Menu

فيروس كورونا وإعادة ترتيب العلاقات الدولية

د. كريمة الحفناوي

يحدثنا التاريخ عن أحداث جلل وفارقة تغير مجرى الدول والعلاقات منها الأوبئة والثورات الكبرى من أيام ثورة العبيد وحتى الآن، هذا غير الأزمات الاقتصادية الطاحنة التى أعقبت الحرب العالمية الأولى والثانية، بجانب التطور فى علاقات الإنتاج والاكتشافات العلمية والثورات الصناعية الكبرى التى نعيشها متمثلة فى عصر الذكاء الاصطناعى والتواصل بين كل البشر فى جميع أنحاء الكرة الأرضية؛ عبر شبكة الإنترنت، بل والتفاعل بين كل ثقافات العالم من خلال مواقع التواصل الاجتماعى (الفيس بوك وتويتر وغيرها)، مما جعل العالم الآن قرية واحدة؛ تتأثر معًا بأى حدث يقع فى أحد أنحائها. ومن هذه الأحداث ستكون محنة فيروس كورونا فى بدايات عام2020 من القرن الواحد والعشرين، إحدى الكوارث التى سيتغير بالتأكيد مجرى التاريخ بعدها عما كان قبلها فى ترتيب العلاقات بين الدول وبعضها وداخل الدولة الواحدة، مع صعود أقطاب أخرى تؤثر فى المنظومة السياسية والاقتصادية  والاجتماعية العالمية. ويجتهد الكثير من الكتَّاب والمفكرين فى رصد واستقراء ما سيحدث بعد مواجهة محنة الفيروس.
لقد كشفت محنة فيروس كورونا عن هشاشة النظام العالمى السائد منذ نهاية الحرب الباردة فى التسعينات من القرن الماضى، وأنه لا بد من تشكل نظام عالمى جديد لمواجهة التحديات التى تواجه وتهدد البشرية على المستوى الصحى والاقتصادى والاجتماعى، حيث أصيب الاقتصاد العالمى مع امتداد أزمة الفيروس بالشلل شبه التام؛ نتيجة للإجراءات الاحترازية التى اتخذتها الدول وأدت إلى توقف حركة الطيران والسفر وتراجع الحركة التجارية وانهيار قطاعات السياحة وانخفاض أسعار النفط وفقدان 25 مليون من العاملين لوظائفهم، مع زيادة معدل البطالة وازدياد معدل الفقر وفقًا لتحذير منظمة العمل الدولية، كما تحذر كافة المنظمات الدولية من حدوث نقص فى الغذاء، وتحذر منظمة العمل الدولية من أن 2 مليار شخص حول العالم مهددين بالتشرد والجوع؛ نتيجة فقد وظائفهم فى الاقتصاد غير الرسمى. وكشفت أيضًا جائحة الفيروس الوجه القبيح للسياسات النيوليبرالية للرأسمالية المتوحشة والمعسكرة، والتى استمرت عقب الأزمة المالية العالمية 2008 فى انتهاج التقشف وتقليص الإنفاق على الخدمات وعلى رأسها الرعاية الصحية، والتى كانت من نتيجتها هشاشة وضعف المنظومة الصحية، بل وفشلها فى عدد من الدول فى مواجهة فيروس كورونا.
ولننتقل لمأساة أشد نتجت أيضًا عن سياسات الدول الكبرى فى إطار استنزاف ثروات ونفط الدول النامية، وفى القلب منها المنطقة العربية، وهى مأساة اللاجئين والنازحين نتيجة للصراعات والحروب والعدوان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، من جهة والكيان الصهيونى من جهة ثانية، بجانب الأحلاف التى تكونت لخدمة مصالح الرأسمالية المتوحشة، وساعدت فى تأجيج الصراعات والحروب، وكانت النتيجة ملايين من الأطفال والنساء وكبار السن فى مخيمات اللاجئين السوريين واليمنيين والفلسطينيين، وكل النازحين والعالقين المكدسين فى ظروف معيشية صعبة لا يملكون ما يأكلونه أو يخفف من آلامهم بما في ذلك عدم توفر الرعاية الصحية. واستطاعت بعض الدول التى تنتهج سياسات تقوم على التعاون والمنفعة المتبادلة والمصلحة المشتركة أن تواجه الكارثة بشكل أفضل؛ عن طريق التعاون بين الحكومة والشعب، مثال ذلك الصين التى استطاعت فى وقت قصير تحجيم انتشار الوباء وسخرَّت كل إمكانيتها الصحية والعلمية والبحثية وأرسلت مساعدات طبية، كما روسيا وكوبا ومصر؛ من أجل إنقاذ البشر ودعم الدول الأكثر تضررًا من هجوم الفيروس. 
