Menu

الأعمالُ الأدبيّةُ للشهيدِ غسان كنفاني وتجلّياتُها في المشهدِ السينمائي

موسى مراغة

لأنّ للكلمةِ عندَهُ فعلَ الرصاصة، ولأنّ الجملةَ كانت لديهِ تشكّلُ فعلَ الإضاءةِ في الفكرِ والروح؛ اتّخذَ طريقَ الأدبِ الروائي للنضال، وحملَ همومَ شعبِهِ على عاتقِهِ باحثًا في الفكرِ والأدبِ والسياسة، ناسجًا شخوصَ رواياتِهِ من جموعِ الشعبِ المناضلِ والمدافعِ عن قضيّتِه، وسالكًا طريقًا في مخاطبةِ الفكرِ الإنساني، فكانت له البصماتُ الواضحةُ في هذا المجال.

ولمّا رأى دهاقنةُ الاستخباراتِ الصهيونية الخطرَ الذي يشكّلُهُ غسان كنفاني في الصراعِ العربي الصهيوني، (وهو الذي قالت عنه رئيسةُ وزراءِ الكيانِ الصهيوني السابقة "غولدا مائير": " إن غسان كنفاني يمثّلُ كتيبةً من المقاتلين ويجبُ التخلّصُ منه"). لذلك لم يتأخروا في البحثِ عن طريقةٍ لإطفاءِ هذهِ الشعلةِ المتّقدة. واستطاعوا عبرَ عملائِهم الوصولَ إلى عربتِهِ التي تقلُّهُ صباحَ كلِّ يومٍ إلى مركزِ الإشعاعِ الذي أسّسَه، واتّخذَ منه قاعدةً للانطلاقِ في مجلة الهدف.

وفي صباحِ الثامن من شهرِ تموز عامَ 1972، عندما كان يديرُ محرّكَ عربتِهِ وبرفقتِهِ ابنةُ أخته؛ انفجرت العبوةُ التي زرعَها خفافيشُ الليلِ بالجسدينِ الطاهرينِ؛ ليلحقا بركبِ الشهداءِ الذين مضوا على الدرب، ولتخسرَ القضيةُ الفلسطينيةُ والأدبُ الإنساني أحدَ أعلامِهِ المضيئة.

في ذكرى استشهادِهِ ما زال غسان كنفاني وأدبُهُ وفكرُهُ وأطروحاتُهُ تعيشُ في قلبِ الشعبِ الفلسطيني وفكرِه، كذلك عندَ كلِّ الشعوبِ الحرّةِ المناضلةِ من أجلِ الحريةِ والانعتاقِ من الظلمِ والاحتلالِ وجبروتِ الطاغوت. وما زالت أعمالُهُ الأدبيةُ من رواياتٍ وقصصٍ ومسرحياتٍ تتداولُها الألسنُ وتخفقُ لها القلوب.

وفي هذا المقام، وفي هذهِ الذكرى العطرةِ للأديبِ الشهيدِ والسياسي والمفكّرِ والمثقفِ الثوري، سنحاولُ إلقاءَ الضوءِ على أعمالهِ الأدبيّة، التي تحوّلت إلى أفلامٍ روائيّةٍ طويلةٍ وقصيرةٍ على أيدي عددٍ من المخرجينَ السينمائيّين.

إنّ عمليةَ تحويلِ العملِ الأدبي، إنْ كان روايةً أو قصّةً، إلى عملٍ فنيٍّ سينمائي، صعبةٌ ومحفوفةٌ بالمخاطر؛ بسببِ طبيعةِ السينما والأدبِ وخاصيّتهما، وأنّ التصدّي لهذهِ العمليةِ يمكن أن يكونَ مصيرُهُ النجاحَ أو الفشل، وليس كلُّ عملٍ روائيٍّ ناجحٍ يكون عملًا سينمائيًّا ناجحًا أيضًا بالضرورة. فليس كلُّ أدبٍ يصلح مادةً تُحوّل للسينما؛ لأنّ السينما ليست وسيلةَ سردٍ؛ هدفُها إيصالُ الأدبِ إلى المشاهد؛ لأنه "المشاهد" في حالةِ السينما يختار الفرجة، وفي حالةِ الأدب، كقارئ يختار اللغة. لذلك تتبدّى لنا هنا الصعوبةُ في الإنجازِ السينمائي المعتمدِ على الرواياتِ الأدبية.

"إن إعادةَ حكي روايةٍ مرةً ثانية سيجعلها أكثرَ جمالًا ومتعة؛ لأنها ستصبح نصًّا مختلفًا، ذلك عبر اكتشافِ أبعادِ النصِّ الروائي، واستخدامِ الصورةِ والانصياعِ لخطابٍ جماليٍّ وبصري، سوف يطيح – بالضرورة – بلغةِ الحكي؛ لتتحوّلَ لغةً بصرية. وهذه تشبه عمليةَ تشذيبِ الأعشابِ الضارّة، كذلك تنقيّة النصِّ الروائي لمصلحةِ عناصرَ سينمائيّةٍ تقوم على التكثيف والحذف. وعلى ضوء هذا النهج؛ فإنّ العملَ السينمائي هو كتابةُ نصٍّ آخرَ تمامًا، واعتبارُ النصِّ الأصلي مجرّدُ ذريعةٍ للنصّ البصري، ثمّ فإنّ خيانةَ النصّ الأصلي ضرورةٌ سينمائيةٌ لا مفرَّ منها". (1)

