Menu

التشويه فنيًا: الجمال من وجهة نظر أخرى

تغريد عبد العال

غزة - بوابة الهدف

الوجوه المتضخّمة، الأعناق الطويلة، الأجساد المتضخّمة والمتلاصقة والوجوه بلا أعين. خلل ما جعلنا الفن التشكيلي ننظر إليه نظرة أخرى، ربما كجمال من زاوية أخرى.  ندخل إلى لوحات الفنان الإنكليزي فرانسيس بيكون لنقرأ شيئًا آخر لا يقصه الفن أو يحاكيه، بل كما قال دولوز في تعليقه على أعمال بوتيرو "ليس للرسم نموذج كي يمثله ولا تاريخ كي يقصه".

إنها إذًا حكاية رعب، تشويه ما في العالم يوصله الفن لنا كإحساس وحالة بالرغم من أنه أحيانًا قد نجح في جعله جميلًا بمعايير أخرى كما في لوحات مودلياني الذي رسم الأعناق الطويلة للنساء وأصبح ذلك توقيعه الخاص وأسلوبه المميز، وأيضًا نجح الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو في جعلنا نرى التضخّم في الأجساد كحالة ورؤية للعالم، ربما هي أن نزيح نظرنا عن الأمور الجاهزة والمعايير الثابتة.

ليس هناك معيار جاهز. ربما تغيب أيضًا العيون لنرى الوجوه أحيانًا ملساء وكأنها ترى عن بعد كبير، وقد تبدو الأجساد أحيانًا نحيلة جدًا إلى درجة تماهيها بالأشجار كما نحتها الفنان جيوكوماتي وجعلها تذوب في عزلتها حتى تختفي تمامًا. أكثر من معنى يتماهى في الأفق مع تلك التغييرات التي ابتكرها الفن لينحت فكرة عن الوجود الإنساني الواسع.

كان ذلك واضحًا أيضًا في الأدب حيث ظهر وحش فرانكشتاين الذي اخترعه الدكتور فرانكشتاين في رواية ماري شيلي من أجزاء بشرية متعددة لتعطي مخلوقًا مسخًا، ليسأل لماذا نحن هنا؟ لقد صدمت هذه الرواية المرعبة العالم ولكنها طرحت سؤالًا عن القبح والبؤس في هذا العالم. وهناك أيضًا مسخ كافكا الذي ظهر من شاب مع روايته "المسخ" من بين أنقاض الحرب، ليرسم خارطة جديدة في الأدب الكابوسي، فلم يكن ذلك المسخ مجرد حشرة فقط إنما انعكاس للحياة المادية القاسية.

هنا نظرة إلى معاني هذا التشوّه من خلال أعمال فرانسيس بيكون وفرناندو بوتيرو ومودلياني وجيوكوميتي وبول غيراغوسيان.

الرعب ليس احتجاجًا

هو فنان الرعب، الرسام الإنكليزي الإيرلندي فرانسيس بيكون، الذي قال مرة "ألسنا قطعًا من اللحم النيء"، فقد كرّس فنه لتصوير تشويهات البشر. لا تظهر الوجوه واضحة في لوحات بيكون بل كلها متداخلة وكأنه أصابها جرح ما، ندرك لوهلة أنه جرح ما في الداخل. يدخل بيكون إلى الوجه البشري لكن بطريقة لم يرسمها غيره من الفنانين الذين رسموا الوجه البشري بطريقة أخرى، فلم تكن غايته هو رسم البورتريهات، لقد كانت وجوه الناس بحسب تعبيره هي خرائط الروح، فقد كان دائمًا يعترض على رؤية عوالمه على أنها مآس أو فواجع، وأكّد دائمًا أنها ليست تشويهات تعبّر عن احتجاج ما، لأنه رسم بالمقابل وجوهًا لشخصيات أخرى معروفة ولكن بنفس الطريقة ربما ليفسّر أن هذه التشويهات ليست احتجاجًا فنيًا بل وجهة نظر فنية للحياة التي يمثّل التشويه جزءًا من تكوينها، لذلك راح يرسم أصدقاءه الشعراء. ولكنه اعترف في المقابل أن حياته المبكرة في إيرلندا، وغزواته للعالم السفلي للمثليين في برلين، جعلته معتادًا في العيش في أجواء عنف كما عبّر أيضًا في حديث معه عن إعجابه بلوحة مذبحة الأبرياء لنيكولا بوسان. "أعتقد أن الحياة لا معنى لها"، هكذا قال مرة وربما جاء فنه ليعطي معنى آخر لهذه العبثية.

