Menu

المشروعُ الاستيطانيّ في فلسطين: نقاشٌ حولَ المسؤوليّةِ الفلسطينيّة

حسن شاهين

نشر هذا المقال في العدد 31 من مجلة الهدف الإلكترونية

مدخل:

لم تحظَ فلسطينُ باستقلالٍ وطنيٍّ، ولا كانت جزءًا من أُمّةٍ متحقّقةٍ سياسيًّا منذ تبلور مفهوم الأمّة نهاية القرن الثامن عشر. والأمّةُ مفهومٌ حديث، تطوّر في أوروبا في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، في عصر الثورات - حسب توصيف المؤرّخ البريطانيّ التقدميّ إريك هوبزباوم - وهي الفترةُ التي شهدت الثورتين؛ الصناعيّة (1760) والفرنسيّة (1789)، اللتان عدّهما هوبزباوم ثورةً مزدوجةً، وجاءتا لتكمّلا بعضهما. الأولى كانت اقتصاديّةً تكنولوجيّة، والثانية سياسيّةً حقوقيّة، فأرستا البُنى الاجتماعيّة لمجتمع المدينة، مجتمع الحداثة، تبعًا لتطوّر علاقات الإنتاج الرأسماليّة ظرفًا موضوعيًّا حاكمًا في ذلك الوقت. وأخذت مفاهيمُ الأمّة والقوميّة والمواطنة الليبراليّة الرأسماليّة مكانها في العقل الجمعيّ الغربيّ، على حساب الدين والطائفة والعشيرة التي تنتمي إلى عصر الإقطاع البائد.

التجلّياتُ الفكريّةُ للتطوّر الماديّ الذي شهده الغربُ خلال تلك الفترة؛ انتقلت إلى المشرق، وبدأت روابطُ المواطنة والقوميّة تأخذُ مكانها في الوعيّ الجمعيّ بالتدريج، لكن دون إلغاء الروابط الوشائجيّة القديمة على عكس السياق الغربيّ. لذا كانت حركاتُ المقاومة على سبيل المثال في بداية عصر الاستعمار تستندُ إلى البعد الدينيّ والقبليّ، قبل أن تتطوّرَ إلى حركاتِ مقاومةٍ وطنيّة، وإن على مستوى الشعارات في بعض التجارِب، في نهاية النصف الأوّل من القرن العشرين. هذا التطوّرُ - بالذات - أسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في تمكين حركات التحرّر من تحقيق الاستقلال؛ فامتلاكُ وعيٍ حداثيّ، واستخدامُ أدواتِ الحداثة، وتبنّي قيمها ومفاهيمها؛ يعطي حركةَ التحرّر مضمونًا أخلاقيًّا مهمًّا، على صعيد حشد الدعم الدوليّ، وتعرية أطماع المستعمر الخام، بمعزلٍ عن الادّعاءات والذرائع، ويُجيَّشُ المجتمعُ وراءَ هدفِ التحرّر الوطنيّ.

فلسطينُ قبلَ النكبة

ارتباطًا بما سبق؛ يمكنُ تبيّنُ صورة واقع فلسطين إبّان الغزو الكولونياليّ البريطانيّ، وكذلك الاستعمار الاستيطانيّ الإلغائيّ الصهيونيّ.

لقد كان المجتمعُ الفلسطينيُّ مجتمعًا زراعيًّا وشائجيًّا، تعلو فيه روابطُ الدم والدين على سواهما، حتّى الأحزاب كانت - في معظمها - حداثويّةً في الشكل، ومتخلّفةً في المضمون، حيث قامت على أسسٍ عائليّةٍ وجهويّة. على الضفّة الأخرى، كان المشروعُ الصهيونيُّ المضادُّ حداثويًّا في الجوهر، يحملُ روحَ الغرب المتقدّم وقيمَه، فغرس دعائمَ المؤسّسات الحديثة لبناء المجتمع الصهيونيّ، وكانت (الهاغانا) نواةَ تأسيس الجيش، وقام الاقتصادُ على الكيبوتس الزراعيّ والصناعيّ، وأُسّست الجامعةُ العبريّةُ مؤسّسةً وطنيّةً للعلم والبحث العلميّ. وقد أمّن إنشاءُ هذهِ المؤسّسات الدعائمَ الماديّةَ المؤسّسيّةَ الحديثةَ لنظريّة الأمّة الإسرائيليّة، التي لم يكن لها وجودٌ ماديٌّ حقيقيٌّ ممتدٌّ في التاريخ، ولم تستند إلّا إلى طروحاتٍ نظريّةٍ فقط. في المقابل افتقدت الدولُ العربيّةُ المستقلّةُ حديثًا أو تحت الاستعمار حينها - بما فيها فلسطين - دعائمَها المؤسّسيّة الحديثة، وفشلت في التحقّق القوميّ رغم أنّها تنتمي لأمةٍ ممتدّةٍ تاريخيًّا.