وفي نظرةٍ سريعةٍ نجد أنّ كثيرًا من الإنتاجاتِ السينمائيّةِ العالمية نهلت من الأدبِ العالمي أمثالَ روايات "تولستوي، وغوركي، وماركيز، وبوشكين، وهمنغواي، وغيرهم" وعربيًّا.. سُجّلت الأفلامُ السينمائيةُ التي أخذت من رواياتِ الأدباءِ العربِ وكُتّابهم الكثيرَ من النجاحاتِ الجماهيرية، ونذكر هنا نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، عبد الرحمن الشرقاوي، طه حسين، إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي. وفي سورية، نذكر الأدباء حنا مينه، حيدر حيدر، خيري الذهبي. ومن هنا ندلف الحديثَ عن أديبِنا الشهيد غسان كنفاني، وعن علاقتِه وعلاقةِ أدبه الروائي بالسينما؛ لنقول: إنّ كاتبَنا يعدُّ واحدًا من أكثرِ أدباءِ العربيّة من غيرِ المصريين، ممن اهتمت السينما بأدبهم وحولت أعمالهم الروائية إلى أفلام سينمائية، وحدث ذلك في أكثرَ من بلدٍ عربيٍّ سواءً في فلسطين وسوريا و مصر والعراق وصولاً إلى السينما الإيرانية.

ويجب أن نذكر هنا أن علاقةَ الشهيد غسان كنفاني بالسينما – خاصةً السينما الفلسطينية – أخذت مستويين اثنين، أوّلُهما: علاقتُهُ الشخصيةُ بالسينما، ودورُهُ العملي في تأسيسِ السينما الفلسطينية وثانيهما: علاقةُ أدبهِ بالسينما.

فقد كان الأديبُ الكبيرُ متابعًا جيدًا للنشاطاتِ السينمائية، وقارئًا جيدًا للنشراتِ السينمائية التي تعنى بنقدِ الأفلامِ السينمائيةِ وتحليلِها. وقد أسهم في تأسيسِ قسمٍ للسينما في الجبهةِ الشعبيةِ لتحريرِ فلسطين، فعندما التقى صدفةً في بيروت بالمخرج العراقي "قاسم حول" أفضى ذلك اللقاءُ إلى بروزِ عدّةِ أفكارٍ للعملِ على تأسيسِ حاضنةٍ للسينمائيين الفلسطينيين، على شاكلةِ مؤسسةٍ عامةٍ للسينما؛ لاستقطابِ جهودِ كثيرٍ من السينمائيين الفلسطينيين والعرب، الذين كانوا متحمسين للسينما الفلسطينيةِ النضالية.

وبنظرةٍ أوليةٍ سرديةٍ للسجل السينمائي الذي استقى من أعمالِ غسان كنفاني؛ نذكر أشهرَها وهو فيلم "المخدوعون" للمخرج المصري توفيق صالح، المأخوذُ عن روايةِ "رجال في الشمس" وفيلم "السكين" للمخرج السوري خالد حمادة، والمأخوذُ عن روايةِ "ما تبقى لكم" والفيلم الفلسطيني "عائد إلى حيفا" المأخوذُ عن الروايةِ التي تحمل الاسمَ نفسه، من إخراجِ العراقي "قاسم حول" والفيلم الإيراني "المتبقي" للمخرج سيف الله داد، الذي أعاد إنتاجَ روايةِ "عائد إلى حيفا" ذاتِها لكن بطريقتِهِ الخاصة.

وعلى صعيدِ الأفلامِ الروائية القصيرة، انتجت مؤسسةُ السينما والمسرح في العراق عام 1973، فيلمَ "زهرة البرقوق" بتوقيعِ المخرج ياسين البكري، وفي عام 76 انتجت المؤسسةُ العامةُ للإذاعة والتلفزيون في العراق فيلمًا روائيًّا قصيرًا بعنوان "البرتقال الحزين" مأخوذًا عن قصة "أرض البرتقال الحزين"، من إخراجِ العراقي "كوركيس عواد" ومن إنتاجِ المؤسسة نفسها كان فيلم "كعك على الرصيف" مأخوذًا عن إحدى قصص كنفاني بتوقيعِ المخرج عماد بهجت.

وفي فورةِ الإنتاجِ السينمائي الفلسطيني داخلَ الأرضِ المحتلة، واستلهامًا واتّكاءً على الإنتاجِ الأدبي الروائي والقصصي للشهيد كنفاني؛ قدّم عددٌ من المخرجين عددًا من الأفلامِ الوثائقيةِ القصيرة منها: فيلم "نساء في الشمس" للمخرج صبحي الزبيدي عامَ 1999، وقدّم المخرجُ فجر يعقوب عامَ 2003 ، فيلمَهُ "صورة شمسية" وهو فيلمٌ وثائقيٌّ قصير، مدّتُهُ 16 دقيقة، وفيلم "وما زال الكعك على الرصيف" للمخرج إسماعيل هباش عامَ 2000، وقدّم المخرج البحرين ي محمد إبراهيم محمد فيلمه "زهور تحترق" عامَ 2009، وهو مقتبسٌ عن قصة "كعك على الرصيف".

وفي عودةٍ إلى التفاصيل والغوصِ أكثرَ في الأفلامِ السينمائيةِ الروائيةِ الطويلة، المأخوذةِ عن أدبِ غسان كنفاني ورواياتِهِ، لا نملك إلا أن نبدأ بالحديثِ عن فيلم "المخدوعون" للراحل توفيق صالح. ويعدُّ الفيلم من أشهرِ الإنتاجاتِ السينمائيةِ التي أخذت عن أدبِ غسان كنفاني، ونال جوائزَ عالميةً عدّة، فمن "مهرجان قرطاج" إلى "مهرجانِ كان السينمائي" وفوزِهِ بجائزةِ لينين للسلامِ في مهرجان موسكو السينمائي عامَ 1973، والمدهشُ في أمر فيلم "المخدوعون" هي المعاناةُ التي واجهها المخرجُ من أجلِ تحقيقِ الفيلم، حيث رفضت المؤسسةُ العامةُ للسينما في مصر إنتاجَ الرواية سينمائيًّا، دون إبداءِ الأسباب. وبعد سنواتٍ يسافر توفيق صالح إلى دمشق، حيث قدّم سيناريو الفيلم إلى المؤسسةِ العامةِ للسينما في سورية لتنفيذِه، وتمت الموافقة.

