Menu

مَا تَقُولُهُ أُمُّ دُرَّةِ الأَرْضِ؟

عبد الرحمن بسيسو

فلسطين المحتلة - بوابة الهدف

وقَالَتْ لِيَ الأرْضُ جَدَّتيَّ الْغَالِيَةُ:

مَا إنْ جَلَسَتِ السَّمَاءُ عَلَى كُرْسيِّ عَرْشِها الَّذِي نَقَلَتْهُ الْمَلائِكةُ مِنَ الْمَرْكَبةِ السَّمَاوِيَّة إلى دَاخِلَ الْبَهوِ الْكَنْعَانيِّ، ووضَعَتْهُ عَلَى مِنَصَّةٍ قَائِمَةٍ فِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ لِمِنَصَّةِ الْعَرشِ الْمُزْدَانِ باللُّؤْلُؤِ والْمَرْجَانِ، ومَا إنْ جَلَستْ حُورِيَّتُهَا عَلَى أَرِيْكَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى يَمِيْنِ عَرْشِهَا، وَمَا إنْ وَقَفَ ثَلاثَةُ الْمَلأِ الْمَلائِكِ إلى يَسَارِ الْعَرْشِ، حَتَّى أَعْلَنَتْ ثَلاثَةُ رُسُلِ التَّاريخِ بَدْءَ مَرَاسِمِ التَّتْوِيْجِ الْوُجُوديِّ، وطُقُوسِ الزَّفَافْ.

وبِخُطُواتٍ رَشيْقَةٍ، واثِقَةٍ ومُتَحَاذِيَةٍ أَبْصَرْتُكَ وأُمَّكَ تَخْطُوانِ عَلَى سَجَّادَةٍ قُرْمُزِيَّةٍ وتَتَقَدَّمَانِ، مِنْ حَيْثُ كُنْتُمَا واقِفَيْنِ لاسْتِقْبَالِ السَّمَاءِ، صَوبَ مِنَصَّةِ عَرْشِكُمَا الْأُرْجَوانيِّ القَائِمَةِ قُبَالَةَ مِنَصَّةِ عَرْشِهَا النَّوْرَانيِّ الْوهَّاج.

وهَا إنِّي أُبْصِرُ السَّمَاءَ جَالسَةً، بِكامِلِ بَهَائِهَا وشَسَاعَتِهَا، عَلَى كُرْسِيِّ عَرْشِهَا السَّمَاوِيِّ الْمُتَوهِّجِ بِالنَّدى والنُّورِ، فِيْمَا أُبْصَرُكَ وأُمَّكَ تَخْطُوانِ صَوبَهَا مُبْتَهِجَيْنِ، فَمَا إنْ وصَلْتُمَا قُبَالَةَ عَرْشِهَا حَتَّى وَقَفْتُمَا وأَحْنَيتُمَا الرَّأْسَ، ولَبَثْتُمَا واقِفَينِ. وخلْفَكُمَا، قُبَالَةَ السَّمَاءِ، وعَلَى مَسَافَةِ خُطْوةٍ واحِدَةٍ مِنْ عَرْشِهَا، بَدَتْ مِنَصَّةِ الْعَرْشِ الكَنْعَانِيِّ ذِيِّ الْكَراسِي الثَّلاثَةِ ذَواتِ الأَعْمَدِةِ الأُرْجُوانِيَّةِ الْمُتَوَّجَةِ بِقَنَادِيْلَ بُرْتُقَالِيَّةِ الشَّكْلِ واللَّوْنْ.

ومِنْ فَورِهَا، شَرَعَتْ ثَلاثُ رُسُلِ التَّارِيخِ في التَّقَدُّمِ نَحْوَكُمَا، وإذْ صِرْنَ على مَسافةِ خُطوَتَينِ مِنْكُمَا أَحْنَينَ الرَّأْسَ تَحِيَّةً لَكُمَا، ثُمَّ تَقَدَّمنَ خُطوةً أُخْرى فَقَدَّمْنَ إلَيكُمَا لَوحَاً مَرْمَرِيَّاً مُنِيرَاً نَاصِعَ الْبَيَاضِ خُطَّتْ عَلَيْهِ بِمِدَادٍ أَخْضَرَ كُلَّ الصَّنائِعِ الْحَضَارِيَّةِ الإنْسَانِيَّةِ الْجَلِيلَةِ الَّتي اجْتَرَحْتُمَاهَا عَلَى تَعَاقُبِ الْقُرُونِ والْعُصُورِ والأزْمِنَةِ فَأَهَّلَتْكُمَا للتَّتْويج مَلِكَةً وأَمِيْراً، فَأَخْذْتُمَاهُ مِنْ أَيَادِيْهِمَا مَعَاً، ومَكَثَت عُيُونُكُمَا تُبْصِرُ في سُطُوره مَا شَرَعَتْ رُسُلُ التَّاريخِ تُعْلِنُه عَلَى الْمَلأِ ممَا احْتَوَاهُ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَيْكُمَا، ومِنْ إطْرَاءٍ خَتَمْنَهُ بالْقَولِ:

