لم يكن الوصول إلى نفق اتفاق أوسلو وليد مسار التسوية التي بدأت مع مؤتمر مدريد فحسب، بل هو نتاج حفر تاريخي أبعد بكثير من التغيرات الدولية والعربية والفلسطينية التي جرت نهاية وبداية ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، حيث أن أي قارئ أو أكاديمي أو متخصص حصيف في علم السياسة؛ يدرك بأن حفر هذا النفق؛ بدأ منذ أن تم اعتماد ما عرف ببرنامج النقاط العشر في عام 1974، والذي من باب تخفيف أثقاله وأبعاده التسووية؛ أطلقت عليه القوى التي تبنته "البرنامج المرحلي". وإذا ما أراد أيّ ممن سبق ذكرهم، إرجاع حفر نفق أوسلو إلى هزيمة 1967 أو حتى لهزيمة 1948 وذهاب الدول العربية تباعًا إلى عقد اتفاقات هدنة مع العدو الصهيوني، ومن سيذهب أبعد؛ فله هذا.
عندما نذهب لتوصيف اتفاق أوسلو بالنفق؛ فإننا نعني بذلك اخراجه للقضية الفلسطينية؛ من طور المعرفة السياسية المبنية على مفاهيم التحرر الوطني، ووحدة الشعب المقاتل، والكفاح المسلح، والبنى الثورية، واعرف عدوك وأدخلها أو استدخلها إلى معرفة سياسية نقيضة تمامًا، بل وباتت مهيمنة ليس ثقافيًا فقط، بل وأيديولوجيًا أيضًا عند النخب المرتبطة بالسلطة، لدرجة أنه وبعد 28 عامًا على إعلان اتفاق أوسلو بكامل مترتباته، ما يزال الحفر مستمرًا بمعاول دولية وعربية وفلسطينية وفي مقدمتها صهيونية بالطبع، بهدف تصفية القضية الفلسطينية وجودًا، والتي لا يمكن أن تتم وبالأساس دون التصفية معرفيًا؛ بإبقائنا أسرى لهذا النفق؛ دون أن نحاول رؤية ضوء نهايته.
الشيء العظيم المقابل والنقيض لهذا النفق الممتد؛ هو نفق الحرية الذي أبهرنا وأبهر العالم أجمع، بما في ذلك العدو نفسه الذي انهزم أمام اختبار أيديولوجيا وإرادة الحرية التي لم يحدها كل أشكال القمع والتحكم والسيطرة وإجراءات الأمن القصوى والسجن الذي يعد من الأكثر تحصينًا بنية وتجهيزات على مستوى العالم. إنه النفق الأكثر تعبيرًا عن الحفر المضاد لمسيرة الهزيمة الشاملة التي مثلها نفق أوسلو، بحيث وضع أمامنا أسرانا الأبطال: محمود ومحمد العارضة ويعقوب قادري وزكريا الزبيدي وأيهم كممجي ومناضل انفعيات؛ أدوات الخروج من النفق إلى الحرية التي جسدتها الملعقة ويد المقلاة وغيرها من أدوات ليس لها في التفكير اللحظي أي وزن أو قيمة لحفر نفق بطول عشرين مترًا، لكنه حُفر؛ فما بالنا لو تجمعت إرادة القوى الرافضة قولًا وعملًا لنفق التسوية الذي أطبق علينا تصفيةً، وعملت على أن تحفر لنا طريقًا نقيضًا بالاستناد إلى أيديولوجيا وإرادة الحرية وما يترتب عليها من معرفة سياسية تعيد القضية الفلسطينية إلى بعدها التحرري؛ وطنيًا وقوميًا وإنسانيًا.. وهنا ليس المطلوب أكثر من الثقة بالقدرة على الفعل أو الحفر – إن شئتم – وطول الصبر والنفس والرؤية التي تقدر الزمن وتعطيه قيمته الحقيقية، والإمساك بمفاتيح القوّة الفلسطينيّة التي تتمثل في إرادة الشعب الفلسطيني الذي رغم كل ما تعرض له من عمليات تهجير وتطهير وإلغاء وتشويه معرفي ووطني وسياسي؛ لم يزل على قيد قضيته ولم يبخل أن يعطي وبمداد الدم على مدار قرن وأكثر من الصراع؛ فشعبنا هو رهاننا الناجح، وليس ما يسمى بالإرادة الدولية المحكومة بالهيمنة الأمريكية، وليس بالجامعة العربية المحكومة؛ بأنظمة الخيانة والتطبيع ، وليس بسلطة فلسطينية؛ خُلقت كي تكون وكيلًا سياسيًا وأمنيًا للعدو، وبالتالي جدار صد أمام طموحاتنا الوطنية التحررية، وهنا معنى أن نحفر نفقًا للحرية، ويكون معول الحفر الرئيسي فيه؛ من اختبر في كل محطة من محطات الصراع المستمرة، وكان الناجح بتفوق على أحزابه وتنظيمات التي اعتمدت سياسة الانتظار أو التجمد، لا المبادرة والتحرك؛ إنه الشعب الذي أثبت وعلى الرغم من كل ما حفرته أيديولوجيا أوسلو في الواقع، أنه بقيَّ يحفر بالضد أيديولوجيا الحرية؛ إنها إرادة الشعب الذي لا يهزم.