توقع المراقبون والمحللون أن يتضمن الخطاب الأول الذي ألقاه الرئيس الأميركي جو بايدن عن سياسته الخارجية، في 4 شباط/فبراير الجاري، الخطوط العريضة لسياسته إزاء الصين الشعبية وروسيا،، أو إزاء الاتفاق النووي مع إيران، أو إزاء ملف كوريا الشمالية النووي، لكن توقعهم هذا خاب، إذ اكتفى بايدن بعرض بعض التوجهات التي تؤشر إلى الرغبة في إحياء النظام الدولي الذي اضطلعت الولايات المتحدة الأميركية بدور رئيسي في وضع أسسه، وأراد سلفه إدارة الظهر له، واستعادة قيادة هذا النظام، كما فعلت عقب نهاية الحرب الباردة، "ليس فقط عبر تقديم المثال على قوتنا –كما كتب جو بايدن في إحدى المناسبات- وإنما أيضاً عبر قوة مثالنا".
الخطاب الرئاسي الأول بشأن السياسة الخارجية
في خطابه المشار إليه، أعلن جو بايدن تجميد خفض عدد القوات الأميركية في ألمانيا، وذلك ضمن مشروع لإعادة بناء العلاقات مع الشركاء الأوروبيين التاريخيين، على اعتبار أن "تحالفات أميركا هي ورقتنا الرابحة الكبرى –كما قال- والاستناد إلى الدبلوماسية في توجيه سياستنا يعني الوقوف من جديد إلى جانب حلفائنا وشركائنا الرئيسيين". كما دعا بايدن إلى وضع حد للدعم الأميركي للائتلاف السعودي في اليمن، فقال: "سنعزز جهودنا الدبلوماسية من أجل وضع حد للحرب في اليمن" التي "خلقت كارثة إنسانية واستراتيجية"، وأضاف: "ومن أجل تأكيد عزمنا على ذلك، سنوقف أي دعم اميركي للعمليات الهجومية في حرب اليمن بما في ذلك مبيعات الأسلحة"، معلناً تعيين الدبلوماسي المخضرم تيموثي لندركينغ مبعوثاً خاصاً لبلاده إلى اليمن. وعلى الرغم من أن العودة إلى اتفاق 2015 النووي مع إيران، والسعي من أجل "تحسينه"، كان من ضمن أولويات برنامجه الانتخابي، فإن بايدن لم يتطرق إلى الخطوات التي تنوي إدارته المضي بها للعودة إلى هذا الاتفاق.
وخلافاً لشعار دونالد ترامب "أميركا اولاً"، تبنى جو بايدن شعار "أميركا عائدة، الدبلوماسية عائدة"، ودافع عن "القيم الكلاسيكية" للدبلوماسية الأميركية في "إعلاء شأن الديمقراطية وحقوق الإنسان"، معلناً عزمه على استقبال 125000 لاجئ في العام القادم. ومن جهة أخرى، أكد بايدن نيته "كبح جماح" الصين وروسيا، متهماً سلفه بأنه كان "ضعيفاً إزاء بوتين"، وقال إن أميركا "ستكون مستعدة لمواجهة تنامي النزعة التسلطية، وخصوصاً الطموحات المتعاظمة للصين، وإرادة روسيا في إضعاف ديمقراطيتنا"، وأضاف: "قلت بوضوح للرئيس بوتين وبطريقة مخالفة لسلفي أن الزمن الذي تخضع فيه الولايات المتحدة لأفعال روسيا العدوانية قد ولى". (1)
إعادة الاعتبار إلى دور وزارة الخارجية
يقول جيل باري مراسل صحيفة "لوموند" الباريسية في واشنطن، في مقال نشره في 5 شباط/فبراير 2021 ، أن جو بايدن ألقى خطابه الأول حول سياسته الخارجية من مقر وزارة الخارجية وليس من البيت الأبيض، وإلى جانبه نائبته كامالا هاريس ووزير خارجيته أنطوني بلينكن، كي يعيد الاعتبار إلى دور وزارة الخارجية في وضع أسس السياسة الخارجية، ملاحظاً أن دونالد ترامب انتظر سنة قبل أن يتوجه إلى مقر وزارة الخارجية، التي توجه إليها بايدن بعد أسبوعين فقط من تنصيبه لإلقاء خطابه الأول، وهو الخطاب الذي تضمن إشادة بالدبلوماسية والعاملين في حقلها، والذين تقصد سلفه إهمالهم عندما صار يلجأ إلى دبلوماسية تغريدات "التويتر (2) ".