وحين انتهى من التصويرِ والعمليات الفنية؛ عُرض الفيلم على لجنةِ المشاهدةِ لإقرارِه، فكانت النتيجةُ صاعقةً أن الفيلم – حسب زعمِها – دون المستوى. وصدرت الأوامر بحبسِ الفيلم في مخازنِ المؤسسة.

يقول المخرج توفيق صالح في إحدى مقابلاته: "ظلّ الفيلم ممنوعًا، وكان سعد الله ونوس الوحيد الذي كتب يشيد بالفيلم". في تلك الأثناءِ يحضر الناقدُ السينمائي المصري الشهير "سمير فريد" في زيارةٍ إلى دمشق، حيث شاهد الفيلم وأعجب به، وطالب بعرضِهِ إلا أن طلبه قوبل بالرفض بسبب "تدني مستواه" وشاهد الفيلم المخرج التونسي المعروف "الطاهر شريعة" الذي أذهله مستوى الفيلم، ودعا ثلاثةً من النقاد التونسيين لمشاهدةِ الفيلم، وقد أعجبوا به وطلبوا اشتراكَهُ في مهرجان كان السينمائي.

ولأن الأمورَ الإجرائيةَ في إرسالِ الفيلم أخذت وقتًا طويلًا، فكان موعدُ قبولِ الأفلام في المسابقة الرسمية قد انتهى، لذا تم إرسالُهُ إلى عروض على هامش المهرجان، وهناك أشاد به كثيرٌ من النقاد، وحصل موزّعٌ فرنسيٌّ على حقِّ عرضِهِ وتوزيعِه، وقوبل بعاصفةٍ من الغضبِ والاحتجاجات من قبلِ جماعاتٍ صهيونيّةٍ وعنصريّةٍ معاديةٍ للعرب.

وعندما عُرض في دورِ السينما تعرّضت تلك الدورُ إلى تهديداتٍ بتفجيرِها. والطريفُ أن إدارةَ مهرجان "كان" كانت قد بعثت بتذكرتيْ طيران إحداهما للمخرج، إلا أن مديرَ المؤسسةِ حينها لم يسمح له بالسفر؛ لأنه ليس موظفًا في وزارةِ الثقافة، فسافر مديرُ المؤسسة مع موظفٍ آخرَ في إدارةِ التوزيع.

وفي عودةٍ إلى تفاصيلِ حكايةِ فيلم "المخدوعون" الذي يرصدُ مصيرَ ثلاثةٍ من اللاجئين الفلسطينيين جمعتهم النكبةُ والخيبةُ والأملُ في مستقبلٍ أفضل. وللبحثِ عن مصادرَ للرزق، في وقتٍ ضاقت فيه الحالُ على الشعبِ الفلسطيني. وفي زمنِ أحداثِ الفيلم، كانت الكويت في بدايةِ فورتِها النفطية تمثّلُ مصدرًا للرزقِ بالنسبةِ لهؤلاءِ الفلسطينيين، غيرَ أنّ الوصولَ إليها والحصولَ على سمةِ الدخولِ لم يكونا بالأمرِ اليسيرِ في ذلك الحين، ومن هنا راجت تجارةُ تهريبِ العمالِ عبرَ الحدودِ العراقية. وشخصياتُ الفيلم الرئيسةُ الثلاثة "مروان، وأبو قيس، وسعد" هم من أولئكَ الذين وجدوا الحلَّ الأفضلَ للتسلّلِ إلى الكويت، وهو اختباؤهم داخلَ صهريج مياهٍ فارغ، وكان سائقُ ذلك الصهريج "أبو الخيزران" هو المهرّبُ الذي تكفّلَ بتنفيذِ ذلك الأمر مقابلَ مبالغَ مالية. خلال تلك الرحلةِ الجهنميةِ التي تجري وسطَ طقسٍ ملتهبٍ في ذروةِ الصيفِ الصحراوي، يتوقّف الصهريج عند نقطةِ الحدودِ الكويتيةِ من أجلِ إنجازِ الإجراءاتِ الرسميةِ؛ لدخولِ الصهريج إلى الكويت، ولكنّ الموظفَ الكويتي يدخل مع السائق "أبي الخيزران" في أحاديثَ وقصصٍ مملّة، إضافةً إلى مماطلته في إنجازِ الأوراقِ اللازمةِ لعبورِ الحدود، في ذلك الوقت، وبسببِ الحرارةِ الشديدةِ داخل الصهريج كان الفلسطينيون الثلاثةُ داخلَ الخزّان يلفظون أنفاسَهم الأخيرةَ جرّاءَ اختبائِهم الطويلِ في ذلك المكان، بعد ذلك يقوم سائقُ الصهريج بإلقاءِ الجثثِ الثلاثةِ عند مقلبِ القمامةِ ويمضي في حالِ سبيله.

