Menu

الانتخابات الأمريكية مادة دسمة لفناني الكاريكاتير

د.عاطف سلامة

كاريكاتير الانتخابات الأمريكية.jpg

نشر في العدد 20 من مجلة الهدف الرقمية

لخص فنان الكاريكاتير والسيناريست السوري د. ممدوح حمادة، نتائج الانتخابات الأمريكية برسم بسيط ، جسد خلاله حمارًا باللون الأزرق - في إشارة إلى شعار الحزب الديمقراطي - وهو يرفس الفيل الأحمر، وهو- شعار الحزب الجمهوري- فيما كان الفيل يصرخ من قوة الضربة - الهزيمة - هنا أسدل الفنان الستار وأعطى المُتلقي النتيجة النهائية الحاسمة التي لا لبس فيها؛ ملخصًا كل ما جرى من صخب ومراهنات وما صاحب فرز الأصوات من توتر وانتظار، باستخدامه بعض من خطوط ريشته المعوجة البسيطة؛ حتى دون أن يستخدم العلم الأمريكي أو خارطة الولايات أو غيرها. إذن الفكرة وصلت بهذه السلاسة، هذا هو الكاريكاتير السياسي بامتياز، الذي عرّفه الباحثون بأنه رسم بسيط، ومن الممكن أن يصاحبه تعليق قصير ساخر لفكرة كبيرة، وهو رسم قد يختصر الكثير من الصفحات، ويزرع الابتسامة على شفاه آلاف المتلقين، رسم قد يُطبع في ذاكرة الإنسان لفترة طويلة.

وكما يهتم معظم الناس بالانتخابات الأمريكية، كذلك يلتفت فناني الكاريكاتير باحثين عن مادة دسمة تشبع غرور المتلقين، ونهمهم للمعرفة، فيمنحهم الكاريكاتير جرعة سلسلة وسهلة وسريعة الاستيعاب من المعرفة من جهة، ويتخللها بعض من التحريض على الطرف الآخر من جهة ثانية، وكما هو معروف، فإن فن الكاريكاتير هو الفن السهل - الصعب الذي يحاكي المُتلقي بكل بساطة، وهو القادر على اختزال كمًا هائلًا من المشاعر والمواقف في مشهد واحد، يعتمد على التكثيف البصري والمعالجة الغرافيكية؛ أداة لاستنفار مخيلة القارئ وإشراكه في العمل الإبداعي.

العم-سام.png


الكاريكاتير استخدم شخصية الرئيس "ترامب" من جهة ومنافسه "بايدن" من جهة أخرى، كفن للإضحاك بالتضخيم، أو المسخ لصورهما، بهدف الانتقاد السياسي والبرامجي والسخرية منها، فكان مضحكًا في ظاهره، ناقدًا فنيًا في مدلوله.

لا شك أن بعض الفنانين بالغوا في نقل الصورة؛ ولكن الهدف من لوحاتهم لم تكن المبالغة في حد ذاتها، بل كانت مجرد وسيلة، لذلك، فتجد رسومات الكاريكاتير التي صاحبت الحملات الانتخابية الأمريكية، كانت قائمة على عملية الرصد والتعيين والتقييم، وما دام الكاريكاتير يرصد عناصر الاعوجاج والتشوه  عند الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) فإنه بذلك يحيل كل هذا إلى خطاب نقدي قائم على مرجعية، ولكنها هنا لا تكون ظاهرة، بل باطنة ، وعلى المتلقي أن يكتشف ويكمل آلياتها.

الكاريكاتير-730x438.jpg
 

فالصورة الكاريكاتيرية هي تقديم الحدث أو الموقف بعد تقييمه، وصبغه المبالغة التي هي خاصته الشكلية الأولى تعمل على تضمين وتدعيم فكرة اللامشروعية، وأحيانًا تمتد إلى اللامعقول، وبذلك؛ فالكاريكاتير ينقب في العالم غير المرئي، فهو تمثيل دلالي لعالم النوايا الفعلية الكامنة وراء الموقف أو الحدث، حيث، عرض وأحيانًا فضح الأفعال السرية والكوامن الداخلية المحركة، ولعل الفعل الكاريكاتيري ورد فعله، يأتي من خلال التعاقد الخفي بين الرسام والمتلقي. فالعقد المبرم على الضحك تتكون نصوصه من لغة إشارية للمسكوت عنه في كلا من الحدث، الذي كان (وليد الانتخابات الأمريكية العامة غالبًا)، وفي نظرة تقييم ورؤية المتلقي له، فهو بذلك يعامل ما وراء الواقع المعلن.