المشكلةُ التي يطرحُها المقالُ مدخلًا لمناقشة المسؤوليّة الفلسطينيّة عن نجاح المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين؛ ليست في تخلّف بِنية المجتمع الفلسطينيّ وحسب - فهذهِ حالُ كلّ المجتمعات التي خضعت للاستعمار ونجحت في تحقيق الاستقلال - بل في فشل النخبة الفلسطينيّة في تجاوز واقع التخلّف، وبناء مشروع تحرّرٍ حداثويٍّ بمؤسّساتٍ حديثة. هذهِ المشكلةُ كان أثرُها واضحًا منذ البداية، ويمكن تلمّسه - على سبيل المثال - في اتّساع رقعة الدعم الدوليّ للمشروع الصهيونيّ إبّان وبعد الحرب العالميّة الثانية، فيما انحسر التعاطفُ مع المطالب العربيّة. صحيحٌ أنّ الاضطهادَ الذي واجهه يهودُ أوروبا من النازيّة وتسييسَهُ أثّر إلى حدٍّ بعيدٍ في ذلك، لكن أيضًا كان البناءُ المؤسّسي للمشروع الصهيونيّ في فلسطين قد بدأ يكتمل، وبانَ أنّ هناك مجتمعًا استيطانيًّا حديثًا متطوّرًا ينشأُ في البلاد، فيما سكّانُها الأصليّون لا يزالون يعيشون في عصر ما قبل الحداثة، ونخبهم لم تنجح في تطوير مؤسّساتٍ وطنيّةٍ تؤسّسُ لتجاوز واقع التخلّف، وكذلك لم تبادر إلى إطلاق مقاومةٍ وطنيّةٍ جديّةٍ للاستعمار. وهذا - على سبيل المثال - كان من أسباب تحوّل موقف الاتّحاد السوفييتيّ حينها من المشروع الصهيونيّ، خاصّةً لواقع التجمّع الصهيونيّ "الييشوف" كما تروي مذكراتُ ناحوم غولدمان، بعد أن كان داعمًا لثورة 36-39. وحولَ هذه المسألة كتب المؤرّخُ الفرنسيُّ دومينيك فيدال: "يبدو أنّ دعم الاتّحاد السوفييتيّ لقيام دولةٍ يهوديّةٍ غيرُ متجانسٍ مع حالة العداء التقليديّ للصهيونيّة في أوساط الماركسيّين، وتحديدًا بين الشيوعيّين السوفييت. لكن ذلك يتغاضى مع أنّ السياسة الستالينيّة كانت تقدّمُ على الدوام مصالح الاتّحاد السوفييتيّ على الاعتبارات الأيديولوجيّة. والحال أنّ الإمبرياليّة المسيطرة في المنطقة، إمبرياليّةُ لندن، ونقطةُ ضعفها - بما لا يقبل الجدال - كانت في فلسطين. ولأنّه لم يكن هناك في تلك الحقبة حركةٌ وطنيّةٌ عربيّةٌ قويّةٌ يمكن أن تتحالفَ مع الاتّحاد السوفييتي؛ رأى هذا الأخيرُ أن يستخدم الحركة الصهيونيّة رافعةً لزعزعة النيّر البريطانيّ عن الأراضي المقدّسة، ثُمّ عن المشرق بأسره" (عوني فرسخ، التحدّي والاستجابة في الصراع العربيّ الصهيونيّ). وحينما برزت حركةُ تحرّرٍ عربيّةٌ حداثيّةٌ منتصف الخمسينات، بزعامة عبد الناصر، انعطف الموقفُ السوفييتي من جديدٍ تجاهَ دعم الموقف العربيّ.

ممّا سبق يمكنُ القولُ: إنّ غيابَ المشروع الحداثويّ الفلسطينيّ والعربيّ التحرّري، المرتكز إلى مؤسّساتٍ حديثة، كان سببًا في ضعف الاستجابة لمخاطر المشروع الاستعماريّ في فلسطين، وحتّى في تحوّلٍ مؤازريّ المطالب العربيّة الدوليين إلى دعم المشروع النقيض.

الثورةُ الفلسطينيّةُ المعاصرة

انطلقت الثورةُ الفلسطينيّةُ المعاصرةُ بحركاتٍ وأحزابٍ تجاوزت واقعَ تلك القديمة، فقامت على أيديولوجيّاتٍ وبرامجَ سياسيّة، وبقيادةٍ جلُّها من الطبقات الشعبيّة، وطرحت شعاراتٍ ووضعت لنفسها أهدافًا تحرّريّةً تنسجمُ مع القيم الإنسانيّة للمجتمعات الحديثة، على رأسها إقامةُ دولة فلسطين الديموقراطيّة على كامل تراب فلسطين، وهذا أعطاها زخمًا ومكّنها من تحشيد الشعب الفلسطينيّ خلفَها، وكذلك كسب دعم الدول والقوى التقدميّة في العالم، وكَسَرَ شبهَ الإجماع في الرأي العام الغربيّ الداعم لإسرائيل. لكن في المقابل ظلّت قيادةُ الفصيل الأكبر "فتح" ومنظّمةُ التحرير مرتبطةً بالنظام الرسميّ العربي، المشتكّل من أنظمةٍ في غالبيتها تابعةٌ للغرب ووكيلةٌ لمصالحه الاقتصاديّة في المنطقة، فوجودُها واستمرارُها مرتبطانِ بالاندماج في السياسة الدوليّة الغربيّة المهيمنة على العالم، التي كان - وما زال - وجودُ إسرائيل وتفوّقُها - إقليميًّا - من مرتكزاتها. لذلك، وبحكم طبيعتها وطبيعة دورها، لم يكن لها أن تدعم بشكلٍ جديٍّ مشروعًا يمكن أن يشكّل خطرًا على وجود إسرائيل.

