Menu

الانتفاضة بدأت ومستمرة وستنتصر

لن نستسلم

أحمد مصطفى جابر

انتفاضة 1

ما بين "الانتفاضة انطلقت" و"الانتفاضة مستمرة" و"الانتفاضة ستنتصر" تكمن المرواحة في الموقف من الحدث الذي يعيشه ويراكمه الشعب الفلسطيني، فكل عبارة من هذه العبارات المستخدمة على نطاق واسع، تعكس ان صح التعبير رأيا واتجاها لقطاع من الجمهور، وتنبني عليه يقينيات وآمال وأحلام، ولكنها تجمع كلها أن ثمة شيء يحدث، والشعب الذي اخترع مصطلح الانتفاضة ليس يائسا أبدا تجاه الكلمات، فأفعاله اليوم هي التي تحدد، وتعيد صياغة اللغة، هذا أولا.

"قتلت"، "اعتقلت"، "دمرت"، "أغلقت"، "صادرت": تلك هي أفعال سياق الممارسة الاحتلالية في فلسطين، وهي أفعال بليغة، وقوية، وتشكل ردا مناسبا، على كل قول بانتهاء الانتفاضة، وخفوت وهجها.

ونحن نعلم، ان المشكلة ليست في هذه الانتفاضة بالذات، لأننا على يقين أن هذه الانتفاضة هي جزء من اشتباك مفتوح وتاريخي مع المحتل وآلته الجهنمية، مفتوح لأننا لسنا وحدنا، ولا عدونا من يستطيع أن يحدد نهايته، المشروطة سلفا بتحقيق هزيمة مؤكدة ونهائية بالطرف الآخر، وتاريخي لأنه فوق امتداده في الزمان والمكان يستدعي كل من الطرفين ما ملكت يمينه من عتاد يوظفها لحسم تاريخي لمسألة رغم تاريخيتها يمكن اعتبارها صراع وجود الآن وفي هذه اللحظة بالذات بين الجلاد والضحية.

القلق اذا ليس قلقا من انتهاء الانتفاضة، نحن مدركون جيدا لحدود قوتنا، ونعرف جيدا أننا سنكون قادرين كل يوم على اطلاق انتفاضة جديدة، القلق ليس من انطفاء الانتفاضة، التي تمتلك ديناميتها الخاصة، والتي تعمل بتسارع يغذيه بطش الاحتلال ودم الشهداء، القلق هو من وأد الانتفاضة واجهاضها.

القلق ليس من الحديث عن احتمال انتهاء الانتفاضة، نخاف انتهاء الانتفاضة لو كنا نعتبرها معركتنا الأخيرة، ولكننا نعرف اننا لن نذهب الى النسيان بعدها، وهي تجربة سنراكمها ونستفيد منها في معركة أخرى قادمة، ولكن القلق هو من هذا الحديث عندما يتحول الى ضلالة تروج لانتهاء الانتفاضة انطلاقا من فشلها في تحقيق أي شيء، وانطلاقا من لا لزومها، وهذا حديث خطير ومضلل ويخرج من مطبخ الدعاية المعادية، ولا سبيل للحديث عن حسن النوايا هنا فيما شبابنا يقتلون في الشوارع.

وإذا كان الوأد متاحا في الانتفاضة الأولى عبر التسرع في الاستثمار السياسي، وقطف الثمار على استعجال، وفي الانتفاضة الثانية، عبر المهانة السياسية وفائض القوة الوحشي والعنيف الذي استخدمه الاحتلال، الا أن المخاطر هذه المرة تأتي من مكان آخر ومن كتيبات محفوظة في سجلات الكفاح الوطني وليس علينا سوى نفض الغبار عنها.

