السؤال الفلسطيني اليوم: أين أصبح المشروع الوطني الذي تداعى خلال العقود الثلاثة الماضية على أيدي قوى وفصائل لم تعد فاعلة، وأصبحت أسيرة خطابها القديم؟
تأتي انتفاضة القدس على وقع إصرار المقدسيين بالصمود والبقاء في مقدساتها وأحيائها ثم انضمام غزة والضفة وأراضي عام 48 المحتلة والشتات، في سياق البحث عن أفق نضالي وسياسي جديد، وهو بحث لم يبدأ في الأمس؛ إذ نجد جذوره في تحركات جماهيرية ونضالية بدأت مع معركة تفكيك البوابات الالكترونية المحيطة بالأقصى 2015، ومعركة إسقاط التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى 2017، و معركة رفع الحواجز العسكرية من بوابات القدس 2020، و التصدي لمصادرة المنازل وإبعاد أصحابها الفلسطينيين من حي الشيخ جراح وسلوان وبقية ضواحي القدس 2021.
قدمت لنا القدس وغزة أفقاً ورؤيا دمجت بين الانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة، وهو أفق يحتاج للتحول إلى برنامج سياسي ومشروع نضالي شامل، يتم الالتزام به في الضفة وغزة والقدس تمهيداً لتحويله إلى إطار جامع عبر انضمام أهلنا في أراضي فلسطين المحتلة عام 48 ومناطق اللجوء والشتات؛ فالمطلوب اليوم هو بناء إطار جبهوي متماسك ينطلق من ميادين النضال الجماهيري، ويؤسس لمعركة طويلة النفس عنوانها التشبث والبقاء في الأرض والدفاع عنها، ويندرج في سياقها شعاريْن سياسيين:
- الانسحاب الصهيوني بلا قيد ولا شرط من جميع الأراضي المحتلة، وتفكيك جميع المستعمرات، وكسر حصار غزة وإعادة إعمارها.
- إلغاء سياسة التمييز العنصري والضم الكولونيالي..!
الشعاران يكملان بعضهما؛ فإلغاء التمييز العنصري هو شعار لداخل الداخل، أما دحر الاحتلال فهو حق تأسيسي لتمكين الشعب الفلسطيني من حقه بالعودة وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني.
- خصوصية المشروع الصهيوني: إن قياس "قوة إسرائيل" في الفكر السياسي الفلسطيني يتم أحياناً بشكل يتراوح بين اتجاهين: كثيراً ما نسمع من يصفها بأنها "قوة لا تقهر" وبالتالي التساؤل: كيف يمكن مواجهتها وهي صاحبة جيش قوي وقوة نووية؟! بينما في الاتجاه الثاني نجد من يصفها بأنها "أوْهن من بيت العنكبوت"..!
إن إحدى ميزات المشاريع الاستيطانية، أنها تجمع في داخلها – خصوصاً في مرحلة ما قبل هزيمتها- تناقضاً مثيراً بين القوة والضعف في آن واحد، إلا أن مصادر القوة والضعف مختلفة، بما يخص فائض القوة، لذلك فإن الاستعمار الاستيطاني – على غرار الصهيونية – يعتمد على "مشروع عنف"؛ يقوده إلى درجات متفاوتة من الجرائم ضد الإنسانية، من الإبادة الجسدية إلى التطهير العرقي، إلى نظام "الديمقراطية الإثنية – لليهود فقط – وفي جميع الحالات يستعمل العنف المفرط بأشكاله المتعددة، بما في ذلك العنف البنيوي والعنف الأيديولوجي للتخلص - بشكل أو بآخر - من أصحاب الأرض الأصليين عبر إقصائهم الجمعي، أو إلغائهم سياسياً وثقافياً، ويستمد المشروع الكولونيالي العنصري قوته من دمجه بين مركباته الثلاث "الاستيطان، الدين، القومية"، لكنه يعمل بالتدريج على تراكم القوة العسكرية بما في ذلك القوة النووية.
من جانب آخر؛ فإن المشروع الصهيوني الاستيطاني الذي يعتمد فائض القوة بمفهوم "القوة الخشنة" يعاني نقصان المسوّغ الأخلاقي؛ فالمشروع الاستيطاني لا يمكنه إلا أن يستعمل "العنف الزائد " والإقصاء والطرد والضم، والفصل العنصري، وما إليه.. كما أن النظام الاستعماري لا يستطيع الادعاء ولو نظرياً أنه "نظام ليبرالي أو علماني"، لذلك فإن الحديث عن "يسار" في المجتمع الاستيطاني ليس صحيحاً أو ملائماً.
