى، بدءاً من نهاية العصور القديمة إلى أعوام 1700، ولم يحصل أول نقل للفكر الهندي إلى جمهور أوروبي واسع، إلا في الحقبة الرومانسية، والصورة التي لدينا عن الفلسفة الهندية لا تزال تحمل علامة الحماس الرومانسي نحو الهند، وبخاصة في ما عبر عنه الفيلسوفان الألمانيان آرثر شوبنهاور (1788 – 1860) وفريدريك نيتشه (1844 – 1900)"([7])، ما يعني غياب المعاني المعرفية الوجودية والمنطقية في الفلسفات الهندية والصينية والفرعونية من ناحية، ومن ثم الإقرار بأن كلمة "فلسفه" جاءت من اللغة اليونانية، ودلت على النشاط الفكري الذي نشأ في بلاد اليونان القديمة.

والسؤال هو: "هل كان هناك أي شيء في الهند أو الصين يشابه الفلسفة اليونانية الكلاسيكية؟ مثلاً، هل نملك سبباً للكلام على انتقال من الأسطورة([8]) (mythos) إلى المنطق (logos) في تاريخ الفكر الهندي أو الصيني او الفرعوني والبابلي؟ الجواب هو أنه يصعب تقديم جواب واضح، ولكن – على الرغم من ذلك- فإننا نفترض وجود مسائل في الفكر الشرقي القديم جديرة بالانتباه، كما إننا نجد "منطقاً داخلياً" ومناقشات في تلك التقاليد هي بقايا ذكريات من تاريخ الفلسفة اليونانية، من وجوه عديدة، ذلك ان الفلسفات الشرقية عموماً لم تكن تميز أو تفصل بين الدين والفلسفة، أو بين الأسطورة والمنطق، كما هو الحال في الفلسفة اليونانية.

لقد وَحَّدَ الدين الهنود، "وذلك متجسد في النصوص السنسكريتية([9]) (Sanskrit) القديمة التي تسمى فيدا (Veda)، والتي تعود إلى حوالي 1200 – 800 ق.م، "ويعتبر الفيدا (كتاب المعارف) من أقدم الآثار الأدبية الهندية، وهو عبارة عن مؤلف ديني، يضم بين صفحاته عدداً من الآراء والأفكار الفلسفية عن العالم والانسان والحياة الاخلاقية، يتألف الكتاب من أربعة دواوين، أقدمها كتاب سامهيت، اما الدواوين الثلاثة الباقية فلا تتعدى كونها تعليقات وشروحاً وإضافات عليه.

ويتألف كتاب سامهيت، بدوره، من أربعة أجزاء، أقدمها –رج فيدا، وهو مجموعة من الاناشيد الدينية (حوالي 1500 ق.م)، يليه البراهمانا، ويحتوي عدداً من الطقوس الدينية، اعتمد عليها مذهب البراهمانية، الذي بقي مسيطراً حتى ظهور البوذية، ويتضمن الجزء الثالث –آريناكا، قواعد خاصة بسلوك الزهاد والنساك، اما الجزء الأخير – أو بانيشاد، فهو القسم الفلسفي من الديوان، يرجع ظهوره إلى بداية الألف الأول قبل الميلاد"([10]).

" ويمكن القول إن "الفيدا" تنقل النظرة الكونية إلى الآريين القدامى، فغالباً ما كانت تربط الآلهة بقوى الطبيعة، كما في الأساطير([11]) اليونانية والنرويجية والسلافية، ولم يكن فوز الآلهة، في تلك المعركة، مضموناً بشكل حاسم، فالآلهة تحتاج إلى دعم الإنسان في المعركة ضد الفوضى، لذا، " يصعب تسمية الفيدا بأنها فلسفة؛ فهي تصور لنا عالماً أسطورياً"([12]).

وعليه، "فالأعمال الأخلاقية في الفلسفة الهندية مرتبطة بدورة الحياة والموت، وهناك عديد التأويلات الغربية لعقيدة إعادة التقمص –وبخاصة في وسط تفكير العصر الجديد (New Age)- يقدمها رسالة إيجابية تتحدث عن أشكال حياة عديدة للإنسان أو الحياة الأبدية، ويشبه ذلك نظرية نيتشه التي تتحدث عن "العودة الأبدية" لجميع الأشياء، والتي تعتبر بديلاً إيجابياً لمفهوم المسيحية عن الحياة"([13]).

الفلسفة البوذية:

تشكل البوذية إحدى الديانات العالمية إلى جانب المسيحية والاسلام، وهي ديانة تبشر بالخلاص من الألم عن طريق ترك الرغبة الذاتية وتحقيق التنوير الأعلى الذي يعرف باسم "النرفانا".