لم يكن سيناريو الفيلم مجرّدَ عرضٍ لذلك الحدثِ الدرامي ومتابعةِ سيرِ الرحلةِ المشؤومةِ لأولئك العمالِ الثلاثة، بل تمّ عرضُ مشاهدَ تستعيد ذكرياتِهم إبّانَ النكبةِ واللجوء، وتصويرُ شظفِ عيشِهم، مع التعريجِ على الأوضاعِ العربية، السياسيةِ والاجتماعية. وقد عرضَ الفيلم الأحداثَ التي رافقت النكبةَ والمأساةَ والأحداثَ المرعبةَ التي قاساها الفلسطينيون جرّاءَ قيامِ الكيانِ الصهيوني على أراضيهم.

"لقد استطاع المخرجُ توفيق صالح أن يقدمَ فيلمًا ملتزمًا وواقعيًّا رغمَ الازدواجيةِ في أسلوبِهِ خلالَ عرضِهِ للسردِ الدرامي، إذْ كان يستخدم الواقعيةَ ثم ينحو إلى استخدامِ الوثيقة، ومنذ بدايةِ الفيلم يحدد لنا المخرجُ بوضوحٍ مِفتاحَ الفيلم بلقطاتِهِ الأولى للصحراءِ الشاسعة، التي تُشعرنا بالفراغِ والوحشة، في حين تبدو أسفلَ الشاشةِ أبياتُ الشاعرِ محمود درويش "وأبي قال مرة، الذي ماله وطن.. ماله في الثرى ضريح.. ونهاني عن السفر". (2)

وفي نهايةِ الفيلم تظلُّ جملةُ "أبو الخيزران": لماذا لم يقرعوا جدارَ الخزّان، تجلجلُ في فضاءِ الصحراء مُلقيًا اللومَ على سجناءِ الصهريج، وكأنه يلقي اللومَ أيضًا على الفلسطيني في مأساتِهِ التي حصلت، مع أن الثلاثةَ قرعوا الخزّانَ بشدةٍ إلا أن أصوات أجهزةِ التكييفِ في النّقطةِ الحدوديةِ كانت أعلى من طرقاتِهم على جدرانِ الخزّان، فلم يأبه لهم أحد، ولعلّ اليدَ المتشنّجةَ لأحدِ العمالِ الذين ألقوا على مكبِّ القمامةِ وهي ترسم شكلَ علامةِ استفهامٍ تنبئ بالمستقبلِ والمصيرِ الغامضِ الذي ينتظر الفلسطيني.

يقول المخرجُ الراحل توفيق صالح في حوارٍ صحافي عن فيلمه "المخدوعون"

" طوالَ حياتي كنت أعتبر كلَّ فيلمٍ جديدٍ أصنعه، بدايةً جديدةً؛ لأنني أكون قد تعلمت كثيرًا من تجاربي السابقة، لكنني أعتبر "المخدوعون" بدايةَ الوعي السينمائي الحقيقي بالنسبة لي، بدايةَ السيطرةِ على الحرفة، كان أمامي هدفان، الأول: أن تكونَ كلُّ جملةٍ في الفيلم إشارةً إلى جانبٍ من جوانبِ القضيّةِ الفلسطينيّة، والثاني: استخدامُ أسلوبِ "الفلاش باك" التراجع الزمني، كبناءٍ أساسي للسرد. ومن أجل إنجازِ هذين الهدفين معًا؛ كان لا بدَّ من استخدام "الفلاش باك" على نحوٍ مختلِفٍ "خصوصًا أنّ" الماضي في سيناريو فيلم "المخدوعون" كان استمرارًا للحاضر؛ لأنّ المأساةَ مستمرةٌ. لذلك كان البناءُ الدرامي في الفيلم معقّدًا ومتشابكًا"(3)

لقد أجاد توفيق صالح في فيلمِهِ استخدامَ لغةٍ سينمائيّةٍ في منتهى الحرفيّة. فقد تكاملت عندَهُ عناصرُ الصورة والصوت، والأداءِ التمثيلي، والمؤثراتِ الخارجية، وأجاد في اللقطاتِ السينمائيّةِ الواسعة التي كانت تظهر مع أبطالهِ الثلاثةِ التائهين في الصحراء، وهم كانوا يَبدون كنقاطٍ سوداءَ في مساحاتٍ شاسعة.

وأظهرت اللقطاتُ القريبةُ التي كان يستخدمها "توفيق صالح" مدى المعاناةِ التي قاساها اللاجئون الثلاثةُ وهم يبحثون عن سبيلِ النجاةِ في صحراءَ قاحلة. وكانت حرارةُ الشمسِ ذلك الصيف هي أحدُ أبطاله، فقد أدّت دورًا دراميًّا مميزًا، وهي التي كانت تلفح الوجوهَ وتحرق بلهيبِها تلك الأجسادَ البشريّة. ولعلّ حرارةَ الشمسِ هي التي حوّلت خزّانَ الصهريج إلى قبرٍ محترقٍ لأولئك الثلاثةِ خاصةً عندما حشروا داخلَ الخزّانِ لوقتٍ طويل. إنّ لهيبَ الشمس كان ملموسًا عندما فتح "أبو الخيزران" فوهةَ الخزّان داعيًّا الثلاثةَ إلى النزولِ فيه استعدادًا لرحلةِ التهريب، وظهر فعلُ تلك الأجواءِ الجهنميةِ التي عاشوها داخلَ الصهريج في المقطعِ الأوّلِ من الرحلةِ عند الحدودِ العراقية، فقد بانت عليهم مظاهرُ الاختناقِ الأولى والمعاناةُ من جرّاء دقائقَ ستةٍ أمضوها داخلَ الخزّان.