الامتداد كحالة انفصال

تبدو تجربة الفنان الايطالي أميديو مودلياني وكأنها خارجة من السياقات التي اتّخذها فنانو الحداثة في مطلع القرن العشرين وهو الذي أمضى طفولة تلاحقه فيها الأمراض التي تركت جسده منهكًا، فأتت تأثيراته الفنية والنفسية واضحة في لوحاته التي تملؤها الأعناق الطويلة والعيون اللوزية والوجوه البيضاوية والشفاه المائلة. شخصيات تعكس الانطوائية والانسحاب كما لو أنهم يحترسون من بيئاتهم المحيطة، أو كما لاحظ الناقد الفني ماسن كلين أن مودلياني كان يختبر ثبات الهوية في الثقافة الأوروبية الهجينة في بداية عصر العولمة وهو اليهودي المولود في ايطاليا. "عندما أعرف روحك جيدًا، سأرسم عينيك"، يقول مودلياني، وهذا واضح في طريقته لرسم البورتريهات فهو يحاول أن يدخل إلى مشاعرها، فتبدو الوجوه وكأنها أقنعة لوجوه أخرى في الداخل، ولذلك تبدو منفصلة قليلًا عن صورتها الحقيقية.

كائنات بوتيرو المتضخمة

يكبّر الفنان الكولومبي فرناندو بوتيرو الشخصيات حتى تبدو وكأنها أمام مرآة مضخمة، ندرك أن هذا ليس تشويهًا، ونشعر بأن كل كائنات بوتيرو أمام المرآة ذاتها. الأجساد والوجوه تتضخّم لتعكس وجهة نظرها في الوجود، فنتذكر تلك الدمى الكبيرة التي تشعرنا بأن العالم مسرح كبير، طفولي ومرح، وكأن تقول إن روح الدعابة لا تفارق هذا العالم المشوّه الذي عالج بوتيرو الكثير من قضاياه فهو الذي رسم معتقلي سجن أبو غريب ورفضت المتاحف الأميركية أن تعرض أعماله. جعل بوتيرو من المبالغة موضوعًا فنيًا، جعلنا أحيانًا ننسى هذا التضخّم لنرى جماليات الوجوه والأجساد. وهو الذي قال عن فنه "كل هذه العناصر في فني، كرسام ونحات، تأتي من الروح نفسها وهي حبي للأحجام".

كائنات العزلة

كان الفنان النحات السويسري جيوكوميتي قد عمل مع السورياليين ولكنه طُرد من هذه الحركة نظرًا لأعماله الواقعية. ولكن جيوكوميتي كان قريبًا من الوجودية ومن صديقه سارتر لأن أعماله قال عنها ناقد ما: "إن الأجساد في منحوتاته تبدو نحيلة لتصل إلى مركزها كما الأشجار تمامًا في فصل الشتاء حيث تفقد أوراقها". وأما الشاعر الفرنسي جان جينيه فيرى في كتابه "الجرح السري، مرسم ألبيرتو جيوكوماتي"، أن فن جيوكوماتي هو اكتشاف الجرح السري عند كل الكائنات، ففي لوحاته تتبدّى أول ميزة وهي الكشف عن الجوهر الفريد وإبرازه في ثنايا الشخوص، سواء كانت هذه الشخوص جميلة أو مشوّهة. ولكن كما عبّر جيوكوميتي يومًا عن فنه "هذا هو الشيء المخيف، كلما عمل الإنسان على صورة ما، كلما صار من المستحيل إنهاؤها". ومن هنا يأتي فن جيوكوماتي وكأنه خلاصة عمل طويل لإنهاء المنحوتة، فتبدو وكأنها كائنات منعزلة ذابت من كثرة التخلص من زوائد الحياة لتصل إلى وحدة خالصة ومتحققة.

قامات متلاصقة

تتلاصق الأجساد في لوحات الفنان الفلسطيني الأرمني بول غيراغوسيان حتى تبدو وكأنها قطعة واحدة، إنها تعكس ذلك الوجود الجماعي والمصير الذي يواجه الجماعة. ربما هو ليس تشوّهًا إنما إصرار على غياب الملامح التي تميّز الوجوه، فتظهر الوجوه بلا أعين حتى في اللوحات التي يرسم فيها شخصًا واحدًا. الوجود هنا هوية واحدة، قطعة واحدة من الأجسام التي تتلون بأكثر من لون، من ينظر لا يرى أجسادًا ناقصة بل لوحة متكاملة، نقصانها هو اكتمالها. ومن لوحات غيراغوسيان نستطيع أن نتأكد أن الحياة فن يؤثّثه النقصان ويرسم له التشوّه طريقة في رؤيته بعين أخرى.

المصدر: ضفة ثالثة - العربي الجديد