في هذا السياق، تشير "الفلسفة البوذية" –التي نشأت في الهند في القرن السادس ق.م- إلى اعتقادات ومواقف فلسفية، يمكن إرجاعها إلى المؤسس الهندي لذلك الدين، ألا وهو "سدهارثا غوتاما" (Siddhartha Gautama) أو بوذا "الرجل المستنير" (حوالي 563 – 483 ق.م.) والذي سعى إلى التحرر من الألم، لا عن طريق التغيير الاجتماعي، ولا عن طريق مقاتلة قوى الطبيعة، وإنما عن طريق الكمال الأخلاقي الذي يكون بلوغه بالانسحاب من الحياة (الانعتاق الجميل) وانغماس المرء في النرفانا"([14]).

فيما يلي تلخيص أهم معالم الفلسفة البوذيه([15]):

  1. ضرورة التحرر بنور البصيرة لأن المعرفة انعتاق.
  2. ليست هذه المعرفة برهانية واستدلالية، وإنما هي معرفة حدسية شعورية وتأملية.
  3. لا يقدم بوذا منظومة معرفية لتفسير الحياة وإنما يقدم طريقة في الحياة أو دربا في الانعتاق يتكون هذا الطريق من 8 خطوات هي: (إيمان صحيح، قرار صحيح، كلام صحيح، عمل صحيح، حياة صحيحة، جهد صحيح، فكر صحيح، تأمل صحيح). علما أن الصحيح يقصد به الصدق.
  4. إن للطريق في نظر بوذا مستويات أو درجات يبدأ أولا بالحدس ثم بمعرفة الألم ثم بإتباع سلوك صحيح وأخيرا طلب الخلاص، ومن هنا نستطيع القول أن مميزات هذا المذهب.
  5. الألم: يعتبر الألم مقولة مركزية في مذهب بوذا لأنه في نظره الحياة كلها عبارة عن ألم: الولادة ألم، الشيخوخة ألم، المرض ألم الخ...
  6. حقيقة الألم أو سببه هو الظمأ.

نلاحظ هنا، "أن تصوراً متشائماً للحياة يكمن في أساس كل بناء المذهب البوذي كما ورد في النص التالي: "زائلة وعابرة هي مباهج الشباب والصحة والحياة، لأن الشيخوخة والأمراض والمَنِيَّة آتية لا محالة؛ والألم يَغْلُبْ على كل وجود ويُحَلِّقُ أزلاً فوق الارتحال الأزلي من حياة إلى حياة، ولا سبيل إلى الفوز بفناء الألم إلا بفناء الحياة، مع انطفاء بالحياة الفردية (النرفانا)، والجهل والحاجة إلى الملذات، أي التعلق الحياة، هما علة الانبعاث"([16]).

بالنسبة للسماء، فقد أنكر بوذا وجود الله الخالق، وأنكر أيضا ديانة "الفيدا"، ولكنه قَبِلَ تعاليمها عن دورة الميلاد والممات (السانسارا)، وعن أن تناسخ الأرواح لا يتوقف على القبيلة التي ينتمي إليها إنسان ما، ولا على التضحيات التي قدمها، وإنما يتوقف على حسناته وسيئاته.

وقد "انتشرت الديانة البوذية في المناطق الشرقية والجنوبية من الهند، وفي سيلان وبورما وسيام، كما امتد فرع آخر منها إلى مناطق التيبت والصين واليابان"([17])، وهي اليوم واسعة الانتشار في اليابان والصين وبورما ونيبال، حيث يوجد لها أكثر من 500 مليون معتنق.

تمثل "الموضوعات الثلاث التالية حجر الزاوية في التعاليم البوذية: 1) الحياة ملأى بالعذاب، 2)هناك سبب لظهور العذاب، 3) وهناك امكانية لوقف العذاب: هناك طريق يفضي إلى التخلص من العذاب، أما حتمية العذاب فتأتي من مشروطية، وارتباط كافة الحوادث أو الوقائع، فبولادة الإنسان، وما يرافقها من آلام وعذاب، تبتدئ سلسلة طويلة من الآلام، كما أن حياة الإنسان، وتوقه إلى الملذات، مشروطة بالتجربة الحسية، ومصحوبة دوماً بالعذاب".