المشروع الصهيوني واضح لا يتغير بتغير الائتلافات الحاكمة، وهو يقوم على السيطرة الكاملة على فلسطين كلها دون تحمل أي مسؤولية إزاء أصحاب الأرض الأصليين من جهة، ومن جهة أخرى لا يشير الحفاظ على الوضع الراهن، والاستمرار في فرض وقائع على الأرض – بدأب واضطراد – أن الافتقار إلى الرؤية الاستراتيجية، وإنما هي استراتيجية محكمة تقوم على إرادوية، هي نفسها نتاج التجربة "الإسرائيلية الناجحة" من وجهة نظر الصهيونية؛ فجنوح المجتمع الإسرائيلي إلى الوحشية الفاشية هي عملية مديدة مستمرة، لا تشمل المجتمع وحده بل الحركة الصهيونية – اليهودية أيضاً، وهي ناجمة عن المنطق الداخلي للصهيونية، وتدفع بالمجتمع الإسرائيلي إلى مزيد من الاستعلاء العرقي والتعصب والانغلاق.. من هنا فإن تصور إمكان قيام "معسكر سلام إسرائيلي " راشد في الأمد المتوسط، ليس إلا تعلقاً بحبال الوهم.
- أي مشروع وطني نريد؟ ما دام الأمر كذلك، فإن هناك حاجة إلى إعادة توجيه الجهد الفلسطيني نحو الأجل المباشر، والأبعد وربما التاريخي، دون تجاهل استيعاب التحولات الجارية في المضمار الفلسطيني والإقليمي والدولي، خاصة في ضوء تصاعد حركات التضامن والتأييد الدولي للقضية الفلسطينية.
وإذا صحّ أن "حل الدولتين"؛ أصبح محكوماً بالفشل، فهل يعني ذلك التخلي عن هذا الخيار؟!
ربما البعض يجيب: ليس بالضرورة؛ فمطلب إنهاء الاحتلال– حل الدولتين – لا يزال يحظى بدعم واسع دولياً؛ فنزع الشرعية عن الاحتلال،
وجلب قادته إلى محكمة الجنايات الدولية ممكن ومتيسر على مستويات أوسع وأعلى كثيراً مما لأي مطلب آخر. قد يُشتم منه "نزع الشرعية" عن "الجماعة الإسرائيلية"، وهكذا.. بينما يجدر بالاستراتيجية الفلسطينية الارتكاز إلى مطلب إنهاء احتلال عن جميع الأراضي الفلسطينية، وكسر حصار غزة، ذلك من منظور رفع تكاليف الغطرسة الإسرائيلية وفرض عزلة دولية عليها.
صحيح أن هذا الموقف مركب، لكنه يغني عن الدخول في نقاش يبدد الجهود ويستثير الخلافات بين أبناء الصف الوطني الواحد، بشأن المفاضلة بين "حل الدولتين" أو حل الدولة الديمقراطية الواحدة ما دام تحقيق أي منهما يتطلب نضالاً عسيراً طويل الأمد.. وإذا صح أن السلطة الفلسطينية العتيدة تؤدي دوراً محورياً في منظومة السيطرة، فهل يستتبع ذلك النضال لإسقاط هذه السلطة أو حلّها؟! مرة أخرى يعتقد البعض بأنه ليس بالضرورة، وربما لا ينجم عن حل السلطة تولي الاحتلال المسؤولية المباشرة عن الشؤون المعيشية للشعب، فيصبح هناك اشتباك يومي بين الناس والاحتلال دون حجاب عازل، وربما يترك الاحتلال المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفة لتسودها الفوضى والفلتان، ويعمد إلى فبركة "روابط قرى جديدة" أو "إمارات عشائرية محلية" تكون ألعوبة بيده، ويسيطر بواسطتها على مقدرات الشعب، ويقمع إرادته ونضاله.