سباق التسلح والإنفاق العسكرى
فى نفس الوقت الذى عجزت فيه النظم الصحية للدول الرأسمالية الكبرى عن مواجهة عدو غير مرئى؛ شرس ويفتك بالإنسان نتيجة لتقليص ميزانية الصحة والخدمات، تصدمنا الاحصائيات الخاصة بالإنفاق العسكرى لتلك الدول الكبرى، فنجد فى الولايات المتحدة الأمريكية حجم الإنفاق العسكرى سنويًا 750 مليار دولار، وميزانية حلف الأطلنطى تريليون دولار، أما حجم الإنفاق العسكرى للإتحاد الأوروبى (29 دولة) يبلغ 650 مليار دولار. هل يمكن أن تستمر هذه السياسات بعد محنة فيروس كورونا؟ أم سيتم إعادة النظر فى أولويات الإنفاق وتكون الأولوية هى الإنفاق على الصحة والرعاية الطبية والبحث العلمى والحفاظ على البيئة من أجل حق الإنسان فى الحياة، لا سباق التسلح من أجل تدمير الحياة؟
القرصنة والبلطجة الأمريكية
لنرى معًا كيف تصرف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إزاء محنة فيروس كورونا. لقد تصرف بعقلية التاجر وكيف يحقق مزيدًا من المكاسب السياسية والاقتصادية، ولكن انقلب السحر على الساحر، حيث تبوأت أمريكا المركز الأول بين دول العالم من حيث عدد الموتى والإصابات، وعجزت وفشلت إمكانياتها الصحية عن مواجهة الفيروس. ففى بداية الكارثة تصرف التاجر ترامب من منطلق أن "الأرباح قبل الإنسان"، وتأخر كثيرًا فى فرض قرارات العزل والحجر وإغلاق أماكن التجمعات؛ لأن ذلك سيسبب خسارة اقتصادية، وكان من نتيجة ذلك انتشار الفيروس فى معظم الولايات الأمريكية. ولم يكتفِ بذلك، بل رفض الاستجابة لاستغاثة قبطان حاملة الطائرات الأمريكية روزفلت فى المحيط الهادى (والذى أعلن إصابة عدد من الضباط والجنود بفيروس كورونا، مما يهدد 5000 من الجنود والضباط موجودون على ظهر حاملة الطائرات وطلب المساعدة الفورية)؛ رفض ترامب الاستجابة لإنقاذ أرواح جنوده وأقال القبطان! زد على ذلك البلطجة والقرصنة الأمريكية بالاستيلاء على شحنات من الأجهزة والمعدات الطبية المرسلة لأسبانيا وإيطاليا بعرض زيادة السعر لثلاثة أضعاف ضاربًا عرض الحائط بالقيم الإنسانية والتعاون بين الدول فى مواجهة كارثة فيروس كورونا. كما رفض ترامب فى مثل هذه الظروف الضغوط التى مارستها عليه دول أوروبية والصين وروسيا؛ من أجل تخفيف العقوبات المفروضة على إيران لوصول احتياجاتها من الأجهزة الطبية، مع رفع عقوبة تجميد 70 مليار دولار لإيران، حتى يمكن تلبية احتياجاتها الطبية فى ظروف هجمة الفيروس. وزد على ذلك موقف ترامب المنافى للشرعية الدولية من دولة فنزويلا، حيث تآمر للإطاحة بالرئيس المنتخب الشرعى نيكولاس مادورو باتهامه هو وعدد من قيادات البلاد بالاتجار بالمخدرات وتهديد الأمن القومى الأمريكى، واتخذت غير ذلك من الإجراءات، وذلك لإسقاطه والإطاحة به.