"لِكُلِّ ذَلِكَ تُقرُّ السَّمَاءُ تَوصِيَةَ التَّاريخِ الْحَيِّ بإعْلانِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ السَّيِّدةِ مِنَ الأَرضِ قَلْبَاً نَابِضَاً لِلْأَرْضِ، وتُتَوِّجُ ابْنَةَ كَنْعَانَ مَلِكَةَ خُصُوبَةٍ مِدْرَاراةً، وتُتَوِّجُ ابْنَهَا الْوَفِيَّ أَمِيْراً حُرَّاً سَيِّداً. ولِأَجْلِ الْحَيَاةِ، وباسِمِ خُصُوبَةِ الأَرْضِ، وإعْلاءً مِنْ شَأْنِ جَهْدِ الإنْسَانِ الإنْسَانِ، تُبَارِكُ السَّماءُ زَفَافَ ابْنَةِ الأَرْضِ وحُوْرِيَّةِ السَّمَاءِ الأَمِيرةِ "فِلَسْطِينَ" إلى زَوْجِهَا الأمِيرِ السَّيِّدِ الْحُرِّ ابْنِ قَرِيْنَةِ كَنْعَانَ، وتَمْنَحُ اسْمَهَا الأَزَلِيَّ الأَبَدِيَّ: "فِلَسْطِيْنَ" إلى الأُمِّ والابْنِ" (مع توَقُّفِ رُسُلِ التَّاريخِ عَنِ النُّطْقِ، يَتَقَدَّمُ مُدِيرُ الْمَراسِمِ فِي قَلْعَةِ الْمَنَارةِ، ويَأْخذُ اللَّوحَ مِنْ يَديِّ الأُمِّ والابْنِ ويُعَلِّقِهُ وسْطَ الحَائِطِ أَعْلَى مُنْتَصَفِ مِنَصَّة الْعَرْش).

***

مَا إِنْ أَنْهَتْ رُسُلُ التَّاريخِ الإنْسَانيِّ الحَضَاريِّ الْحيِّ إعْلانَ هَذَا الْمَرْسُومِ، حَتَّى أَشَرْنَ إلَيْكُمَا بالسَّيْرِ خَلْفَهُنَّ صَوبَ عَرْشِ السَّمَاءِ، فَفَعَلْتُما؛ ومَعْ بَدْءِ خَطْوِكُمَا، نَهَضَتِ السَّمَاءُ لِمُلاقَاتِكُمَا وتَقَدَّمَتْ خُطْوَةً إِلى الأَمامِ فخَطَتْ حُوْرِيَّتُهَا خُطْوَةً لِتَقِفَ بِمُحَاذَاتِهَا. وإذْ صِرْتُمَا عَلَى بُعْدِ خطْوَتَينِ مِنْهَا، آصْطَفَّتِ رُسُلُ التَّاريخِ الثَّلاثُ يُمِيْنَاً فِي الْجِهَةِ المُقَابِلَةِ لِثَّلاثَةِ الْمَلأِ الْمَلائِكِ الْمُصْطَفِّينَ يَسَاراً؛ فَأَفْسَحَتْ لَكُمَا التَّقَدُّمَ إِلى الأَمَامِ خُطْوَةً أُخْرى، فَتَقَدَّمْتُما وأَحْنَيْتُمَا للسَّمَاءِ الْواقِفَةِ أَمَامَكُمَا الرَّأْسَ، فَأَوْمَأَتْ إِليْكُمَا أَنْ تَرْفَعَاهُ فَفَعَلْتُمَا، فَإِذْ بِهَا تَمَدُّ يَدَهَا الْيُسْرى تَأْخُذُ كَفَّكَ الأَيْمَنَ، فِيْمَا يَدُهَا الْيُمْنَي تَأْخُذُ كَفَّ حُوْرِيَّتِهَا الأَيْمَنَ، وتَجْذِبُهُمَا نَحْوَهَا فَيَتَعَانَقَانِ فَوْقَ قَلْبِهَا، فَتَتْرُكُهُمَا مُتَعَانِقينِ لِتَمُدَّ يَدَهَا إلى يَدِ أُمِّكَ فَتَجْذِبُهَا إِلَيْهَا، وتَضَعُ كَفَّهَا فَوْقَ كَفَّيْكُمَا الْمُتَعَانِقَينِ لِتَفْرِدَ فَوْقَهُ وفَوْقَهُمَا كَفَّيهَا، مُجَلِّلَةً بِهَالاتِ شَمْسِهِمَا السَّاطِعَةِ كَفَّ أُمِّكِ وكفَّكَ الْمُعَانِقَ كَفَّ عَرُوسِكَ، ومُتَوَجِّهَةً إِلَيْكَ، عَلَى مَسْمَعِ جَمِيعِ الْحُضُورِ مِنْ إنْسَانِيِّي الْبَشَرِ الآتِيْنَ إلَيْكَ مِنْ كُلِّ بِقَاعِ الأَرضِ وأَحْيَازِهَا، بالْقُولِ:

"هَذِه هِيَ حُورِيَّتي الأرْضِيَّةُ الأَثِيْرةُ الْجَمِيْلَةُ، وهِيَ الشَّقِيْقَةُ التَّوأَمُ لِحُوْرِيَّتَيْنِ تَحْمِلَانِ الاسْمَ نَفَسَهُ "فِلَسْطِينْ"؛ وهُمَا حُوريَّةُ شَمْسٍ وَحُوريَّةُ بَحْرٍ، وهِيَ، قَبْلَ هذا وبَعْدهُ، جَوْهَرَتُك الْخَضْراءُ الَّتِي وْلِدَتْ مَعَكَ، ومِنْكَ، وشَارَكَتْك فِي حُضْنِ أُمِّكِ الأَرضِ مَهْدَكْ، إنَّهَا ابْنَةُ إصْغَائِكَ الْمُرْهَفِ، كَإنْسَانٍ إنْسانٍ، لِنَداءَاتِ الْوُجُودِ الْحَقِّ، وهي تَجَلٍّ مُنِيْرٍ للرَّسَائلِ والأَشْواقِ المُتَبَادَلَةِ، عَبْرَكَ، مَا بَيْنِي وبَيْنَ أُمِّ أُمِّكَ وأُمِّكِ، وإنِّي، بَاسْمِ اللَّه، بِاسْمِ مُوْجِدِ الْوجُودَ الْحَقَّ؛ وبِاسْمِ جَمِيْعِ أَسْمَائِهِ السَّاكِنَةِ وِجْدانَ الإنْسَانِ الإنْسانِ، وباسْمي أَنَا سَيِّدةُ السَّمَاواتِ وبِاسْمِ شَقِيْقَتِي سَيِّدةِ الأَرضِ، أُمِّ أُمِّكِ، لأَزُفُّهَا سَيِّدةً وقَرِيَنةً أَبَدِيَّةً مُبَارَكَةً إِلَيْكَ، ودُرَّةً لِجَدَّتِكُمَا الْأَرضِ وقَلْبَاً. (ما إنْ نَطَقتِ السَّمَاءُ اسْم "الله" حَتَّى خَطَّتْ أَصَابِعُ سَحَابَاتٌ نُورانِيَّةٌ اسْمَهُ فوقَ رأْسِهَا بِلَونٍ أُرجُوانِيٍّ يَتَوهَّجُ عَلَى خَلْفيَّةٍ سَمَاوِيَّةٍ زَرْقَاءَ تُضِيْئُهَا شَمْسٌ بُرْتُقَالِيَّةٌ، فَرفَعَ جَمِيْعُ مَنْ فِي الْبَهْوِ أكُفَّهُمْ مَفْتُوحَةً أَمَامَ وُجُوهِهِمْ، وأَخَذُوا يُحَدِّقُونَ فِي تَشَكُّلاتِ السَّحَابَاتِ النُّورانِيَّةِ مُبْتَهِلِيْنَ، وظَلَّ اسْمُ "اللهِ" مُرتَسِمَاً فَوقَ رَأْسِ السَّمَاءِ حَتَّى أَتَمَّتْ مَرَاسِمُ الزَّفافِ وطُقُوسَ التَّتْويْج السَّمَاويَّة). وإِنِّي لَأُتَوِّجُكُمَا أَمِيرَةً سَيِّدةَ وأَمِيرَاً سَيِّداً عَلَى عَرْشِ قَلْبِ شَقِيْقَتيَ الأَرْضِ؛ فَلْيَكُنْ كُلٌّ مِنْكُما للآخَرِ بِمَثَابَةَ الرُّوحْ، ولْيَحْفَظَ "اللهُ" جَلَّ جَلالُهُ أُمَّكُمَا الَّتي بِكُلِّ اسْمَائِهِ أُتَوِّجُهَا، وَلْيُبَارِكَ قِرَانَكُمَا، ولْيَحْفَظَ أُمَّكُمَا الْواحِدَةِ، ولْيَحْفَظَكُمَا".

وإذْ أَكْمَلَتِ السَّماءُ قَوْلَهَا، أَومَأَتْ إلى حُوْريَّتِهَا: "فِلسْطِيْنَ"، فَخَطَتْ ثُمَّ اسْتَدَارتْ واقِفَةً، في حَيَاءٍ وخَفَرٍ، إلى يَسَارِ زَوْجِهَا الأبَديِّ، وإذَا بِصَوتِ جَمِيْعِ الحُضُورِ يَنْبَثِقُ، بِصَفْوٍ مُتَنَاغِمٍ، مُرَدِّداً: "مُبَاركٌ باسْمِ اللهِ، والْوجُودِ الْحَضَاريِّ الحَقِّ، والإنْسَانِ الإِنْسانِ، هَذَا الزَّفافُ الْمُبَاركُ الْمُسْتَحَقُّ؛ مُبَاركٌ باسْمِ اللهِ، والْوجُودِ الْحَضَاريِّ الحَقِّ، والإنْسَانِ الإنْسَانِ هَذَا الزَّفافُ الْمُبَاركْ، مُبَاركٌ باسْمِ اللهِ، والْوجُودِ الْحَضَاريِّ الحَقِّ، والإنْسَانِ الإنْسَانِ هَذَا الزَّفافُ الْمُبَاركُ الْمُسْتَحَقُّ ".

***

وخِلالَ تِرْدَادِ الْمُبَارَكَةِ الْجَمْعِيَّةِ هَذِهِ، كَانَ الْمَلاكُ الأَوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ مُقْتَرِباً مِنَ السَّمَاءِ مُقَدِّماً إِلَيْهَا التَّاجَ الأَوَّلَ، فَأَخَذَتْهُ، وبِهِ تَوَّجَتْ رأْسَ أُمِّكَ، ثُمَّ أَخَذَتِ التَّاجَ الثَّانِي، وتَوَّجَتْ بِهِ رَأْسَكْ، ثُمَّ مَسَحَتْ بِالْكَفِّ الأَيمنِ هامِسَةً، باسْمِ اللهِ والإنْسَانِ الإنْسَانِ، تَاجَ الْعَرُوسِ، حُورِيَّةِ السَّمَاءِ ودُرَّةِ الأَرْضِ وقِلْبِهَا: "فِلَسْطِيْنَ" الَّذِي بَدا أَنَّهُ مَا فَارقَ رَأْسَهَا يَومَاً، وَظَلَّ يَكْبُرُ مَعَهَا مُزْدانَاً بِهَا، مُذْ ولِدَتْ مِنْ رَحِمِ أُمِّهَا الأَرضِ ابْنَةً فَتِيَّةً لِأَوَّلِ إِنْسَانٍ كَنْعَانيٍّ فِلَسْطِيْنيٍّ إِنْسَانْ.

ومع تَراجُعِ المَلاكِ الأَوَّلِ، تَقَدَّمَ الثَّانِي مُقَدِّمَا الصَّولَجَانَ لِلسَّمَاءِ، فَأَخَذَتْهُ منْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الْوهَّاجَةِ، وأَشَارَتْ إِليْكَ أَنْ تَمُدَّ يَدَكَ الْيُمْنَى إلَيْهَا، فَمَدَدَّتَها، فَوَضَعَتْ مِقْبَضَ الصَّولَجَانِ فِي كفِّكَ فَضَمَمْتُهُ مِنْ فَورِكَ، وبِثَقَةٍ عَالِيَةٍ، عَلِيْهْ.

