-1-
كادت حنا أرنت في "تقرير عن تفاهة الشر" أن تقول إن الشر هو مجرد وظيفة، وكان الكتاب الذي بدأ كتغطية صحفية لمحاكمة أيخمان قد تحول إلى مجادلة معمقة عن كيفية تحول الشخص العادي في نظام فاشي إلى "فاشي" بدوره. كتاب أرنت ما زال يثير الغضب في "إسرائيل" من أعلى مستويات الوسط الثقافي، لأنه كان فاضحا ومروعا في شرحه للحقيقة التي لم تكن نازية فقط، بل الحقيقة االصهيونية أيضا.
في ذلك الكتاب انتقدت أرنت الطريقة التي حاكمت بها "إسرائيل" أيخمان والطريقة التي تم تصويره عبرها، كوحش قاتل معاد للسامية، ورأت فيه نوعا آخر من الجلادين، تحركه الوظيفة وليس الأيدلوجيا، لايدرك خطورة أفعاله ولايقبل تحمل مسؤوليتها. ولعل ميشال أهاروني قد أشارت في تقريرها في هآرتس عن "تفاهة الشر -2019) إلى نقطة جوهرية وأساسية في تحليل أرنت ناهيك عن تتبع سيرة قاتل المكتب، هذه النقطة هي المرتبطة بموضوعنا هنا بشكل أساسي، أن أرندت لم تعتقد أن أيخمان كان بحاجة “لقتل ضميره”، أو أنه كان بلا ضمير، بل إن صوت ضمير المجتمع الألماني “المحترم” أخبره بأن عليه ألا يشعر بالذنب حيال أفعاله.
قصة أخرى ضرورية، صدرت عام 1995، رواية (القارئ) للألماني "برنارد شيلنك" التي ترجمت إلى 27 لغة، وأدرجت في المناهج الدراسية حول المحرقة، بل تحولت إلى فيلم سينمائي عام 2008، وتحكي الرواية قصة امرأة عادية تعمل جابيةَ تذاكرٍ في إحدى المحطات في ألمانيا الغربية، يغرم بها شاب في مقتبل العمر، ليكتشف بعد اختفائها لسنوات أنها تحاكم لارتكابها جريمة نازية، بإحراق مجموعة من اليهوديات داخل كنيسة. المفاجأة الكبرى أن هذه المرأة في الواقع أمية لاتقرأ ولاتكتب، وكانت تقايض الجنس بقراءة الكتب مع الشاب.
في الرواية يسرد الكاتب كيف تضطر للاعتراف بأنها المسؤولة عن كتابة رسالة الأمر الإداري بإحراق اليهوديات داخل الكنيسة، وذلك بإغلاق البوابات عليهن عمدا مع نشوب الحريق، ورغم أنها لا تستطيع كتابة هذا الأمر الإداري ولا قراءته، فإنها توافق على التهمة ولا تعترف بأنها أُمية بالفعل، وأن كل ما فعلته هو مجرد تقليد لزميلاتها اللواتي باشرن بإغلاق الأبواب على اليهوديات، والسؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بحدود المسؤولية ربما، هل عليك أن تفهم أن ما تفعله هو فعل شرير لتكون شريرا أم أن فعلك هو الذي يحددك؟
-2-
منذ الاحتلال عام 1948، تنخرط الدولة الصهيونية في عملية انتاج مستمرة وإعادة إنتاج للهيمنة الاستعمارية على فلسطين الفلسطينيين، عبر عملية طويلة ومتجددة من الاستيلاء على الأرض وتهويدها، وإخضاع السكان وتحييدهم من الوجود التاريخي والفعل التاريخي أيضا.
وعملية الهيمنة المستمرة هذه تتخذ أشكالا بسيطة وأخرى معقدة، من اقتحام منزل بعد منتصف الليل وإرعاب طفل وجعله يعيش الصدمة المروعة من فقد حياته أو حياة من يحب إلى الأبد، وصولا إلى العمليات الأكثر تعقيدا والتي تنخرط فيها الدولة ومؤسساتها وصولا إلى "الإسرائيلي العادي" الذي يميل البعض إلى وصفه بالمدني، تحييدا له عن المعركة وإدانة للفعل الفلسطيني المقاوم الذي لابد لأن يمر عبر هذا "المدني" المزعوم.
وعملية انتاج الهيمنة إذا لاتمر فقط عبر القوة العسكرية التي هي طبعا قدس أقداس العقيدة الصهيونية وإن لم تعلن عن ذلك، بل أيضا إلى عوامل الاقتصاد ودعم أمريكي وغربي أيضا غير مشروط، وهكذا تتبلور بتعبير مارسيلو سفيرسكي، الذات "الإسرائيلية" الجماعية وعلاقتها بغنائم الاستعمار، وهذه الذات المستفيدة من حالة الاحتلال هي ما يجعل الكيان الصهيوني ممكنا.
-3-
اعتبر مارسيلو سفيرسكي أن الإجابة عن سؤال علاقة " الإسرائيلي" العادي بنظام الهيمنة تتطلب النظر إلى الأبعاد الحيوية للذاتية الجماعية "الإسرائيلية" ، حيث يتم بناء القدرات والميول للقمع اجتماعياً.