وقد أجاد المخرجُ في استخدامِ المونتاج المتوازي، وتقنيةِ "الفلاش باك" – كما أسلفنا – خاصةً في استعراضِ كلِّ شخصيةٍ على حده، والأسبابِ التي دعت كلَّ واحدٍ منهم للتفكيرِ بهذهِ الرحلةِ الجهنمية. وفي مونتاجٍ متناغمٍ دمجت الماضي البائسَ بالحاضرِ الذي سيودي إلى مستقبلٍ أكثرَ بؤسًا وأشدَّ مأساوية. ولعلّ المونتاج المتوازي برع فيه عندما كان السائقُ ينجز معاملاتِ المرورِ الحدودية مع لقطاتِ الصهريج في لهيبِ الصحراءِ وداخله أكوامُ الأجسادِ المحترقة، بينما داخل مكاتبِ النقطةِ الحدودية أصواتُ مكيّفاتِ التبريدِ تهدر مرسلةً هواءَها الباردَ على الموظفين.

وكانت موسيقى الملّحنِ والمؤلفِ العراقي الشهير "صلحي الوادي" أحد أبطال الفيلم، فاستخدمَ آلاتِ الفيولا والتشيللو الرخيمتين، متناغمةً مع الناي الحزين في مرافقةِ أحداثِ سيناريو "المخدوعون". وكانت تلك الموسيقى تعلو وتخفت مع أحداثِ الفيلم. فكانت تغني مع استعراضِ الحياةِ في بيارات فلسطين قبل النكبة حيث كان يعمل أبو قيس، وكانت تنحو تلك الموسيقى إلى العنف والقلق والتوتر وهي ترافق أبطالَ "المخدوعون" في مصيرهم المجهول. وفي مشهدِ التحضيرِ لدخولِ الخزّان صمتت الموسيقى، وفي ذلك الصمت أبلغُ تعبير، ولأنّ الصمتَ هو موسيقى بحدِّ ذاته، في هذه اللحظاتِ المؤثرة المحفوفةِ بالمخاطر يصنع كل مُشاهدٍ موسيقاه الخاصة؛ لتسيطرَ على هذا المشهد مشاعرُ بدايةِ الرحلةِ التي تُوحي بمصيرٍ مجهولٍ محفوفٍ بالمخاطرِ والويلات.

بعد ذلك الصمتِ المريب، ينطلق الصهريج بسرعةٍ فائقةْ ينهب الصحراءَ من أجل الوصولِ بأسرعِ وقت، مع هذا المشهد تنطلق الموسيقى متصاعدةً متوترةً تزيد من قلقِ المُشاهد وهو يشعر بمشاعرِ الأجساد الثلاثةِ المتكومة في لظى الخزّانِ الملتهب. والشمسُ الحارقةُ تلفح وجهَ أبي الخيزران وهو ينظر في المدى الشاسعِ متلهّفًا الوصولَ إلى النقطةِ الحدوديةِ التي تبدو بعيدةَ المنال. وفي نهايةِ الفيلم، حينما يُخرج أبو الخيزران الأجسادَ الثلاثةَ ويلقيها على مكبِّ القمامة، تاركهم لضواري الصحراءِ وجوارحِ السماء، في هذه اللحظاتِ لا نسمع إلا صوتَ الريح تعوي في الصحراء... وتنطلق موسيقى صلحي الوادي في هذه اللحظات؛ لتعزفَ لحنَ نشيدِ الموت؛ لتستقرَ اللقطةُ على يدِ أحدِ الأجسادِ المغدورة راسمةً إشارةَ استفهامٍ مريبة، مترافقةٍ مع نقراتِ آلةِ القانون التي تتلاشى ببطيء إلى الصمت... إلى النهاية.

والجدير ذكرُهُ أنّ بطولةَ الفيلم كانت لكلٍّ من عبد الرحمن آل رشي، محمد خير حلواني، بسام لطفي، وصلاح خلقي وغيرهم.

ونحن نسأل هل حظي الراحل غسان كنفاني بمشاهدةِ هذه التحفةِ السينمائيّة لروايته "رجال في الشمس"، هناك أنباءٌ متضاربةٌ بهذا الخصوص، قولٌ بأنه التقى بالمخرج توفيق صالح في بيروت الذي حمل إليه الفيلمَ بعدَ إنجازِهِ وشاهده حينها، وأقوالٌ بأنه لم يتسنَّ للشهيد كنفاني أن يرى الفيلمَ نظرًا للظروف التي رافقت إنتاجَ الفيلمِ وإنجازَه والسماحَ بعرضِه، وبعدها استشهد غسان كنفاني.

الفيلمُ الروائيُّ الثاني الذي سنتحدث عنه هو فيلم "عائد الى حيفا"، من إخراج العراقي قاسم حول، المأخوذُ عن روايةٍ بالاسم نفسه للكاتب الشهيد. ويعد هذا الفيلمُ أوّلَ إنتاجٍ سينمائيٍّ روائي طويلٍ لجهةٍ فلسطينية. حيث قام قسمُ السينما في الجبهةِ الشعبيةِ لتحريرِ فلسطين، الذي أشرف على تأسيسِهِ الكاتبُ الشهيد بتمويلِ إنتاجِ هذا الفيلم، وبدأ بتصويرِ الفيلم بين السنوات 1980 – 1981، في مناطقَ شمالَ لبنان بين مدينة طرابلس الساحلية ومخيميْ نهر البارد والبداوي للاجئين الفلسطينيين، الذين اشتركوا كمجاميع في مشاهد ذلك الفيلم. واختيرت تلك المناطق للتصوير كونها تشبه إلى حدٍّ ما الأماكنَ التي جرت فيها أحداثُ روايةِ غسان كنفاني.