ثُمَّ تَقَدَّم الْمَلاكُ الثَّالثُ، حَامِلُ كِتَابِ السَّمَاءِ، فتَقدَّمْتَ وأُمُّكَ وعَرُوسُكَ خُطْوةً أُخْرى، وَمَدَدْتُّمُ أَيَادِيْكُمْ مَفْتُوحَةَ الأَكُفِّ، فوَضَعَتِ السَّمَاءُ الْكِتَابَ الْمُنِيرَ عَلِيْهَا، فَقَبَّلْتُمَوهُ كُلٌّ بِدَورِهِ: الأُمُّ، فَالابْنُ، فَالْعَرُوْسُ، ثَلَاثَ قُبِلاتٍ، مُقْسِمَينِ فِي سَرائِرِ وِجْدَانِكُمُ الْمُتَواشِجِ الْهُوِيَّةِ، عَلَى الْتِزَامِ كُلِّ مَا فِيْهِ مِنْ تَعَالِيْمَ وفُرُوضٍ وإرْشَادَاتٍ وَوَصَايَا هِيَ، فِي الْبَدءِ والْمُنْتَهى، خُلاصَاتِ الرَّسَائِلِ الْمُتبادَلَةِ، عَبْرَكُمْ وبِصَوتِ أَشْواقِكِمِ وبِنُبْلِ عَطَاءِ عُقُولِكِمُ الإنْسَانِيَّةِ الْوَقَّادَةِ وجَهْدِ سَواعِدِكُمُ الْبَانِيَةِ، بيْنَيْ أَنَا جَدَّتُكَ سَيِّدةُ الأَرْضِ ، وبَيْنَ شَقِيْقَتِيَ الْغَالِيَةِ عَلَيَّ سَيِّدةِ السَّمَاءْ.

وهُنَا أَشَارتِ شَقِيْقَتي سَيِّدةُ السَّمَاءِ إليَّ أَنْ أُقْبِلَ عَلَيْهَا، فَجَعَلَتْ رُسُلُ التَّاريخِ الثَّلاثُ إِشَارَتَهَا صَوتَاً مُتَنَاغِمَاً ذَا نَبْرٍ أَثِيْرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى أَصْواتِهِنَّ أَثيْرُ الْبَهْوِّ ويبَثُّهُ في فَضَاءَاتِهِ الشَّاسِعَاتِ: "السَّمَاءُ الْجَلِيْلَةُ تَدْعُو شَقِيْقَتَهَا الأَرْضَ السَّخِيَّةَ الْمُبَجَّلَةَ بِالتَّفَضُّلِ، مَشْكُورَةً، بِالإِقْبَالِ عَلَيْهَا، لِتَنْعَمَ بِصُحْبَتِهَا".

ومَا كَادَتْ رُسُلُ التَّاريخِ تُنْهِي النِّدَاءَ حتَّى كُنْتُ أَقِفُ أَمَامَ شَقِيْقَتِيْ، بِجِوارِ أُمِّكَ ابْنَتِيْ وابْنَةِ جَدِّكَ كَنْعَانَ، وبِجِوَارِكَ، وبِجِوارِ عَرُوسِكَ دُرَّةِ الأرْضِ وحُوريَّةِ السَّمَاءِ، فَوَجَدْتُنِي، مِثْلُكُمْ، أُقبِّلُ الْكِتَابَ الْمُنِيرَ ثَلاثَ قُبُلاتٍ، مُقْسِمَةً فِي دَخِيْلةِ نَفْسِي، وامْتثَالاً لِأمْرِ وِجْدَانِيَ الْكُلِّيِّ، عَلَى الْتِزَامِهِ، ثُمَّ وجَدْتُنيْ أَتَقدَّمُ لأَطْبَعَ عَلَى جَبِيْنِ شَقِيْقَتِيْ قُبْلَةً نَدِيَّةً، لِأَعُودَ بَعْدَهَا وقَدِ انْطبَعَتْ خُطُوطُ جَبِيْنِهَا عَلَى شَفَتَيَّ،  إِلى مَوضِعِ جُلُوْسِيَ بِجِوَارِ ابْنَتِيَ الأَثِيْرةِ: أُمِّكَ، فَمَا إنْ جَلَسْتُ حَتَّى وصَلَ مَسْمَعِي صَوْتُ شَقِيْقَتِيَ السَّمَاءِ يُخَاطِبُكَ: "ها إنِّي قَدْ قَلَّدْتُكَ باسمِ الله وبِاسْمِ الإنْسَانِ الإنْسَانِ الأَمْرَ كُلَّهُ وألْزَمْتُكَ إيَّاهُ"، فَإِذَا بِيْ اَسْمَعُكَ تَسْتَأْذِنُ السَّمَاءَ،مُسْتَجِيْبَاً لإلْزَامِهَا، ورُبَّمَا لِأَمْرٍ كُنْتَ تُضْمِرُهُ: "فَلْتَأْذَنْ لِيَ السَّمَاءُ الْجَلِيْلَةُ أَنْ أُقَلِّدَ قَريْنَتِيَ الأَبَدِيَّةَ، وأُمِّيَ، وأُمَّ أُمِّيَ، ثَلاثَةَ عُقُودٍ ذَوَاتِ قَلائِدَ"، فَأَوْمَأَتْ إلَيْكَ السَّمَاءُ، مُبْتِهِجَةً، أَنِ اشْرَعْ، فَشَرَعْتَ. (في هَذِهِ اللَّحْظَةِ تَقَدَّمَتْ رَسُوُلَةُ التَّاريخِ الْوَاقِفَةِ فِي الْوَسَطِ وَأَخَذَتْ بِكَفَّيهَا كِتَابَ السَّمَاءِ الْمُنِيرَ مِنَ الأَكُفِّ الْمُنْبَسِطَةِ الَّتِي تَحْمِلُهُ، ثًمَّ عَادَتْ وَوَقَفَتْ مُتَقَدِّمَةً خُطْوةً واحِدَةً عِنِ الْمَوضِعِ الَّذِي كَانَتْ تَقِفُ فِيْهِ فِي مُحَاذاةِ شَقِيقَتَيْهَا الرَّسُولَتَيْنِ).