ويعتبر وزير الخارجية انطوني بلينكن، الفرانكوفوني وخريج جامعة هارفارد، من أقرب مستشاري جو بايدن منذ عشرين عاماً، إذ عين مديراً لموظفي لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ التي ترأسها بايدن خلال ولاية جورج بوش الابن، ثم عينه بايدن مستشاراً له لشؤون الأمن القومي عندما أصبح نائباً للرئيس باراك أوباما في سنة 2008، ثم أصبح بلينكن في سنة 2014 نائباً لوزير الخارجية جون كيري. وهو "شارك في الحلقة المقربة مني في جميع الاجتماعات الرئيسية طول فترة رئاستي" كما يقول عنه أوباما في مقابلة مع صحيفة "الواشنطن بوست"، ويتابع: "إنه استثنائي، ذكي، ظريف، ودبلوماسي محنك ومعترف به في العالم أجمع". ويطمح بلينكن، كما بايدن، إلى عودة الولايات المتحدة إلى احتلال مكانتها القيادية على الساحة الدولية، من خلال عودتها للانضمام إلى التحالفات والمعاهدات التي تخلى عنها ترامب أو انتقدها، وهو يرى في روسيا "خصماً" يتوجب التصدي له، وينوي اعتماد "سياسة قاسية" إزاء الصين "لكن منسقة مع حلفاء واشنطن"، ويعبر عن قلقه "من لجوء الصين إلى التكنولوجيا لتعزيز سيطرتها". وكان بلينكن انخرط بنشاط، في عهد إدارة أوباما، في رسم سياسة بلاده في الشرق الأوسط، بما في ذلك الاتفاق التاريخي مع إيران، وكان من أنصار التدخل العسكري الأميركي في سورية سنة 2013، وقدّر، في تموز/يوليو 2020، أن إدارة بايدن في حال وصولها إلى البيت الأبيض "ستتفحص العلاقة مع الحكومة السعودية التي أعطاها الرئيس ترامب شيكاً على بياض لتواصل سياسات كارثية بما في ذلك الحرب في اليمن، ومقتل جمال خاشقجي وقمع المنشقين في الداخل"، مضيفاً أنها "لن تتراجع عما قدمه ترامب لإسرائيل، لكنها ستستند إلى الدينامية الجديدة المتولدة من اتفاقيات التطبيع لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين ومحاولة إقناع دول الخليج بلعب دور أكثر فاعلية إزاء هذا الملف"، وستتمايز عن الإدارة السابقة عبر "استئناف التفاوض مع الفلسطينيين على أساس حل الدولتين وإعادة منحهم المساعدة الأميركية"، وكان أكد في أيار/مايو 2020 أن بايدن "لن يربط المساعدة العسكرية لإسرائيل بالقرارات السياسية التي تتخذها حكومتها"، وكان غرد، في سنة 2016، على "توتير" أنه "فخور" بالعمل "في خدمة رئيس فعلت إدارته لأمن إسرائيل أكثر من أي إدارة سابقة". (3)
أما الشخصية الثانية في وزارة الخارجية الأميركية، فهي نائبة الوزير ويندي شرمان، التي تبلغ من العمر 71 عاماً، وكانت مستشارة دبلوماسية في عهد إدارة بيل كلينون قبل أن تصبح معاونة وزير الخارجية للشؤون السياسية في الولاية الثانية لباراك أوباما، وبهذه الصفة، لعبت دوراً بارزاً في التفاوض على الاتفاق النووي مع إيران، وكانت قد عملت على ملف كوريا الشمالية النووي في عهد بيل كلينتون.
العودة إلى مراعاة "شيء" من تعددية العلاقات الدولية
بحسب مدير "معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية" في باريس باسكال بونيفاس، ستتضمن سياسة جو بايدن الخارجية، خلافاً للنزعة "الأحادية" التي طبعت سياسة سلفه الخارجية، "شيئاً" من مراعاة التعددية في العلاقات الدولية، لكن الرئيس الجديد "لن يكون رئيساً يراعي التعددية بصورة كلية"، على اعتبار أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعرف في تاريخها رئيساً كهذا. وعليه، سيعود بايدن إلى اتفاقية باريس للمناخ، وإلى الهيئات الدولية التي انسحب منها سلفه، وسيطمئن الحلفاء الأوروبيين والآسيويين، في اليابان وكوريا الجنوبية، الذين تخوفوا من أن تتخلى عنهم الولايات المتحدة في عهد الإدارة السابقة، وسيعتمد في أوروبا "على الألمان أكثر من اعتماده على الفرنسيين نظراً لثقل ألمانيا الاقتصادي"، لكن قضية مساهمة أوروبا في نفقات الأمن الجماعي "ستبقى قضية معلقة، ولن تختفي التوترات حول التشارك في العبء بشأن الدفاع عن أوروبا الغربية"، وتبقى "قليلة فرص عدم تضامن أميركا مع تركيا في إطار حلف شمال الأطلسي على الرغم من مواقف الاتحاد الأوروبي وخصوصاً فرنسا". ويتابع بونيفاس أن جو بايدن، الذي وعد خلال حملته الانتخابية بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، سيتفاوض مع إيران، وسيواصل سحب القوات الأميركية من أفغانستان، وربما من العراق أيضاً. وهو لن يعيد سفارة بلاده إلى تل أبيب، لكنه قد يعيد فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، ويعلن التمسك بحل الدولتين، أي "سيستعيد الخطاب المنافق الذي تبناه المجتمع الدولي حول خيار الدولتين، علماً أنه يعرف أن ما كان من الصعب تحقيقه قبل أربع سنوات [عندما كان نائباً للرئيس] بات أصعب كثيراً اليوم. وعليه، وإذا ظل الفلسطينيون متشككين إزاء سياسة ترامب، فليس لديهم أي سبب لبناء آمال على سياسة بايدن".