والأحداثُ بطبيعةِ الحال تجري في شهر نيسان عامَ 1948، في مدينةِ حيفا، وتصوّر سيدةً فلسطينية "صفية" تترك طفلَها الرضيعَ "خلدون" وحيدًا في المنزل، وتخرج؛ لتبحثَ عن زوجِها "سعيد" وسطُ سيلٍ هائلٍ من البشر، كانوا يتدافعون بذعرٍ يبغون النجاة، إثرَ قيامِ العصاباتِ الصهيونيّةِ باحتلالِ مدينةِ حيفا.

وعندما وجدت صفيةُ زوجَها "سعيد" في ساحة الميناء، حاولت معَهُ العودةَ إلى البيتِ لإحضارِ ابنِها، لكنّ القذائفَ والجنودَ البريطانيين قطعوا الشوارع ووقفوا حائلًا دونهما، فيضطرانِ إلى النزوحِ ويُترَك الرضيعُ لمصيرٍ تجهله العائلة. تمرّ الأيامُ والسنون، وتعود الأسرةُ بعدَ عشرين عامًا؛ إثرَ حربِ حزيران عامَ 1967، عندما سمحت سلطاتُ الاحتلال الصهيوني للعائلاتِ التي هجّرت من تلك المناطق بزيارةِ بيوتِها، فعادت  تلك العائلةُ إلى حيفا لتجد ابنَها "خلدون" وقد أصبح اسمُه "دوف" مجنّدًا في قواتِ الاحتياط الصهيونيّة، وقد تبنته عائلةٌ يهوديّةٌ استوطنت البيتَ بعد نزوحِ العائلة عام 1948، وتبلغ المأساةُ ذروتَها بعد أن عرف الشابُ الحقيقةَ؛ إذْ أصرّ على الانحيازِ إلى والدته اليهوديةِ التي تبنته، وفي الوقتِ ذاته كان الأبُ يعارض التحاقَ ابنهِ الثاني بالعملِ الفدائي، لكنْ بعد أن رأى حالةَ ابنِه "خلدون" سابقًا "دوف" حاليًّا؛ قرّر الموافقة؛ ليعودَ فيجدَ ابنَهُ قد التحقَ بالعملِ الفدائي، وتكونُ المواجهةُ لاحقًا بين الأخوين.

وكما أسلفنا، ليس كلُّ روايةٍ ناجحةٍ يجب بالضرورةِ أن تتحولَ إلى فيلمٍ سينمائيٍّ ناجح، وهذا في الحقيقةِ ما أصابَ فيلمَنا "عائد إلى حيفا" حيث إنه – مع الأسف – لم تكن تكفي النيّاتُ الطيبةُ والحماسةُ لإنجازِ عملٍ سينمائيٍّ ناجح، فقد أصاب الوهنُ أحداثَ الفيلمِ وشابَهُ بُطْؤُ الإيقاع، وكانت أحداثُ السّردِ السينمائي وحواراتُ الممثلين أشبه بالإلقاءِ المدرسي لحواراتٍ كانت قد حُفظت من قبلُ وحانَ أوانُ تسميعِها. خاصةً تلك الحواراتُ التي دارت بين صفية وزوجها سعيد مع السيدةِ اليهودية التي استوطنت منزلَهم. فقد كان الأداءُ باهتًا، خاصةً أن الحواراتِ جرت بينهم في غالبِ الأوقاتِ باللغةِ الإنجليزيّة، وتمّ إنجازُ الصوتِ المرافقِ بطريقةِ الدوبلاج، وقد جاء ذلك – مع الأسف – غيرَ متقن، كذلك الحواراتُ التي كانت تجري بين أولئك المهاجرين اليهود القادمين إلى فلسطين، التي شابها الكثيرُ من عدمِ الإتقانِ وسذاجةٌ في التعابير، ولم تُعطِ ما كان يؤمّلُ منها، مثلَ حواراتِ الوالدين مع ابنهما خلدون.

وكانت الأدوارُ الثانوية للممثلين أيضًا ضعيفةَ المستوى، وقد لازمَها هبوطٌ في الأداءِ والتعابير، مثلَ الابن الثاني "خالد" والقائد العسكري الذي كان يُشرف على تدريبِ الشباب المتطوعين، وحاول الفيلم أن يصوّرَ الأملَ وعلاماتٍ تشيرُ إلى المقاومةِ المسلحة كطريقٍ للتحريرِ والنصر، وذلك من خلال الشاب "خالد" الذي كان يصرّ على والدِهِ بالموافقةِ على التحاقِهِ بالعملِ الفدائي، وقد عارض "الوالد" ذلك بالبداية، لكنّه انصاعَ أخيرًا خاصةً بعد اللقاءِ الذي حصل مع "ابنه خلدون" حيث تأكّد أنّه سيظل "دوف" اليهودي الذي تشرّب الأخلاقَ والقيمَ اليهودية التي تربى عليها، والذي أفصحَ عنها "دوف" نفسه، وجاء التحذيرُ واضحًا من الوالد موجَّهًا إلى "دوف" بأنّه يومًا ما سيكون لقاءٌ دامٍ  بين "دوف" الجندي في جيش الاحتلال و "خالد" الفدائي الفلسطيني القادم في عمليةٍ فدائيّة.

مع العلم أنه تمَّ توظيفُ إمكانياتٍ فنيّةٍ جديدةٍ من أجلِ إنجاحِ الفيلم. الذي قام ببطولةِ أدوارِهِ الرئيسيّةِ كلٌّ من الممثّلة المسرحية اللبنانية حنان حاج علي، والممثل بول مطر، والسوري جمال سليمان في بدايةِ ظهورِه. إضافةً إلى أنه تمّت الاستعانة بممثلةٍ شهيرة من جمهوريةِ ألمانيا الديمقراطية "كريستينا شورن". أما الموسيقى التصويريةُ فكانت لزياد الرحباني وقدمت المؤسسةُ العامةُ للسينما في سورية خيرةَ فنيّيها من مديرِ التصويرِ جورج لطفي الخوري، والمونتاجِ لقيس الزبيدي، إضافةً إلى الأمور الفنيةِ والتقنيةِ كافة.