بداية لا يمكن وأد الانتفاضة بالاستثمار السياسي، لسببين اثنين، أن هذه الانتفاضة ليست حتى الآن مرتبطة بمرجعية سياسية قادرة أن تمون ان صح التعبير على المنتفضين كما كان حال الانتفاضة الأولى، يتبع ذلك سبب بشعبتين، أن القيادة السياسية لا تريد أصلا هذه الانتفاضة، وكل همها المحافظة على الوضع القائم (الستاتيكو) الذي لا يهدد رخاءها ودوام عيشها من جهة، وأنها أصلا بوضعها الحالي، غير قادرة على المناورة السياسية، والطريق الوحيد الذي يضمن نجاتها ولكنها لا تريد السير فيه بصلف وتعنت هو اللحاق بركب شعبها وخطى الشباب المنتفضين، وهذا التردد بل الامتناع، ستدفع ثمنه غاليا، الآن أو بعد حين،  فمن قال ان ذاكرة الشعوب كذاكرة السمك ليس سوى أبله فقد ايمانه بقدرة الناس على التغيير وارادتهم التي لا يمكن كسرها. وثمة سبب اضافي أن عملية كي الوعي التي سعى اليها الاحتلال عبر الرد الوحشي على الغضب الفلسطيني، قد فشلت بالكامل، بل ارتدت نحو الداخل الصهيوني لتحدث آثارا بليغة لا يمكن تجاهلها، واذا كان العدو يترجمها أو يرد عليها بمزيد من القمع والوحشية فانه يدرك، كما علينا نحن أن ندرك أن تلك دوامة يدخل فيها وهو يبحث عن مخرج، وطريقة للنزول عن الشجرة سيكتشف آجلا أو عاجلا انها وعلى عكس الظواهر الطبيعية أصعب بكثير من الصعود.

في المباشر اذا، كماهي أحاديث السياسية، ثمة مخاطر جدية لا يجب أن نستهين بها، تهدد الانتفاضة موضوعيا، بعد ان اجتازت عتبة امكان الاجهاض الذاتي ويمكنني اجمالها في أربع نقاط خاضعة للزيادة طبعا:

الخطر الأول هو الانقسام السياسي، الذي يعصف بالوطن، ويجعله نهبا لبرنامجين كلاهما متعنت، وفئوي، ولايشتمل على المصلحة العامة للجمهور، وهذا هو المأزق الكبير الذي يجب على الكل الوطني التنبه له، ليس بخصوص الانتفاضة بل بخصوص الوطن ككل، ولاأظن أن ثمة المزيد لقوله عن الانقسام هنا.

ثم يأتي  برأيي الاصرار بتعنت على أن هذه الانتفاضة هي انتفاضة القدس ، القدس تستحق مائة انتفاضة، ولكن هذه الانتفاضة هي انتفاضة الشعب الذي تحت الاحتلال، في كل قرية ومخيم ومدينة، والقول التضليلي بانتفاضة القدس ليس سليم النوايا على حال شبابنا الذين يقولون انه يستشهدون من أجل الأقصى، شتان بين صدق الدم وزيف الدعاوى السياسية والاعلام المأجور، والذي يهدف من جهة إلى بث دعاية كاذبة مفادها أن التهدئة في القدس ستحل الاشكال، وأن مشكلتنا هي مشكلة صلاة بالأقصى، ومن جهة أخرى إلى إضفاء صبغة دينية خالصة على الصراع في تغيير جوهري لمحتوى البرنامج الوطني المتوافق عليه وربط الانتفاضة باتجاه محدد.  ومن الواضح أن العدو يبذل جهدا سياسيا واعلاميا وأمنيا قمعيا مركزا تجاه هذا، وبالتأكيد يبدو أن الخليل سحبت البساط من تحت هذا الادعاء، فهذه المدينة الصامدة المنكوبة المظلومة اعلاميا، تلخص في وضعها السياسي والامني، طل المسألة، لنكتشف أن بروتوكول الخليل هو الذي يحدد السلوك الاسرائيلي وما تريدنا السلطة الفلسطينية الالتزام به، وبالتالي لا يمكن النظر الى الصحوة الأردنية تجاه القدس ببراءة، بل يجب النظر إليها كجزء من محاولات تقليص الأزمة إلى أزمة صلاة ومسجد، وتفريغها من محتواها الوطني التحرري، ومن المؤسف أن فريقا من الفلسطينيين يروج لهذا بوعي أو بدونه. 

الخطر الثالث والذي يسند الأول، هو الاستسلام لضلالة العبثية والعفوية، وغياب الأهداف السياسية الواضحة، بسبب غياب القيادة السياسية بطابعها الموجه والمهيمن، ولكن تلك أيضا ليست سوى ضلالة، فما هو معنى الهدف السياسي أصلا: تكفي جولة سريعة على صفحات التواصل الاجتماعي لمعرفة ما يريده الناس: تفكيك حاجز زعترة مثلا، ووقف التنسيق الأمني، سيعتبر قصير النظر أن تلك أهداف مطلبية، ولكن ماهي السياسة ان لم تكن كذلك؟