معظم رسومات الكاريكاتير التي جسدت الحملات الانتخابية للحزبيين الديمقراطي والجمهوري، كانت عبارة عن خطوط بسيطة أزعجت "ترامب" على وجه التحديد، لما شكلته من سلطة للسخرية استطاعت أن تنال من شخصية ترامب رسمه (بورتريه) وحزبه وحملته الانتخابية، وحتى الأشخاص المحيطين والمقربين منه، ووصلت إلى أفراد عائلته أيضًا.

كاريكاتير د.ممدوح حمادة.jpg


 

 فلوحات الكاريكاتير التي انتشرت بكثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ نالت من الشخص (ترامب – بايدن ) والفكرة، وحتى الخطابات واللقاءات الجماهيرية والمناظرات، فلم تترك موضوعًا خاصًا بالانتخابات إلا وطرقته، ما جعل مسؤولي الحملتين الانتخابيتين للحزبين الكبيرين يعترضان على الكثير من رسومات الكاريكاتير التي طالتهم، مع معرفتهم أن القانون يحمي الفنان، لكن لعل وعسي أن يخففوا فناني الكاريكاتير من قسوتهم.

كل محاولات الاعتراض، كان يقابلها سؤال: كيف تحجر على الفن؟ كيف تخاف من بضعة خطوط صغيرة معوجة مترابطة ببعضها البعض؟ لكنَّ هذه الخطوط كانت في أحيان كثيرة أقوى من خطوط النار في الحروب الحقيقية، وليست في الانتخابات فحسب.

فن الكاريكاتير ليس وليد الحملات الانتخابية الأمريكية الأخيرة، بل تمتد جذور التاريخية إلى الإنسان البدائي الذي كان يسكن الكهوف والمغارات، كي يحاكي خصمه ويهزمه بطريقة كاريكاتيرية ساخرة، أو يعظمه إن كان صديقًا أو وجيهًا ذا قوة جبارة، وفي الحالتين كان الفنان البدائي يستخدم خطوطًا لها قيمة تاريخية وفنية حتى أصبح بعد ذلك فنًا قائمًا بذاته، وقد مارست معظم شعوب الأرض الرسم الكاريكاتيري لإنتاج سخرية، تشوبها ابتسامة مرة .

لم تكن أميركا بعيدة عن الحركة الكاريكاتورية، فظهر فيها "دوف" و"دوليتك" و"تشارلز" 1776- 1820، و"كلي" 1799- 1857، و"كيبلر" 1838 -1894، و"ناست" 1840- 1902، فانتشر الكاريكاتير الصحفي على نطاق واسع بالتزامن مع الدول الأوروبية تقريبًا، ومع حلول بداية القرن العشرين؛ أصبح لكل صحيفة أو مجلة أميركية رسام كاريكاتير واحد في الأقل بين العاملين فيها، ومنذ عام 1922 حصل البعض من فناني الكاريكاتير على جائزة "بوليتزر" المرموقة في مجال الصحافة، ومع ذلك، فإن الكاريكاتير الأميركي في ذلك الوقت يختلف عن الكاريكاتير الأوروبي الحديث، حيث كان الفنانون الأميركيون، يبالغون ليس فقط، في تجسيد أفعال الأشخاص الحقيقيين، بل أيضًا في التهكم والسخرية من إعاقاتهم الجسدية، وفوق ذلك كانت الصور ذات قوالب نمطية وطابع عنصري؛ من حيث التركيز على خصائص معينة لكل مجموعة بشرية.

شهد هذا الفن طفرة تطور من خلال الكتب الفكاهية والرسوم الساخرة المطبوعة في العديد من المجلات والجرائد، ومع بداية القرن العشرين كان الأشهر في هذا المجال هو الألماني جورج كابروت، ونقل خلال القرن التاسع عشر، المهاجرون الألمان إلى أميركا فن الكاريكاتير، ومن أشهر هؤلاء جوزيف كيبلر الذي هاجر، في سنة 1838، من فينا إلى سانت لويس (في ولاية ميسوري)؛ وقابل، في وقت لاحق، مهاجر ألماني آخر، عمل في الصحافة، ثم أصبح من أشهر صحافيي أميركا، وهو جوزيف بولتزر (صاحب جائزة بولتزر للصحافة). ويعتقد أن لقاء بولتزر وكيبلر كان بداية دخول الكاريكاتير في الصحافة الأميركي،

بدأ الكاريكاتير في الصحافة الاميركية التي كانت تصدر باللغة الألمانية، مثل جريدة «دي فيهم»، وانتقل في سنة 1871، إلى جريدة «باك» الإنجليزية.