إلا أن النجاحَ المرجو لم يتحقق. وحُبس الفيلمُ في العلب، ولم يعرضْ إلا على نطاقٍ ضيّق. وأعتقد أنه لو قُدّر لغسان كنفاني أن يرى روايتَهُ على الشاشة السينمائيّة لم يكن سيرضى عن ذلك كثيرًا.

أما الفيلمُ الروائي الثالث والتي استمدّ مادتَهُ الرئيسةَ من أدبِ غسان كنفاني فهو الفيلم الإيراني "المتبقي"، والفيلمُ مأخوذٌ – بتصرّفٍ – عن روايةِ كنفاني "عائد إلى حيفا" من إخراج "سيف الله داد" وقد صُوّر في سورية، بالتعاون مع المؤسسةِ العامةِ للسينما، في بدايةِ التسعيناتِ من القرنِ الماضي. وبممثلين سوريين "سلمى المصري، جيانا عيد، جمال سليمان، علاء الدين كوكش، غسان مسعود وغيرهم".

يحاولُ الفيلمُ أن يعيدَ النظرَ بمصيرِ الشخصياتِ وسيرِ الأحداثِ في رواية كنفاني الأصلية، لكن دون أن يتقيّدَ بالأمانة لا في النصّ ولا في الأحداثِ الأصليةِ التي سردتها الروايةُ المكتوبة. فخلال احتلالِ القواتِ الصهيونيةِ لمدينة حيفا 1948، تترك زوجةُ الدكتور سعيد طفلَها الرضيعَ في سريره؛ لتحاولَ الوصولَ إلى عيادة زوجها للاطمئنانِ عليه، يلتقي الوالدان في الطريق ويحاولان العودة معًا إلى طفلِهما المتروك وحيدًا في المنزل، لكنّ الرصاصَ الصهيوني يوقعهما قتيلينِ تحت شرفةِ منزلهما. يبقى الطفلُ "فرحان" بعهدةِ أسرةٍ مسيحيةٍ مجاورة، لكنّ الضابطَ الصهيوني "شيمون" المسؤولَ عن تهجيرِ الفلسطينيين يطرد الأسرةَ المسيحيةَ بعد أن يخلّصَها الطفلَ ويعطيَهُ لأسرةٍ يهوديّةٍ قادمةٍ من بولونيا، الأمُّ فيها لا تنجب، وتتبناه الأسرةُ اليهودية، وتطلق عليه اسمَ "موشيه" ومع ذلك لم تتوقفْ محاولاتُ استعادةِ الطفل بل استمرت من خلال جدتِهِ التي استطاعت أن تجدَ لها عملًا (مدبّرة منزلٍ عند العائلةِ اليهودية) فاستطاعت أن تبقى على مقربةٍ من الطفل (حفيدها) ، إلا أنّ كلَّ المحاولاتِ باءت بالفشل. ويصل الفيلمُ إلى ذروتهِ في الجهادِ الفدائي والتضحيةِ بالنفس، عندما تأخذ الجدةُ حقيبةَ متفجراتٍ من زوجِها الصحفي الذي يتعاون مع المقاومة، وتضعها في قطارٍ ينقلُ جنودًا صهاينة، وبعد أن يسيرَ القطارُ يكتشفُ الظابطُ "شيمون" أمرَها، فتقفزُ مع حفيدِها من القطار الذي ينفجرُ بعد لحظاتٍ، فتستشهدُ الجدةُ، وينجو الطفلُ ويتعالى صراخُهُ مبّشرًا بالأملِ الفلسطيني القادم.

ورغمَ هذا الاختلافِ في الأحداثِ بين الروايةِ الأصليةِ والفيلم، إلا أنّ النجاحَ أصاب هذا الفيلم؛ نظرًا للحرفيّة التي اشتغلَ بها المخرجُ الإيراني؛ وللحبكةِ الدراميّةِ في صياغةِ السيناريو، وكان الأداءُ للممثلينَ – كافةً – ينمّ عن خبرةٍ ومهنيّة، فضلًا عن التصويرِ الرائعِ وتنفيذِ مشاهدِ المعاركِ والاشتباكات، لما للطاقمِ الإيراني من خبرةٍ في هذا المجال. ويعدُّ "المتبقي" من أنجح وأفضل ما صُنع من أفلامٍ إيرانيّةٍ ناقشت موضوعًا فلسطينيًّا.. وعُرض الفيلمُ على نطاقٍ واسعٍ سواءً في إيران أو في سوريا ولبنان ومهرجاناتٍ عالميّةٍ عديدة.

ومن الأفلامِ الروائيّةِ القصيرة التي أخذت أحداثَها من رواياتِ غسان كنفاني يبرز لدينا فيلم "السكين" من سيناريو وإخراج المخرج السوري "خالد حمادة" عن رواية "ماتبقى لكم" والفيلمُ من إنتاجِ المؤسسةِ العامةِ للسينما في سورية عامَ 1971، ومن تمثيل سهير المرشدي، رفيق سبيعي، بسام لطفي، ناجي جبر. تعكس قصةُ هذا الفيلم جانبًا من مأساةِ الشعبِ الفلسطيني من خلال ثلاث شخصياتٍ أساسيّةٍ "حامد، مريم، زكريا" فحامد الشاب الحالم، تصفعه في بدايةِ حياتهِ أزمةٌ عائليّة، ويلتقي بزكريا الرجلِ الساقطِ أخلاقيًّا، المتعاونِ في الوقت ذاتهِ مع المحتلين، فيقررُ التخلصَ منه.