وعليه؛ استمرّت منظّمةُ التحرير بعد سيطرة فتح عليها، وانضواء باقي الفصائل تحت مظلّتها؛ امتدادًا للنظام الرسميّ العربي، رغم محاولات التمايز في هذا الموقف أو ذاك. هذا يفسّر إلى حدٍّ ما فشلها في بناء قاعدةٍ للتحرير في الأردن، ثمّ فشلها في استثمار الوجود في لبنان، وأثناء ذلك تبنّيها مشروع حلّ الدولتين في برنامج النقاط العشرة. كانت شعاراتُ التحرير الرنّانةُ للاستهلاك الشعبيّ، لكنّ السياسةَ متساوقةٌ إلى حدٍّ بعيدٍ مع المقاربة الدوليّة للقضيّة الفلسطينيّة القائمة على حلّ الدولتين، وهي المقاربةُ الذي أثبتت التجرِبةُ عدمَ واقعيّتها.

إنّ هذا المسار أوصل القيادةَ الفلسطينيّةَ لأوسلو، لتتحوّل إلى كيانٍ وظيفيٍّ يرفع عن كاهل الاحتلال مواجهةَ الشعب المحتلّ، ويقف حائطًا في وجه مقاومته، وهو ما أقرّ به (الكيانُ الوظيفيّ) رئيسُ السلطة محمود عباس في إحدى خطاباته. أي أنّ الثورةَ الفلسطينيّةَ المعاصرةَ بقيادتها المهيمنة، ورغم أنّها قطعت إلى حدٍّ بعيدٍ مع طبيعة الأحزاب الفلسطينيّة القديمة؛ إلّا أنّ ارتهانها للنظام الرسميّ العربيّ، وتساوقها مع السياسة الدوليّة حول القضيّة، إضافةً إلى عواملَ أخرى، حالت دون أن تبنيَ قوّةَ تحرّرٍ وطنيٍّ حقيقيّة؛ تهدفُ للتحرير واستعادة الأرض وعودة الشعب المُهجّر.

حركةُ حماس

في المقابل، جاءت حركةُ حماس بديلًا يتبنّى أيديولوجيا دينيّةً غيرَ حداثيّة، ترى قضيّة فلسطين من منظورٍ دينيٍّ لا وطنيّ، ومرتبطةٌ بمشروعٍ إسلامويٍّ - هو أيضًا - متساوقٌ مع السياسة الغربيّة، لا بل يسعى ليحظى بقَبول الغرب؛ ليكونَ بديلًا وظيفيًّا للنظم الرسميّة القائمة. ورغم تطوّر طرح حركة حماس السياسيّ في السنوات الأخيرة، وحضور القضيّة الوطنيّة في أحدث أدبيّاتها؛ إلّا أنّها لم تتجاوز مسألةَ أنّها حزبٌ مرتبطٌ بأيديولوجيا لا تنتمي إلى العصر. وبعد سيطرتها على قطاع غزة، ثمّ قَبولها بحلّ الدولتين؛ تبيّن أنّها لا تقدّم مختلفةً في الجوهر مع تلك التي قدّمها خصومُها السياسيّون في حركة فتح، وإن تمايزت في بعض التفاصيل.

إنّ ما تقدّم هو محاولةٌ لمناقشة مسألة المسؤوليّة الفلسطينيّة من مدخلٍ مؤسّسي، ويجادلُ في أنّ النخبةَ السياسيّةَ الفلسطينيّةَ فشلت في بناء مشروعٍ حداثويٍّ يواجهُ المشروعَ الاستعماريَّ الصهيونيَّ في فلسطين، وهذا إلى جانب عواملَ أخرى موضوعيّةٍ كان من أسباب نجاح الأخير. وهي مناقشةٌ مدخليّةٌ بحاجةٍ إلى إثراءٍ ونقدٍ في إطار مشروعٍ نقديٍّ للتجرِبة السياسيّة الفلسطينيّة، لم يطلق بشكلٍ متكاملٍ ورسميٍّ حتّى الآن، وهذا أمرٌ بحدّ ذاته دليلٌ على الفشل المؤسّسي الفلسطينيّ.