ثم ظهر، مع نهاية القرن التاسع عشر، ألماني آخر هو كارل شورتز، وظهر مع بداية القرن العشرين ألماني غيره هو شارلز شولتز، رسام «شارلى براون» و«بيناتز».

لمع نجم الرسام توماس ناست الألماني الأصل الذي كان من المعروفين بحيويته وقدرته على الابتكار والتجديد، وهو الذي اعتبر الرئيس لينكلون رسوماته من أعظم عوامل الحرب الأهلية، يعد هذا الرسام صاحب أول فكره في تأريخ الكاريكاتير في ابتكار الشخصية الوطنية الرمزية، وهو الذي ابتكر شخصية "العم سام" المعروفة على نطاق واسع في العالم.

يعود اسم العم سام إلى القرن التاسع عشر إلى حرب سنة 1812 تحديدًا، وهو رمز ولقب شعبي يطلق على الولايات المتحدة الأمريكية؛ الاسم مأخوذ من اسم تاجر أميركي يدعى "صموئيل ويلسون" (Samuel Wilson) كان هذا التاجر يزود القوات الأميركية المتواجدة بقاعدة (تروا) العسكرية بولاية نيويورك بلحم البقر، وكان يطبع براميل هذا اللحم بحرفي U.S أي الولايات المتحدة إشارة إلى أنها ملك الدولة؛ فأطلقوا لقب العم سام على التاجر، فحرف S استعملوه للرمز الى sam وu الى Uncle.

والجدير بالذكر أن توماس ناست هو مصمم شعار الحزب الديمقراطي (الحمار)، وكذلك الجمهوري (الفيل)، ومن الجدير بالذكر؛ إن أول مرة يستخدم ناست التسمية، فكانت في رسم له يبين مجموعة من الناس من مختلف الإثنيات، يتحلقون حول مائدة مشتركة ترمز إلى أمريكا الوطن؛ أراد فيها القول: إن أمريكا تمثل وطن الحرية والمساواة.

 احتل الكاريكاتير مكانة هامة استحقها بجدارة، لقدرته على اختزال كم هائل من المشاعر والمواقف في مشهد واحد، وكونه أتقن المراوغة وتجاوز بمهارة كبيرة عيون الرقيب وأدواته ليقدم لغة بسيطة يفهمها الجميع، لغة تداعب هواجسهم وهمومهم وتترك لهم متسعًا من الوقت ليتأملوا ويتألموا، ويضحكوا بمرارة ساخرة من أنفسهم وحياتهم، ومن ساستهم وأفعالهم.

اختلفت النظرة لفن الكاريكاتير، فبعدما كان يستخف به البعض، ويعتبروه مصدرًا للفكاهة والضحك فقط، عرفوا أن رسمًا كاريكاتيرًا واحدًا؛ قادر على فعل الكثير، فقد يهدد دولًا ويؤجج المشاعر ويحشد المتظاهرين، ويحقق ما لا يستطيع أي نوع صحفي آخر، أن يحققه، ويمكن لهذا الرسم الساخر أن يحدث ثورة، بعد أن يفجر في العقول أفكارا كثيرة، تحك عقل المتلقي وتنمي ذكاؤه وتحرضه على الفعل. وخلال العقود القليلة الماضية انتشرت الرسومات الكاريكاتيرية في العالم بشكل كبير، وأصبحت أكثر تنوّعًا، تلوّنًا وتهكّمًا؛ فاكتسب فن الكاريكاتير أهمية ومكانة كونه يطرق المحظور وينتقد بجرأة عالية.. بل يخترق التابوهات.

فكيف لا وهو الفن الساخر من بين فنون الرسم كافة، وهو تلك الصورة التي تبالغ في إظهار تحريف الملامح الطبيعية أو الخصائص والمميزات لشخص أو لجسم ما، بهدف السخرية أو النقد الاجتماعي والسياسي، وله القدرة على النقد بما يفوق المقالات والتقارير الصحفية في أحيان كثيرة، وهو الغائب الحاضر في تراثنا العربي.

وفن الكاريكاتير، فن متناسل، يرتبط بالفنون الأخرى، يؤثر ويتأثر، أما ميدانه وحاضنته الدائمة، فهي الصحافة المقروءة في بادئ الأمر، والمرئية التلفزيونية والإلكترونية بأشكالها المتعددة في وقتنا الحاضر.