وفيلم "زهرة البرقوق" هو روائيٌّ قصيرٌ مدتُهُ 22 دقيقة من إنتاجِ مؤسسةِ السينما والمسرحِ في العراق، ومن إخراجِ "ياسين البكري" وهو مأخوذٌ من روايةِ غسان كنفاني، "برقوق نيسان" يبرزُ قدرةَ الفلسطيني على المقاومةِ، ويقومُ على أساسِ الزجِّ بالشخصيّةِ المحورية، والانتقالِ بها من المواقفِ الهامشيةِ إلى طريقِ الانغماسِ في الثورة.

أما فيلم "البرتقال الحزين" أيضًا فروائيٌّ قصيرٌ مدتُهُ 20 دقيقة من إنتاجِ التلفزيونِ العراقي عامَ 1969، ومن إخراجِ "كوركيس عواد" وهو مأخوذٌ من قصّةِ كنفاني "أرض البرتقال الحزين" ويتناول حياةَ عائلةٍ فلسطينيّةٍ ومأساتها، هُجّرت من فلسطين وعاشت آلامَ الهجرةِ واللجوءِ ومعاناتهما.

وهو من إخراجِ العراقي "حسن العبيدي" الذي قدّم فيلمًا قصيرًا يحمل اسمَ "وصية أم سعد" عامَ 1976، ويتناول شخصيّةَ أمٍّ فلسطينيّةٍ وموقفَها من ابنِها الذي يلتحقُ بالعملِ الفدائي، وهناك تشابهٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بين أحداثِ هذا الفيلم وأحداثِ إحدى اللوحاتِ التسع التي ترسمها روايةُ "أم سعد" للكاتبِ الشهيد، التي تعالجُ حالةً عموميّةً جماعيّةً تعبّرُ عن الحالةِ الشعبيّة في الزمنِ الفلسطيني، زمنِ المقاومةِ الفلسطينيّةِ المعاصرة، التي انطلقت بعد سنواتٍ من حياةِ البؤسِ والتشرّدِ والشّقاء.

إنّ الدافعَ وراءَ اختيارِ بعض رواياتِ غسان كنفاني وقصصِهِ ونقلِها للسينما؛ لم يكن بسببِ نوعيّةِ تلك الأعمالِ الأدبيّة، وإنّما بسببِ القضيّةِ التي تناولتها رواياتُه، أي فلسطين، يقول الشهيد في هذا المجال: "إنّ فلسطينَ تمثلُ العالمَ برمّتهِ في قصصي". أما بصددِ رواياتهِ فيقول: " إنّ شخصيتي كروائي كانت متطورةً أكثرَ من شخصيتي كسياسي وليس العكس".

لقد كان غسان كنفاني يطوّرُ دومًا في الشكلِ الروائي الذي ينجزهُ ويتجاوزهُ إلى شكلٍ روائيٍّ جديد، ولا يكرر نفسَه. ولعلنا نستطيع القولَ: إنّ أدبَ غسان كنفاني في رواياتهِ ليس أدبًا خالصًا، إنّما أدبٌ فيه الكثيرُ من السينما، فيه سينما أكثرُ بكثيرٍ من الأفلامِ نفسِها.

"من هنا نجدُ أن أدبَهُ يدفع مَنْ يقتبس منه إلى السينما، ألا يغفل تلك المهمة المشوقة والمحفزة للإبداع والابتكار الموجود في أدبه. عليه ألا يكتفي في عمليةِ الإعدادِ أو الاقتباسِ أو التحويل بالبحثِ فقط عن المعادلِ البصري الموازي للصورةِ الأدبيّة، بل عليه أن يجدَ المعادلَ السينمائي للبناءِ المونتاجي، ولمستوى البناءِ الزمني في سردِ الأحداث، إضافةً إلى البحثِ المناسبِ في رسمِ صورةِ الحدثِ الماضي لا كما حدث، بل باعتبارِهِ ذاكرةً ذات فاعليةٍ في الحدث، وعليه أيضًا أن يجدَ المعادلَ السينمائي المناسبَ لتعدّدِ الأصواتِ في السردِ والإيقاعِ عن طريقِ تلك الحبكةِ القادرة على ربطِ الأحداثِ التي تتشكل منها الحكاية". (4)

وفي النهاية.. وبعدَ هذه السنواتِ الطويلةِ على استشهاده، لا يمكننا إلا نقول: إن النتاجَ الأدبي لغسان كنفاني من روايةٍ أو قصّةٍ – والتي تحوّلت إلى أفلامٍ روائيّةٍ طويلةٍ أو قصيرة – ما هي إلا علاماتٌ بارزةٌ في المشهدِ السينمائي العربي، وفي السينما النضاليّة المقاوِمة، وحققت تلك الأفلامُ حضورًا عربيًّا وعالميًّا، وحفرت عميقًا في ذاكرةِ الإنسانِ بمضامينِها وطرحِها وأسلوبِها، وقدّمت قضيةَ شعبٍ مكافحٍ ومضحٍّ، لا يزالُ منذ أكثرَ من قرنٍ يناضلُ ويقدّمُ الشهداءَ؛ ليجدَ له مكانًا تحتَ الشّمس، أسوةً بباقي شعوبِ هذه المعمورةِ، والذي يستحقُّ الحياةَ بجدارة.

مصادر البحث:

(1) الاقتباس من المحكي الروائي إلى المحكي الفيلمي (حمادي كيروم)

(2) غسان في السينما: قيس الزبيدي

(3) مقابلة صحفية مع المخرج توفيق صالح

(4) سينما غسان كنفاني: بشار ابراهيم