وفي المقابل، ليس من المصلحة الفلسطينية ترك الحبل على غاربه إلى أجل غير معروف، ولذلك هناك ضرورة لاقتراحات وأفكار خلّاقة لتحسين أداء السلطة وتطوير دورها لتصبح فعلاً "حكومة في الأسر"، وبالتالي تمتنع بالتدريج عن التعامل أو الاتصال بالاحتلال في جميع المسائل، وبالتالي تركّز على ضمان الأمن والأمان الجماعي والفردي للمواطنين، وتوفير احتياجاتهم المعيشية الأساسية، في الوقت الذي يعاد الاعتبار لـ "م. ت. ف" ويعاد بناء مؤسساتها وفسح المجال لمشاركة حركتي "حماس والجهاد" في عضوية مجلسيها الوطني والمركزي، ولجنتها التنفيذية، بعد إجراء الانتخابات في الوطن والشتات وفق مبدأ " التمثيل النسبي". أيضاً هذه دعوة مركّبة، لكنها ذات مزايا، فهي من جهة تقلّص احتمالات أن ننتهي إلى حل "روابط القرى" أو "الإمارات العشائرية" الذي تخطط له "إسرائيل" فعلاً في حال أبدت السلطة تصلباً أو انحيازاً إلى مصلحة شعبها، وهو من جهة ثانية يقلل احتمالات نشوب نزاعات فلسطينية داخلية ربما تصبح عنيفة، مثلها في ذلك مثل أي صراع على السلطة.. كما أنه يطمئن المواطنين بأنهم لن يواجهوا الفلتان والفوضى، ويفسح المجال لمحاصرة "إسرائيل" وملاحقتها في المحافل والمحاكم الدولية، هذا كله يشير إلى أن مشروع الخلاص الوطني محكوم بنضال طويل النفس والأمد.. فما هي السمات الملائمة لنضال كهذا؟! يتعلق الأمر بداية بالنجاعة، مع إدراك أن جميع أشكال المقاومة مشروعة، بحيث يتاح إضعاف ركائز قوة المحتل العسكرية وكسر عنجهية الاستمرار لديه.. وتفادي استهداف المدنيين، كي لا يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية، على رأسها التماسك الاجتماعي داخل "إسرائيل" واستنفار الدعم الخارجي لها.
من هنا ضرورة النظر جدياً لأهمية ممارسة كافة أشكال المقاومة وعلى رأسها الانتفاضة الشعبية الشاملة، ودعوة الشعب بكل فئاته الاجتماعية وقواه السياسية للالتفاف حولها.. وصيانة اللحمة والوحدة الميدانية بين جميع مكوناته "الشتات، الضفة، غزة، القدس، أراضي عام 48 المحتلة" ويكون من أسمى أهدافها الحفاظ على الكيانية الجمعية للشعب الفلسطيني ممثلة بـ "م. ت. ف" – بعد إعادة بنائها - وعلى قيمها التحررية الوطنية والقومية الناجزة، كما يؤمل بأن تجعل هذه الانتفاضة الشعب الواقع تحت الاحتلال عصياً على السيطرة والتهميش، وعندئذ يفشل المحتل ويخسر سيطرته حتى لو ظلّت قوته العنفية قاهرة ووحشية.
من هذا المنظور؛ تحتل مسألة الوحدة واللحمة بين مختلف مكونات الشعب أهمية قصوى، فلا شك بأن "73 عاماً" من النكبة والتشظي أدت إلى تكوّن تجمعات لكل منها اهتماماتها وهمومها وقضاياها المباشرة، وإن كانت تجمع على أهداف التحرر والعودة وتقرير المصير فوق التراب الوطني.. وكذلك لا بد للاستراتيجية الوطنية من أن تعيّن في كل مرحلة تاريخية الهدف المركزي للنضال، وهو بلا شك في المرحلة الراهنة صد ودحر الاحتلال وتفكيك المستعمرات، وحماية المقدسات، وتجريم ممارسات التمييز العنصري، وكسر حصار غزة، والشروع بإعادة إعمارها.. وإذا كان ذلك يعني بأن يحتل أحد مكونات الشعب الصدارة في هذا النضال وأن تتوجه الجهود إلى دعمه، فإنه يفترض ألا يؤدي إلى إحساس المكونات الأخرى بأنها مهمشة، هذا من جهة، ومن جهة اخرى ألا تغيب حقيقة أن هذه المكونات عليها أن تتحمل مسؤولية دعم مركز ثقل العمل الوطني في كل مرحلة من المراحل، وفي هذا السياق يبدو أن الإعجاب بصمود أهلنا في أراضي 48 المحتلة، وبالحكمة والدراية السياسية التي تبديها قياداتهم – باستثناء الحركة الإسلامية الجنوبية بقيادة منصور عباس – قد أدى بالبعض إلى إحلال الرغبات محل الوقائع؛ فباتوا يرسمون لهم دوراً لا يستطيعونه، ولا يأخذوا في الاعتبار وضعهم الخاص الذي يحتم عليهم أن يضعوا لنضالهم أهدافاً تستجيب لمصالحهم "كمكافحة ممارسات التمييز العنصري وظاهرة العنف المجتمعي، وسياسة مصادرة الأراضي والمنازل، وتهميش القرى والبلدات الفلسطينية"، وبالمثل لا يجوز أن يُترك أهلنا في الشتات دون دور ، في الوقت الذي يواجهون مسائل ومشاكل يجب النضال من أجل حلها مثل "الحقوق المدنية، حق التعليم والعمل والتنقل والتملك، وتحسين الظروف المعيشية، والمحافظة على رمزية المخيمات بوصفها الشاهد الحي على النكبة، والتمسك بحق العودة".