فَإِذَا بِيْ أُبْصِرُ مُدِيْرَ مَراسِمِكَ، الْوَاقِفَ خَلْفَكَ بِاسْتِمْرارٍ مُذْ بَدْءِ الْبَدْءِ، يَفْتَحُ عُلْبةً عَاجِيَّةً، مَكْسُوَّةً بِمُخْمَلٍ أُرْجُوانِيٍّ، ويُقرِّبُهَا مِنْ يَدِكَ، فَتَأْخُذُ أَوَّلَ عُقْدٍ لُؤْلُؤِيٍّ وتَسْتَديرُ إِلى عَرُوْسِكَ تُقلِّدُ جِيْدَهَا إيَّاهُ، ثُمَّ تَأْخُذُ عُقْدَاً ثَانِيَاً تُقَلِّدُهُ جِيْدَ أُمِّكَ، ثُمَّ عُقْدَاً ثَالِثَاً تُقَلِّدُهُ جِيْدِي، فإِذَا بِثَلاثَةِ عُقُودٍ تَوَائِمَ تَزْهُو بِهَا جُيُودُ ثُلاثَتِنَا، وتَسْتَنِيْرُ بِسَنَاهَا صُدُورُنَا، وإِذَا بانْعِكَاسِ أَنْوارِ السَّمَاءِ الوَاقِفَةِ أَمَامَنَا عَلَيْهَا يُضَاعِفُ بَريْقَهَا مرَّاتٍ ومَرَّاتْ، وإذا بِبَهوِ قَلْعَةِ الْمَنَارةِ يَتَوَهَّجُ بالنُّور، وإذَا بِكَ تَتَوَجَّهُ إلى السَّمَاءِ قَائِلاً: "سيِّدَتِي الْجَمِيْلَةُ الْجَلِيلةُ، شَقِيْقَةُ جَدَّتِي، وخَالَةُ أُمِّي، هَا إنَّكِ قَدْ قَلَدْتِنَي الأَمْرَ كُلَّهُ، وأَلْزَمْتِنِيْ إيَّاهُ، وإنِّي لَمُقَلَّدَهُ، ومُلْزَمٌ نَفْسِيْ بِالْوَفَاءِ بِهِ لُزُومَ هَذِهِ الْقَلائِدِ أَعْنَاقَ قَرِينَتِيْ وأُمِّيْ وَجَدَّتِيْ". وَهُنَا ربَّتَتِ السَّمَاءُ الْمُصْغِيَةُ عَلَى كَتِفَيْكَ، وبِكَفِّهَا مَسَحَتْ جَبِيْنَكَ، ثُمَّ مَدَّتْ يَدَيْهَا وفَتَحَتْ كَفَّيْهَا في إِشَارَةٍ تُعْلِنُ اكْتِمَالَ الْمَرَاسِمِ السَّمَاوِيَّةِ، وتَأْذَنُ لَنَا بِالْعَوْدَةِ إِلى أَمَاكِنِنَا فِي الْبَهْوِ؛ فَإِذَا برُسُلِ التَّاريخِ الثَّلاثِ يَسْتَدِرْنَ، بِخُطواتٍ رَشِيْقَةٍ، تَتَقَدَّمُهنَّ، بِخُطْوةٍ واحِدَةٍ، الرَّسُولةُ حَامِلةُ كِتَابِ السَّمَاءِ، لِيَقِفْنَ خَلْفَكُمْ عَلَى السَّجَّادَةِ القُرْمُزِيَّةِ تَهَيُّئَاً لِلْخَطْوِ الْعَكْسِيِّ صَوبَ مِنَصَّةِ الْعَرشِ الْكَنْعَانِيِّ الْفِلَسْطِيْنيِّ الْخَالِدْ.

***

وفي تِلْكَ الأَثْنَاءِ، كُنْتُ أَنَا قَدْ عُدْتُ إِلى مِقْعَدي بِجِوارِ الُبَحْرِ، وكُنْتُ مَسْكُونَةً بِالابْتِهَاجِ الْغَامِرِ، مَسْرُوَرةً بالْعُقْدِ الدُّريِّ الْبَرَّاقِ ذِي الْقِلَادَةِ الْكَرِيَمةِ الَّذِي أَهْدَيْتَني إِيَّاهُ، وقَلَّدْتَ، بِأَطْرافِ أَصَابِعِكَ الْمُبْدِعَةِ الْمَاهِرةِ الْخَلَّاقَةِ، عُنُقِيْ، والَّذِي مَكَثْتُ والْبَحْرُ نَتَأَمَّلُ دُرَرَهُ النَّفِيْسَةَ، وشَمْسَتَهُ، ونَسْتَكْشِفُ أَطْواءَ قِلَادَتِهِ، وَنُمْعِنُ النَّظَرَ فِي قَلْبِهَا المُنِيْرِ، ونُصْغِي لِهَمِسِ هَمْسِهِ النَّابِضِ بِسُمُوٍّ إِنْسَانِيٍّ لَا يَخْفُتُ، ولَا يَغِيْبُ، وأَبدَاً لَنْ يُغَيِّبُهُ زَعِيْقُ تَوحُّشٍ بَشَريٍّ عُنْصُرِيٍّ، وتَلْفِيْقٍ حَضَارِيٍّ تَارِيْخِيٍّ، وتَزْوِيرٍ سَرْدِيٍّ، وَزيْفْ.