ويرى المحلل الفرنسي نفسه أن باراك أوباما كان قد أعاد توجيه الدبلوماسية الأميركية نحو آسيا، وتابع دونالد ترامب هذا التوجه بغية "النضال ضد التوسعية التجارية الصينية في الولايات المتحدة، وعموماً ضد بعض تأثيرات العولمة"، خصوصاً وأن هناك شعوراً لدى قسم كبير من المجتمع الأميركي بأن هذه العولمة "انقلبت على الولايات المتحدة الأميركية، إذ هي أفقرت الطبقة المتوسطة التقليدية وتسببت في تحولات ديموغرافية قد تجعل البيض في المستقبل أقلية في بلدهم". وعليه، فإن جو بايدن لا يمكنه تجاهل هذا الأمر، وسيجد صعوبة كبيرة، لدى بناء سياسة إدارته الخارجية، في إيجاد توازن "بين من من ينتابه الحنين إلى عهد أوباما وبين الشباب اليساريين في الحزب الديمقراطي المناهضين للعولمة، والمتمسكين بالعدالة الاجتماعية" (4).
العالم في "حاجة" لأميركا، ولكن هل يقبل بقيادتها؟
يرى أستاذ العلاقات الدولية فردريك شارييون والمستشار في شؤون الدفاع والأمن باتريك شوفالورو، في مقال نشراه في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أن أولوية جو بايدن ستكون للسياسة الداخلية، في ظل انقسام لا سابق له يشهده المجتمع الأميركي والأزمتين الصحية والاقتصادية اللتين يواجههما؛ لكن العالم "في حاجة إلى أميركا"، كما يتابعان، ذلك "لأن الأزمة الاقتصادية عالمية، والحلفاء يشككون ببعضهم بعضاً بل يتواجهون (تركيا واليونان، تركيا وفرنسا)، ويحتاج حلف شمال الأطلسي إلى قيادة، وأميركا انسحبت في عهد ترامب من هيئات دولية عدة، والأزمة المناخية تتفاقم، والشرق الأوسط يجد نفسه أمام طريق مسدود، والشعبوية تنتشر على نطاق واسع". ويتساءل الكاتبان: "فإذا أرادت أميركا استعادة الدور القيادي على مستوى العالم، فهل سيقبل العالم بذلك؟ "؛ فالصين استفادت، خلال السنوات الأربع الفائتة، من أخطاء ترامب، ومشروعها "طريق الحرير" الجديد هو اليوم "المشروع الاستراتيجي الكوني المهم الوحيد"، وروسيا وتركيا استفادتا كذلك من "تساهل" واشنطن في عهد ترامب كي "تعززا استراتيجيات نفوذ لم تعد إقليمية فقط". فماذا ستفعل إدارة بايدن في أوضاع كهذه؟ هل ستعود إلى تعددية القطبية؟ لعل هذا محتمل مع عودتها إلى المنظمات والمعاهدات الدولية الكبرى "مثل اتفاقية المناخ، ومنظمة الصحة العالمية، والاتفاق النووي الإيراني، وتفعيل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الباسيفيكي"، كما ستسعى إلى طمأنة الحلفاء التقليديين، "بإصلاح الأضرار التي ألحقها ترامب بالعلاقات مع أوروبا ومع حلف شمال الأطلسي"، وهي إذ ستستعيد "خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان"، سيكون من الصعب عليها "مواءمته مع علاقاتها مع الصين وتركيا والسعودية".