يرى حكماء البوذية أن هدف المعرفة هو تخليص الإنسان من الألم والعذاب، وأن "هذا "الخلاص" ممكن هنا، على الأرض، لا في "مملكة السماء"، ويطلق البوذيون على حالة الخلاص من العذاب اسم "النرفانا" Nirvana، مما يعني –حرفياً- "الانطفاء"، إنها حالة من الرضى والسكينة، لا يشوبها سخط ولا تذمر، حالة الانعتاق من كل ما يجلب الألم والعذاب، والانصراف عن العالم الخارجي، وعن عالم الأفكار أيضاً"([18]).

كما أن الخلاص من العذاب والألم يشترط السير في الدرب النبيل الثُّماني، "نعني النظرة الصحيحة والفكر الصحيح والكلام الصحيح والعمل الصحيح والحياة الصحيحة والجهد الصحيح والانتباه الصحيح والتركيز الصحيح"([19]).

إن السر في نجاح البوذية يعود إلى أنها كانت "دين الخلاص"، إلى أنها "زرعت في نفوس الفقراء والمحرومين الأمل في الخلاص من الشقاء المسيطر في كل مكان، غير ان البوذية –كغيرها من الديانات- لم تٌسْعَ أبداً إلى استئصال جذور الشقاء في الحياة الاجتماعية الواقعية، انها لم تكن أبداً دين نضال، بل دين خضوع واستسلام، على الرغم من أنها كانت على تناقض حاد مع جميع أشكال الطقوس والشعائر"([20])، "والذين يريدون أن يختبروا النرفانا، عليهم أن يحرروا أنفسهم كأفراد من كل شيء يربطهم بهذا العالم، وهذا يشمل العقائد الفلسفية والدينية، لذا، وصفت البوذية، وبمعنى معين، بأنها دين "إلحادي"، أي ليس له لاهوت منظم أو عقيدة عن الله.

وفي حوالي عام 500 بعد الميلاد ظهر المذهب البوذي الاستبطاني (يمكن تسميته بالمذهب البوذي الاستبطاني لأنه الاتجاه من البوذية الذي ينبذ الكتب المقدسة للديانة البوذية، ويقول بالاستبطان الذاتي وسيلة مُثْلى لبلوغ المعرفة). ويؤكد المنادون الآن بالبوذية طابعها "العقلي" و"الالحادي" وهذه النعوت الجديدة جزء من محاولة نشر شكل متطور على نحو حديث من الديانة البوذية. وينادي البوذيون –في العصر الحديث- تحت زعامة منظمة "الزمالة البوذية العالمية" بنزع السلاح والتعايش السلمي"([21]).

أخيراً، نشير إلى أن الفلسفة البوذية ركزت على علاقة الإنسان بذاته وبمن خلق الكون. وقد أراد بوذا نشر الوعي بين الناس وزرع النقاء في نفوس بني البشر، وصبّ جلّ اهتمامه على الحقيقة التي عنده: أمّا بيضاء أو سوداء، ويستحيل أن تكون رمادية. ولم يتحدّث بوذا عن الله وصفاته الحميدة، كما لم يتطرّق إلى الجنّة، وترك كل ذلك إلى الإنسان كي يكشف عنه بنفسه حتى لا يسلبه إرادته ويفقد معنى الذات "الأنا"، ولم يشأ أن يزرع في الرأس فكرة "الأخذ " (أخذت زوجة، أخذت بيتاً، أخذت قيلولة....) بل اتخذت زوجاً واتّخذت سُنّةَ من النوم وهكذا، ويدعو بوذا إلى روحانية لها نكهة خاصة، نكهة اللاّ "عالم آخر" واللاّ " عالم دنيوي" هي روحانية يقظة، فترى وتسمع بقدر ما تكون واعياً، وإنه بقدر ما تكون مُدركاً للحقيقة، بقدر ما تكون منسجماً مع نفسك وتصبح أكثر وعياً، الوعي هو الذي يمنحك الوجود واللاّوعي يمحوه ويزيله، وهكذا فإن رسالة الفلسفة البوذية هي الدعوة لإدراك الوعي، فبالوعي تولد من جديد... " تولد نقياً طاهراً، تولد من دون " الأنا"، تولد مستعدّاً لتكون حرًّا وليس عبداً" وعلى هذا الأساس، فإنها تدعو لقتل الشهوات والتخلّي عن الغرائز إلى "النيرفانا" حتى لا تكون عبداً لشهوتك وغرائزك، وهذه الكلمة تعني بالهندية إطفاء الشمعة (قتل الرغبات والغرائز)، أي إطفاء النيران ليختفي اللهيب، وهو ما يعتبره مكمن الجمال، لأنّ الرغبات والغرائز، هي مصدر التعاسة وسبب العذاب والشقاء"([22]).