وحِيْنَ شَرَعْتُمْ في الْخَطوِّ الْعَكْسِيِّ كَي لا تُدِيْرُوا ظُهُورَكُم، أَبَدَاً، للسَّمَاءِ، أَبْصَرْتُكُمْ، بِأُمِّ عَيْني وبِعَيْنِ وِجْدَانِي، تَقْتَرِبُونَ مِنْ قُبَّةٍ زُجَاجِيَّةٍ صَافِيَةٍ شَفَّافَةٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى قُبَّةِ السَّمَاءِ الزَّرْقَاءِ، ومَوْضُوعَةٍ عَلَى عُلوٍّ سَامِقٍ فِي مُواجَهَةِ ثَالُوثِ كَراسِيَ الْعَرْشِ. ثُمَّ أَبْصَرتُ رَسُولَةَ التَّاريخِ؛ حَامِلَةَ الْكِتَابِ السَّمَاويِّ الْمُنِيرِ، تَسْتَدِيْرُ قَلِيْلاً، لِتَضَعَ الْكِتَابَ فَوقَ كَفَّيْكَ الْمَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى وُسْعِهِمَا، فَمَا إِنْ وضَعَتْهُ فَوْقَهُمَا حَتَّى تَقَدَّمَتْ تَفْتَحُ الْقُبَّةَ الْمُطَلْسَمَةِ، فَفَتَحْتْهَا إِذْ نَطَقَتْ، هَامِسَةً مُغْمِضَةَ الْعيْنَيْنِ، حُرُوْفَ الاسْمِ: "فِلَسْطِيْنَ"، حَرْفَاً حَرْفَاً، فَأَوْدَعْتَ فِيْهَا، مِنْ فَوْرِكَ، كِتَابَ السَّمَاءِ، فَأَغْلَقَتْهَا، كَمَا فَتَحَتْهَا. ثُمَّ أَبْصَرْتُكُمْ تَقِفُونَ، جَمِيْعَاً، أَمَامَ الْكِتَابِ مُوَقِّرينَ خَاشِعَينَ، فَإِذَا بِبَريقِ سَنَاهُ ينْعَكِسُ عَلَيْكُمَ فتُشِعُّونَ بأَنْوارٍ كَونِيَّةٍ تَمَازَجَتْ مع تِلْكَ الْمُنْبَعِثَةِ مِنْكُمْ، ومِنَ الْعُقُودِ الدُّريَّةِ الثَّلاثَةِ، ومِنْ بَهاءِ السَّمَاءِ.

***

وحِيْنَ اصْطَفَّتْ رُسُلُ التَّاريخ الثَّلاثُ عَلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ مِنَ ثَالُوثِ الْعَرْشِ، جَلَستِ الْمَلِكَةُ الأُمُّ عَلَى الكُرْسِيِّ الأَيْمَنِ مِنَ الْعَرشِ وجلَستَ أَنْتَ عَلَى الكُرْسِيِّ الأَوْسَطِ، وجَلَسَتِ الْحُوريَّةُ الأَمِيْرةُ قَريْنَتُكَ الأَبَدِيَّةُ عَلَى الْكُرسِيِّ الأَيْسَرِ، فَأَعْلَنْتْ رُسُلُ التَّاريخِ الثَّلاثِ دَعْوَةَ السَّمَاءِ كُلَّاًّ مِنَ الشَّمْسِ والْبَحْرِ لِأَدَاءِ طُقُوسِهِمَا الْمُتَمِّمَةِ لِمَراسِمِ الزَّفَافِ والتَّتْويْجِ قَائِلاتٍ بِصَوتٍ مُتنَاغِمِ النَّبرَاتِ: "السَّمَاءُ الْجَلِيْلَةُ تَدْعُو الشَمْسَ الْمُشِعَّةَ الْمَجِيْدةَ، والْبَحْرَ الشَّاسِعَ الْجَلِيلَ، بالتَّفَضُّلِ مَشْكُورَيْنِ لِأَدَاءِ طُقُوسِ إِتْمَامِ الزَّفَافِ والتَّتْوِيْجِ الْكَوْنِيِّ الْمُبَجَّلةِ".

نَهَضَتِ الشَّمْسُ بِوجْهِهَا الصَّبُوحِ، وبُرْقُعِهَا النُّوْرَانيِّ الشَّفِيْفِ، وهَامَتِهَا العَالِيَةِ، وقَوَامِهَا الْمَمْشُوقِ، وِثَوبِهَا النَّاصِعِ الْبَيَاضِ المُزَرْكَشِ الأَطْرافِ والْقَبَّةِ وَالْأَكْمَامِ بِخُيُوطٍ حَريْريَّةٍ تُحَاكِي أَلْوانَ الطَّيْفِ السَّبْعَةِ، وأَبْصَرْتُهَا تَتَهَادَى فِي الضَّوءِ السَّاطِعِ، وعَلَى يَميْنِهَا حُورِيَّةٌ تَسِيرُ عَلَى مَسَافَةِ خُطْوَةٍ واحِدةٍ ورَاءَهَا، وَيَكْسُوهَا ثَوبٌ بُرتُقاليٌّ لامِعٌ يُحَدِّدُ قَامَتَهَا، ومِنْ أُذُنَيْهَا يَتَدَلَّى قُرْطٌ فِضِّيٌ مُزْدَانٌ بالدُّر يُحَاكي شَكْلَ جَسَدِ: "فِلَسْطِينَ"، وَعَلَى جِيْدِها يَتَهَدَّلُ عُقْدٌ لُؤْلُؤِيٌّ ذُو قِلَادةٍ يُحَاكي عُقْدَ حُوريَّةِ السَّمَاءِ، فَتَبْدُو للنَّاظِرينَ بِمَثَابَةِ نَظِيرٍ مُطَابقٍ لِحُوريَّةِ السَّمَاءِ الأَمِيرَةِ "فِلَسْطِينْ"، أوْ تَجَلٍّ ثَانٍّ لِحَقِيْقَتِهَا وجَوْهَرِ جَمَالِهَا، وصُلْبِ هُوِيَّتِهَا.