لكن الصعوبة الكبرى التي ستواجهها إدارة جو بايدن، ستتأتى –كما يخلص إلى ذلك الكاتبان- "من غياب نظام دولي واضح المعالم"؛ فهناك اليوم "ثتائية قطبية في آسيا، وتحاول قوى عدة تجنب الاختيار بين واشنطن وبكين"، بينما هناك "تعددية قطبية في مناطق أخرى، مثل حوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى، حيث تتكالب عليهما قوى كثيرة"، وهناك "تنامي لقوى المجتمعات المدنية، وحروب هجينة كما في أوكرانيا أو سريعة ووحشية كما في ناغورنو كاراباخ"، الأمر الذي يفرض على هذه الإدارة أن تسعى إلى "بناء رؤيا متشاركة مع أوروبا" حول النظام الدولي. (5)
"أمريكا في المقدمة!!" هل هذا متاح؟
يقدّر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ليون الثالثة أوليفييه زاجك، في مقال نشره في "لوموند ديبلوماتيك" في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أن جو بايدن يريد استعادة مكانة الولايات المتحدة في العالم التي تضررت في عهد دونالد ترامب، وهو يأمل بإعادة بناء النظام الدولي وباستعادة القيادة الأميركية له، والحجة الأفضل لهذه "الأطروحة الأبوية" التي يتبناها هي "السياسة الخشنة" التي اتبعتها إدارة ترامب بشأن بعض الملفات، مثل الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران أو الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ. لكن التفكير باستعادة القيادة الأميركية باللجوء إلى انتهاج "الدبلوماسية الديمقراطية" يقوم على ثلاثة أخطاء بشأن الآفاق، كما يرى الكاتب: فهذا التفكير "يخطئ عندما يتعامل مع نظام دولي قائم حصراً على تراتبية"، وهو "لا يقبل حقيقة التطور المتعدد الأقطاب المعاصر"، وأخيراً هو "يعطي الانطباع بأن مجمل أفعال إدارة ترامب أظهرت فشلاً أو قراءة خاطئة للعلاقات الدولية"، ليخلص إلى أن هذا التفكير سيحكم "بالفشل السريع" على سياسات استعادة النظام الدولي التي تطمح إليها إدارة جو بايدن. فبعد ثلاثين عاماً من نهاية الحرب الباردة، تغيّرت التوازنات الدولية والإقليمية بصورة أساسية؛ فأميركا التي تتقدم على غيرها على الصعيد العسكري، بات "يتوجب عليها أن تحسب حساب تقدم الصين الحتمي الذي يتم بخطوات حثيثة على المدى البعيد"، وأن تحسب حساباً لشركاء الصين "الذين يأملون بأن يركبوا قطار التنمية الصيني السريع، بحسب قول [الرئيس الصيني] شي جين بينغ في منتدى دافوس لسنة 2017 الذي استقبل بتصفيق حاد، إذ أصبحت الصين قادرة على أن تفرض شراكات جيو سياسية وجيو اقتصادية بديلة للشراكات مع الولايات المتحدة الأميركية"".
وينهي زاجك مقاله بالقول إنه إذا كان دونالد ترامب قد طرح شعار "أميركاً أولاً"، فإن شعار جو بايدن هو في الحقيقة "أميركا في المقدمة"، بحيث يعود إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما كتب بايدن، " قيادة المسيرة"، نظراً إلى أنه "ما من أمة أخرى قادرة على فعل ذلك"، وهذه النظرية التي ترى أنه "إما النظام الأميركي أو الفوضى" كان عبر عنها في سنة 2000 نائب وزير الخارجية ستروب تالبوت بقوله " في هذا القرن بالذات، فإن الولايات المتحدة هي بصورة ظاهرة وبطريقة حازمة مدعوة لرفع شأن مصالحها القومية وقيمها القومية من دون أن يكون هناك تناقض بينهما"، ما يعني" أن القيم الأميركية هي قيم كونية يمكن التزامها في العالم بأسره"، وهو ما لن يحدث نظراً إلى أن ساعة العالم قد تجاوزته.
الهوامش
1-https://www.lepoint.fr/.../diplomatie-joe-biden-rompt...
2- https://www.lemonde.fr/.../etats-unis-joe-biden-veut...
3-https://www.courrierinternational.com/.../casting-qui-est...; https://www.lorientlejour.com/.../comment-antony-blinken...; https://fr.timesofisrael.com/la-position-de-blinken-sur...;.
4-https://www.franceculture.fr/.../la-politique-etrangere...
5-https://theconversation.com/a-quoi-pourrait-ressembler-la...
6-https://www.monde-diplomatique.fr/2020/11/ZAJEC/62430