قالوا عنها([23]):

  • "التأثير الخاص الذي كان لديانة الجوهر تلك على طبائع الأمم التي اعتنقتها هو أنها أيقظت فيها حاجة واضحة إلى الارتفاع فوق الوعي الفردي، المباشر، إن الارتفاع فوق الرغبات، فوق الإرادة الفردية والمشتطة، والاستغراق في الحياة الداخلية، في الوحدة، وهما النتيجة المباشرة لتصور الواحد بصفته جوهرياً، وصورة بوذا هي في تلك الجلسة التأملية التي تتراكب فيها اليدان والقدمان بحيث تدخل إصبع من القدم في الفم.
  • إنها صورة العودة إلى الذات، والاستغراق في الذات، والسمات المميزة للأمم التي تعتنق هذه الديانة هي الهدوء والدماثة والطاعة، وكلها أمور ترفع فوق الشهوات، فوق خلجات النفس المشتطة". (هيغل).
  • إن أدياننا لا تثمر ولن تثمر في الهند؛ والحكمة الإنسانية لن تحيد عن مجراها بسبب مغامرة جرت في بلاد الجليل، كلا، بل ستندفق الحكمة الهندية على أوروبا وتقلب رأساً على عقب معرفتنا وفكرنا". (شوبنهاور).
  • "إن البوذية، التي أسيء لحد الآن فهم معناها، ليست حركة طهرانية، ولا ديانة جديدة، وإنما هي عقلية علمانية أخيرة، عملية خالصة، لسكان مدن كبار ومنهكين، لم يعد وراءهم إلا ثقافة ناجزة ولم يعد أمامهم أي مستقبل" (شبنغلر).

 

([1]) الصوفي هو الحكيم، وهناك رأي يقول أن مصطلح الصوفي مشتق من الصفة، لكن الأكثر شيوعاً: تعود كلمة الصوفي إلى الصوف أو الخرق الصوفية تعبيراً عن الزهد في الدنيا.. ولا علاقة لهذا التعريف بالمعرفة .. لكن التصوف تعني الالتزام بالصوفية أو الزهد، وهو حركة أو ظاهره روحيه تدعو إلى الابتعاد عن الشهوات والقناعة والاقتراب أو الاندماج في الذات الالهية... أما التصوف، فهو نظرية دينية – مثالية للعالم ، ويرجع أصل التصوف إلى الطقوس السرية (الاسرار) التي كانت تؤديها الجمعيات الدينية في الشرق والغرب قديماً. والصفة المتضمنة في هذه الطقوس هي الاتصال بين الانسان والله ، والاتحاد بالله مفروض فيه ان يتحقق بالوجْد أو الكشف، وعناصر التصوف من الخصائص الموجودة في عديد من العقائد الفلسفية الدينية القديمة (مثل الكونفوشية والبراهمانية والأورفية والفيثاغورية والأفلاطونية والافلاطونية الجديدة. وقد تطورت الفلسفة التصوفية في العصور الوسطى. (م. روزنتال و ب. يودين - الموسوعة الفلسفية –دار الطليعة – بيروت – ط1 اكتوبر 1974 – ص 128)

([2]) موقع المعرفة – الفلسفة في الهند – الانترنت.

([3]) شوقي العمير – تلخيص مقدمة إمام عبد الفتاح إمام لكتاب العالم الشرقي هيجل – الانترنت – 20 /6/2013.

([4]) المرجع نفسه.

([5])موقع المعرفة – فلسفة شرقية – الانترنت.