ومَا إِنْ خَطَتِ الشَّمسُ وحُورِيَّتُهَا فَوْقَ السَّجَّادةِ القُرْمُزِيَّةِ حَتَّى انْبَثقَتْ مِنْ مَواضِعِ أَقْدَامِهِمَا شُمُوسٌ ذَاوتُ أَضْواءٍ مُشِعَّةٍ بَعَثَتْ فِي الْبَهْوِ الشِّاسِعِ هَالاتٍ مُتَدَاخِلةً مِنَ النَّورِ السَّاطِع الْوَهَّاج، وَمَا إِنِ اقْتَرَبَتَا مِنْ الْقُبَّةِ الزُّجَاجِيَّةِ حتَّى اسْتَدَارَتَا وأَحْنَيَتَا الرَّأْسَ إجْلَالاً لِإنْسَانِيَّةِ كِتَابِ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَدَارَتَا، مِنْ جَدِيْدٍ، وتَقَدَّمَتَا خُطْوةً أُخْرى، فَإِذَا بِهِمَا عَلَى بُعْدِ خُطْوةٍ مِنْكُمْ، فَوَقَفْتَ أَنْتِ، وَقَفَتِ الْمَلِكَةُ الأُمُّ، وَوَقَفَتْ الْحوُريَّةُ الأَمِيْرةُ، خَافِضِيْ الرُّؤُوس إِجْلَالاً لَهُمَا، فَشَرَعَتِ الشَّمْسُ، وَحُوْرِيَّتُهَا مِنْ خَلْفِهَا تُحَاكِيْهَا، تُحَرِّكُ كَفَّيْهَا الْمَفتوحَيْنِ عَلَى وُسْعِهِمَا فَوقَ رأْسِ كُلٍّ مِنْكُمْ وحَوْلَ جَسَدِهِ، فَإِذَا بِهِ يَشْتَعِلُ بالضَّوءِ، وَيَحْتَجِبُ عَنِ الأَبْصَارِ، وكأنَّمَا هُوَ قَدْ ذَابَ فِي لَهِيْبِ الشَّمْسِ، وفِي لُبِّ لُبَابِهَا الْخَالِدِ قَدْ تَجَوْهَرَ.

***

وهَكَذَا لَمْ يَعُدْ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي الْبَهْوِ قَادِراً عَلَى إِبْصَار شَيءٍ سِوَى النُّورِ الْحَاجِبِ مَا يَجْري مِنْ طُقُوسٍ مُبَجَّلَةٍ، فَمَا إِنْ شَرَعتِ  الشَّمْسُ وحُوريَّتُهَا في الابتِعَادِ عَنْ مِنَصَّةِ الْعَرْشِ عَائِدَتَينِ إِلى مَكانِهِمَا فِي الْبَهْوِ حتَّى نَهَضَ الْبَحْرُ وحُورِيَّتُهُ وَشَرَعَا يَخْطُوانِ فَوقَ السَّجَّادَةِ الْقُرْمُزِيَّةِ المُشْتَعِلَةِ بالضَّوءِ، فَإِذَا بِوَقْعِ خَطْوِهِمَا يُطْفِئُ اشْتِعَالَ الضَّوْءِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعْبُرانِهَا فيُعِيْدُهَا إِلى حَالَتِهَا النُّوْرَانِيَّةِ الأُولى، وإِذَا بِمَقْدُوْر جَمِيْعِ مَنْ فِي الْبَهوِ الشَّاسِعِ أَنْ يُبْصِرَ الْعَبَاءَاتِ الأُرْجُوانِيَّةَ الشَّمْسِيَّةَ ذَوَاتِ الْقَبَّاتِ الْهِلَالِيَّةِ والأَطْرافِ الْمُدَبَّجَة بِأَلْوانِ الطَّيْفِ تَكْسُو الثَّالُوثَ الْوَاقِفَ بِمَهَابَةِ كَواكِبَ دُرِّيَّةٍ تُضِيءُ مِنَصَّةَ الْعَرشِ.

وهَكَذا كَانَ لِكُلِّ مَنْ في الْبَهْوِ أَنْ يَرى إِلى الْبَحْرِ ضَامَّاً أَصَابِعَ كَفَّيْهِ عَلَى قَارُورَةٍ زَرْقَاءَ شفَّافةٍ فِيْهَا قَطَرَاتٌ مِنْ جَوْهَرِ مَائِهِ الصَّافِي مَمْزُوْجَةً بخُلَاصَةٍ تَكْتَنِزُ قَطَراتٍ مِنْ جَوْهَرِ تَمَوُّجِهِ الزَّاخِرِ بالْحَياة، وأَنْ يُبْصِرَهُ مَزْهُوَّاً بِشَسَاعَتِهِ، ودُرِّيَّةِ مُكْتَنَزاتِهِ، وجَمَالِ كَائِنَاتِهِ، وشُمُوخِ قَامَتِهِ العَاليةِ، وعُلُوِّ مِنْكَبَيهِ الْعَريْضَيْنِ تَكْسُوهُمَا عَبَاءَةٌ لازَوَرْدِيَّةٌ دَاكِنَةُ اللَّونِ تَشِي بِجَلَالِهِ، وغُمُوضِ أَعْمَاقِهِ الْغَائِرةِ، ورَحَابَةِ آفَاقِهِ، ولا تَنَاهِيْهِ.