لاشك أن قيادة وطنية موحدة، أو سمها، عزيزي القارئ ما تشاء، هي مطلب ملح، وعاجل، ولا يمكن التغاضي عن غياباها والامتناع عن الصراخ في وجه محبطيها وتذكيرهم بآثامهم، ولكن سياق الانتفاضة، أثبت أنها شرط على ضرورته غير لازم، بل لعل في غيابها بعض الفائدة، ولكنها تبقى مطلوبة ولكن بشروط الانتفاضة وجدول أعمال المنتفضين، وليس بأبوية القوى وحسها (العفوي) بالزعامة. ان هذا يقودنا للحديث  في ظل ما أسلفنا عن الانقسام وعن نكوص الفصائل وتراجعها كأطر سياسية، دون الحديث عن عناصرها المنضوين بالدم والارادة في الانتفاضة ويشكلون كما ظهر حتى الآن عمودها الفقري، ولكن هذا النكوص والتردد والجبن السياسي، ان صح التعبير، يهدد بتوسيع الشق بين المجتمع والأطر السياسية، ولانبالغ القول إن هذه الانتفاضة كما كل حالة تصعيد في الاشتباك مع العدو تمثل فرصة انقاذ تاريخية لهذه الأطر لاتقل عن كونها فرصة للسلطة بحد ذاتها. ولكن في النهاية ليس علينا كشعب منتفض القلق تجاه غياب هذه القيادة الموحدة، بل علينا أن نحيل  قلق الغياب إلى العدو نفسه، الذي لن يجد من يفاوضه على الدم إلا الدم نفسه.

يضاف إلى هذه المخاطر، سلوك السلطة نفسها سياسيا وأمنيا، واستقتالها للبقاء ولو على جثة القضية الوطنية، ويبدو هذا السلوك مفهوما في التحليل التاريخي لصعود الطبقة السياسية المهيمنة وترابط المصالح مع الاحتلال، وهذه القيادة ستناور وتلقي بحبالها، وتسعى بكل جهد لتدمير ما بني بدم الفدائيين وعرقهم وكفاحهم اليومي، ولايمكن الانكار أنها الأكثر قدرة (أدائيا) على الاستثمار والتوظيف هو السلطة بطبيعة الحال بما تملك من أجهزة وقدرات، ولكن هذا لن يكون ناجزاً أبداً ما يتطلب الاستمرار في تعريتها وفضح سلوكها والعمل على تفكيك عرى فوائد الترابط المذكور واقناع هذه النخب ان شراكتها مع المحتل خاسرة وفاسدة.

ولكن إلى جانب هذه المخاطر هناك آمال تعقد، تصل إلى درجة اليقين، التحليلي وليس الرومانسي الغيبي، تستند هذه الآمال أولا إلى خروج الشباب الفلسطيني من عباءة السياسات التقليدية، ورفضه الاستكانة والالتزام بجدول أعمال القوى الرسمية التي لم تلتقط حماسة الشباب وقدرتهم والمطلوب منها الآن ألا تعيق حراكهم ان لم تكن ضمنه.

وهذا الانجاز الكبير المتحقق، لن يكون مرتبطا بهذه الانتفاضة فقط، حتى لو تحقق أسوأ ما نخشاه وأجهضت، ولكنه رصيد سيضاف إلى الخبرات المتراكمة وقدرة شعبنا على التعبئة للمواجهة في اشتباك جديد قريب.

ومن الحقائق أيضا توحش العدو وصلفه، وهذا ما يجب أن نبني عليه وأن نفهمه بشكل صحيح بأنه نابع من تهاوي قلاعه النفسية، لقد كوى المنتفضون وعي العدو حقا، وهو ذاهب للتصرف على حقيقته بدون تجميل وهذا ما يجب أن نبني عليه اعلاميا وسياسيا، لفضحه وتعريته وتجريده من كل درع سياسي أو أخلاقي يختبئ خلفه.

هذه الانتفاضة المتعاظمة ببطء ولكن بإصرار وثبات، ليست نهائية ونحن لا نخاف قول ذلك، لأننا في صراع وانتفاض وثورة منذ أكثر من مائة عام، و لأننا ماضون في كفاحنا ونحن أصحاب الارض وندرك تماما: بالمعنى السياسي والمعنى الديني والمعنى الأخلاقي نختار منها ما نشاء أن شهداءنا في الجنة وقتلاهم في النار. ولا نستسلم.