حيث من الحياة الأسرية، إلى التعليم، إلى الأنشطة الترفيهية ، إلى السياسة، إلى الدين والإعلام، فإن التجارب الاجتماعية "للإسرائيليين" موجهة لتشكيل العقول والأجساد وفقًا لسلسلة من الديناميكيات المعروفة، وتشمل هذه الهوس العسكري بالأمن، والتمركز على الذات والميل إلى الفصل الذاتي، والفتنة بجنون العظمة الذاتي، والعلاقة الحصرية مع الأرض.
وهذه جميعها تتجسد عبر، وتجسد الخطوط الكبرى للتركيبة العملية للصهيونية الفعلية: ذاتية يهودية وعنصرية غريبة تتمفصل على زعم "مقال الثورة" من أجل تبرير الحيازة المطلقة على إقليم مأهول، ويعود ذلك إلى طبيعة الغزوة التي تحمل منذ البداية شعار توطين (شعب) بدلا عن شعب آخر، وأكثر من ذلك فكرة (الأرض بلا شعب لشعب بلا أرض) مما يقتضي محو الشعب الأصلي، وإبادته، لتكون الأرض كلها خالصة (للعرق) اليهودي، دون أن تشوبها شائبة، فتكتمل معادلة الأرض المختارة للشعب المختار.
وركائز هذه الأيدلوجيا متعددة تم تناولها في عشرات إن لم يكن مئات الأدبيات، و أهمها بلا شك ركيزة "وهم الاصطفاء"، المتجسدة في مقولة (شعب الله المختار) و تكتمل الأسطورة بشعب مختار واله مختار وأرض مختارة، تعبيرا تاما عن الوحدة العضوية بين الشعب والأرض والدين، والركيزة المتممة هي "الاستعلاء" الذي هو النتيجة الحتمية للوهم السابق، فالشعب المختار هو أفضل وأعلى من غيره إذا جاز اعتبار الغير في مقام البشر وعلى الأقل يرفع هذا الشعب إلى مرتبة الآلهة «أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم» (مزمور 82) وهكذا لابد أن «يقف الأجانب يرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أما انتم فتعون كهنة الرب، تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون» (اشعيا/61/5). ثم ركيزة الأرض الموعودة أو ما وصفناه بـ"العلاقة الحصرية مع الأرض"، : وهي الأساس الديني للاستعمار الصهيوني لأرض فلسطينالتي تستمد قوتها من كونها تصدر عن أمر الهي، وقصة الأرض الموعودة هي فوق تفسير العقل، إنها لا تاريخية تتجاوز التاريخ، وتتبدى عن إله ظالم مبيد لا يعرف العدل.، وتستخدم الحركة الصهيونية هذه النصوص كما لو إنها صك ملكية شرعي أو نوع من سند (طابو) صادر عن يهوه صاحب الوحي الإلهي عند اليهود.
هذه الركائز محمية بقوة قاتلة لها فلسفة خاصة تبررها، إذ تتبدى القوة مقدسة عند أنبياء التوراة وهكذا هي في الصهيونية التي تتميز بالقسوة والعنف.
-4-
الذات الجماعية (الضمير المجتمعي الذي ارتكز عليه أيخمان) التي لايمكن التشكيك بوجودها والمتجسدة عبر عقد نفسية مصنفة، والتي يصادق عليها السلوك الانتخابي السياسي العام في الكيان الصهيوني تطرح ربما لدى متشكك أو غائب عن واقع الاحتلال سؤالا عن الدافع لدى "الإسرائيلي" العادي الذي حتى لايؤمن بيهوة ولا بالتلمود، للمشاركة في عملية الهيمنة والإخضاع للفلسطينيين، وهل هو بعيد عنها، هل سيرضى "الإسرائيلي العادي" مثلا، بإعادة البيت المنهوب من فلسطيني، وأقل من ذلك هل سيرضى بتقاسم تدفق المياه مع الفلسطيني، التي هي مياهه أصلا، وهذا يعيدنا إلى منافع الإستعمار وحصة مجتمع الإستعمار من الفنيمة، فلم نر حتى في ظروف استعمارية أخرى هذا المجتمع يرفض الاستفادة من العائد الدموي للغنيمة الاستعمارية، لا البلجيكيين في الكونغو ولا البرتغاليين على شواطئ بحر العر وفي البرازيل ولا الشعب الإسباني في أمريكا اللاتينية ولا الفرنسيون في الجزائر والشرق أو في أفريقيا حاليا، ورغم هذه البديهية التاريخية العصية على التبرير الأخلاقي، يبقى السؤال مطروحا في محاولة فصامية لتبرئة "الإسرائيلي" والمحافظة على مكانته التاريخية "كيهودي ضحية" لا ينقلب ليأخذ دور الجلاد الذي عانى منه في أوربا، خارجها.
اعتبر سفيرسكي أن هذه الديناميكيات التي نشأت في مرحلة ما قبل الدولة من استعمار المستوطنين لفلسطين، أصبحت منذ ذلك الحين قانونا ثابتا يحكم العلاقة بين الفلسطيني والصهيوني المحتل ويتردد صداها عبر ممارسات لا حصر لها في مختلف المجالات الاجتماعية، مما خلق واقعًا اجتماعيًا خانقًا.