وهَكَذا كَانَ لِكُلِّ مَنْ فِي الْبَهْوِ الشَّاسِعِ، أَنْ يَتَأَمَّلَ جَمَالَ حُوْرِيَّةِ الْبَحْرِ الْفَاتِنَةِ، وَهِيَ تخْطُوِ إِلى يَمِيْنِهِ عَلَى مَسَافَةِ خُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ ورَاءَهُ، مُطَوَّقَةَ الْجِيْدِ بِعُقْدٍ لُؤْلُؤِيٍّ ذِي قِلَادَةٍ دُرِّيَّةٍ مُضِيْئَةٍ تَتَوَهَّجُ كَالْجَمْرَةِ اللَّاهِبَةِ، فِيْمَا يَتَدَلَّى مِنْ شَحْمَتَيِّ أُذُنَيْهَا تَوْأَمَا قُرْطٍ فِضِّيٍّ مُزْدَانَانِ بالدُّرِ يُحَاكِيَانِ هَيْئَةَ "فِلَسْطِينَ" الأرْضِ، ويَكْسُو قَامَتَهَا الْمَمْشُوْقَةَ  ثَوْبٌ حَريريٌ أَزْرَقُ اللَّونِ مُزَركَشُ الْقَبَّةِ وأَطْرافِ الأَكْمَامِ الْفِضْفَاضَةِ بِاللُّؤْلُؤِ والْمَرْجَانِ، وتُزَيِّنُ رَدْفَتَيهِ أَصْدَافٌ ذَوَاتُ عُرُوقٍ لُؤْلُؤِيَّةٍ مُتَنَاغِمَةِ النَّبْرَةِ والْهَيْئَةِ وصَفَاءِ الأَلْوَانِ؛ فَلَا يَكَادُ جَمَالُ هَذِهِ الْحُوْرِيَّةِ الْحَسْنَاءِ ينْعَكِسُ فَتَّانَاً في الْعُيُونِ الْمُتَأَمِّلَةِ حتَّى تَرَاهَا نَظِيْراً مُكَافِئَاً لِحُورِيَّةِ السَّمَاءِ، وابْنَةِ الأرْضِ ودُرَّتِهَا، الأَمِيْرَةِ "فِلَسْطِيْنَ"، أَوْ تَجَلِّيَاً ثَالِثَاً لِحَقِيْقَتِهَا الْجَوْهَرِيَّةِ، ولِجَوْهَرِ خُصُوبِتِهَا وجَمَالِهَا الْخَالِدَيْنْ.

وَمَا إِنِ اسْتَفَاقَتِ الْعُيُونُ الْمَأْخُوذَةُ بِغُمُوضِ الْبَحْرِ، وَمَهابَتِهِ، وجَلَالِهِ، وَجَمَالِ حُوريَّتِهِ؛ تَوْأَمِ دُرَّةِ الأَرْضِ: "فِلَسْطِيْنَ"، حَتَّى أَبْصَرَتْهُمَا يُقْتَربَانِ مِنَ الْقُبَّةِ الزُّجَاجِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى قُبَّةِ السَّمَاءِ، وينْحَنِيَانِ، مَعَاً، إِجْلالاً لِكِتَابِ السَّمَاءِ والأَرْضِ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْفِلسْطينيُّ ابْنُ كَنْعَانِ الإنْسانِ، للتَّوِّ، فِيْهَا، ثُمَّ يَتَقَدَّمَانِ خُطْوَةً أُخْري لِيَشْرَعَ الْبَحْرُ فِي أَدَاءِ طُقُوْسِ مُبَاركَةِ الزَّفافِ والتَّتْويج الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ آخِذَاً فِي كَفِّهِ، وبِعَوْنِ حُوريَّتِهِ الَّتِي دَفَعَ إلَيْهَا بِقَارُوْرَتِهِ الزَّرْقَاءِ، قَطَراتٍ شَرعَ يَرُشُّهَا عَلَى رأْسِ كُلٍّ مِنْكُمُ، وعَلَى جَبِيْنَهِ وشَفَتَيهِ وصَدْرَهُ. ثُمَّ أبْصَرتُهُ يَضَعُ فِي راحَتيِّ كَفَّيِّ كُلٍّ مِنْكُمْ، تِلْكُمَا الْمَفْتَوحَتَيْنِ عَلَى وُسْعِهِمَا، قَطْرةً مِنْ جَوهَرِ مَائِهِ، ليُقْفِلَ وحُورِيَّتُهُ عَائِدَيْنِ إِلى مَكَانِهِمَا فِي الْبَهْوِ الشَّاسِعِ، ولِيُطْفئَ وَقْعُ خُطْوِهِمَا مَا كَانَتْ خُطَى الشَّمْسِ وحُورِيَّتِهَا قَدْ أَشْعَلتْهُ مِنْ هَالاتِ ضَوءٍ لاهِبٍ يَمْتَصُّ النَّورَ فَيُغَيِّبَهُ فِي الْمَسَافَةِ الْمُمتَدَّةِ مَا بَينَ نُقْطَةِ الْتِقَائِهِمَا فِي الْمَرَّةِ الأُوْلى ونِهَايةِ امْتِدَادِ السَّجَّادَةِ الْقُرْمُزِيَّةِ الَّتي شَرعَتْ رُسُلُ التَّاريخِ في طَيْهِا لِتَحْتَفِطَ بِهَا فِي خِزَانَةِ "فِلَسْطِيْنَ" إلى أَبَدٍ هُوَ الأَبَدْ.     

مُلاحَظَة: هَذْه مَقَاطِعُ مَشْهَدِيَّةٌ مِنْ نصٍّ نَثْريٍّ شَعْريٍّ مُمَسْرحٍ سَيكُونُ هُوَ الْكتابُ الثَّانِي (قَيْدَ الإكْمَالِ) مِنْ ثُلاثِيَّة: "مَا تَقُولُهُ دٌرَّةُ الأرضِ أَو هَكَذَا تَتَكَّمُ فَلسْطِين" الَّتِي نُشِرَ الكتابُ الأوَّلِ منْها قبْلَ نَحوِ خَمْسِ سَنِوات.