([6]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012- ص 66

([7]) المرجع نفسه - ص 66

([8]) مفهوم الأسطورة: يتفق المؤرخون بان الأسطورة تعود إلى أزمان سحيقة للتاريخ الإنساني قبل معرفة الكتابة بزمن طويل، فقد تمكنت الحملات الغربية في العصر الحديث التي توجهت للتنقيب عن الآثار في بلاد العراق والشام و مصر والتي ابتدأت مع نهاية القرن التاسع عشر من العثور على ألواح طينية ورقم وجدران معابد دونت عليها رسومات ورموز وغشارات، وكتبت بأشكال مختلفة آخذة في التطور حسب المراحل الزمنية لتلك الحضارات، حيث عرفت تلك المدونات بالأساطير. وتعتبر بلاد سومر أقدم الحضارات التي اعتنت بالتدوين والتسطير كما دلت عليه المكتشفات، أما متى بدأ عصر الكتابة الرمزية وأين فلا يُعرَف حتى الآن. والأسطورة في اللغة العربية من سطر وهو بمعنى تقسيم وتصفيف الأشياء، فالأسطورة تعني الكلام المسطور المصفوف، ولا يشترط فيها أن تكون مدونة أو مكتوبة، ولكن بالضرورة هي الكلام المنظوم سطر وراء سطر، فتظهر مصفوفة كقصائد الشعر ما يسهل حفظها وتداولها ويحافظ على بنيانها وكلماتها. وقد ظن بعض الباحثين أن الكلمة مقتبسة من اللغة اليونانية، يقول وديع بشور: "وكلمة" أسطورة" العربية مقتبسة من كلمة "استوريا" Historia اليونانية وتعني حكاية أو قصة، إلا أن كلمة أسطورة تعني حكاية غير حقيقية أو على عكس الحقيقة، بينما الكلمة ذاتها Historia تعني "تاريخ".  والحق أن الكلمة عربية الأصل، حديثا أصبحت تعني السطور أو الاخبار القديمة المدونة المسطورة، وهي بمثابة أول كتاب في التاريخ، وقد انتقلت الكلمة إلى اللغات الأجنبية وتطورت لتصبح ه- ستوريا، والهاء حرف تعريف في اللهجة العربية الفينيقية، ثم صارت تعني فيما بعد بـ"التاريخ" في عدة لغات، مع قليل من الاختلافات، فعند اليونان غستورا، وتعني حكاية أو قصة كما تعني "تاريخ"، وفي الإنجليزية نجد كلمة History بمعنى تاريخ، وفي الفرنسية إيستوار، وفي الروسية استوريا، وهي كلها مشتقة من الكلمة العربية أسطورة التي تعني بكتابة التاريخ وتدوينه. (الأسطورة.. توثيق حضاري – قسم الدراسات والبحوث في جمعية التجديد الثقافية – دار كيوان- دمشق – سبتمر 2005).

([9]) هي لغة الهند الأدبية القديمة.

([10]) موجز تاريخ الفلسفة - جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم - دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) - ص33

([11]) الأساطير ( الميثولوجيا): شكل من الأشكال الشفاهية للفولكلور من أخص خصائص القدماء. والأساطير هي حكايات تولدت في المراحل الأولى للتاريخ، لم تكن صورها الخيالية (الآلهة، الأبطال الأسطوريون، الأحداث الجسام الخ) إلا محاولات لتعميم وشرح الظواهر المختلفة للطبيعة والمجتمع. « إن الأساطير كلها تتغلب على قوى الطبيعة وتجعلها ثانوية وتشكلها في الخيال وبمساعدة الخيال. ومن ثم فإن الأساطير تختفى مع بزوغ سيادة حقيقية على قوى الطبيعة » (ك. ماركس وف. انجلز، الأعمال الكاملة المجلد 12 ص 737). وقد وجدت جوانب عديدة للنظرة الكلية الشاملة في المجتمع القديم تعبيرا لها في الأساطير. لكنها كانت تعكس في الوقت نفسه الآراء الأخلاقية والموقف الجمالي للإنسان بالنسبة للواقع. إن الأساطير على حد تعبير ماركس « هي التقديم الفني اللاشعوري للطبيعة (يفهم بالطبيعة جميع وكل ما هو مادي بما في ذلك المجتمع) ». وهذا هو السبب في أن صور الأساطير تستخدم في الأغلب في الفنون بتفسيرات مختلفة. (موقع أرشيف الماركسيين - موسوعة الماركسية .. مفاهيم ومصطلحات -  الاعداد الالكتروني: يسار سينا – 24 / فبراير 2011)

([12])  غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي 2012-  ص 67

([13]) المرجع نفسه -  ص 73

([14]) موقع أرشيف الماركسيين - موسوعة الماركسية .. مفاهيم ومصطلحات -  الاعداد الالكتروني: يسار سينا – 24 / فبراير 2011.

([15])موقع المعرفة – فلسفة شرقية – الانترنت.

([16])  جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987 – ص 197-199

([17])  جماعة من الأساتذة السوفيات - مرجع سبق ذكره – موجز تاريخ الفلسفة - ص 36

([18]) المرجع نفسه – ص 37

([19])  غنارسكيربك و نلز غيلجي–  مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي -  ص 76

([20]) جماعة من الأساتذة السوفيات – مرجع سبق ذكره – موجز تاريخ الفلسفة –ص 37

([21]) موقع أرشيف الماركسيين - موسوعة الماركسية .. مفاهيم ومصطلحات -  الاعداد الالكتروني: يسار سينا – 24 / فبراير 2011.

([22]) عبد الحسين شعبان – الفلسفة الطاوية وصنوها الفلسفة الصوفية – الحوار المتمدن – 8/5/2015

([23])  جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 197-199