الاتحاد الأوروبى: الفردية والأنانية
تضررت الدول الأوروبية من اجتياح فيروس كورونا لبلدانها، وكانت أكثر الدول تضررًا من حيث عدد الإصابات والوفيات إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وألمانيا، وكان من الطبيعى أن تتواصل دول الاتحاد الأوروبى (29 دولة) مع بعضها البعض وتتعاون من أجل مواجهة محنة أو جائحة كورونا، ولكن كشفت المحنة فى بدايتها عن ملامح الوجه القبيح للرأسمالية الكبرى التى تحمل الأنانية والفردية ومحاولة الانكفاء على الذات لحل الأزمة، مع عدم التعاون مع بقية الدول التى وقع عليها الضرر الأكبر ومنها إيطاليا التى ملأ صراخها العالم؛ مطالبة للأجهزة الطبية والمعدات وجاءها الرد والعون من أقصى الشرق من الصين، ومن دول أخرى منها كوبا وروسيا ومصر. وفى محاولة أخرى لإنقاذ الاتحاد الأوروبى والعمل معًا طرح رئيس الحكومة الإيطالية فكرة طرح سندات كورونا (سندات أوروبية للإنعاش والنهوض) لتمويل الجهود الاستثنائية التى يفترض أن تبذلها أوروبا لإعادة بناء دولها اقتصاديًا واجتماعيًا، ولكن لا حياة لمن تنادى، وقوبل اقتراح إيطاليا بالصمت الرهيب، وقول رئيس صربيا لشعبه والعالم: "إن الاتحاد الأوروبى وهم كبير"، بعد أن وجه نداء استغاثة للاتحاد الأوروبي، دون رد، فكان الجواب من الصين!
تعاملت المفوضية الأوربية ببطء شديد فى اتخاذ القرارات الواجبة لمواجهة الفيروس، وأخذت تحسب الحسابات بمنطق الربح والخسارة؛ لدرجة أن بعض البلدان لم تتخذ قرارًا بمنع التجمعات وإغلاق المدارس والجامعات، إلا متأخرًا، مما تسبب فى خسائر بشرية كبيرة، واتضح للكثير من شعوب دول أوروبا؛ أن المفوضية تخدم مصالح الدول الرأسمالية الكبرى داخلها على حساب بقية الدول داخل الاتحاد الأوروبى.
مستقبل العلاقات بين الدول
مما سبق تبرز على الساحة تساؤلات كثيرة منها مستقبل العلاقات بين الدول، وبعضها أى بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين عدد من حلفائها التى تخلت عنهم وقت المحنة، وأيضًا العلاقة بين دول الاتحاد الأوروبى، وهل سيبقى الاتحاد الأوروبى متماسكًا أم ستخرج دول عديدة منه فتسبب تفككه؟
وبالنسبة للسياسات النيو ليبرالية التى ثبت تبنيها لسياسات اقتصادية واجتماعية زادت من اتساع الفجوة الطبقية لدى الشعوب بين الأغنياء والفقراء، وقلَّصت الإنفاق على خدمات التعليم والبحث العلمى والصحة لصالح زيادة الإنفاق العسكرى، فكانت النتيجة العجز فى مواجهة أزمة فيروس كورونا وفقدان حياة عشرات الألاف من البشر، بل والتسبب فى أزمة اقتصادية ستبلغ مداها فى الشهور القادمة؛ فهل ستستمر هذه السياسات دون تغيير لتحقيق العدالة والمساواة والحياة الكريمة للمواطنين وتحقيق الحريات السياسية المرتبطة بالحريات الاجتماعية؟
 تساؤلات كثيرة سيجاب عليها فى المستقبل القريب، لكن من المؤكد الأكيد أن الحال لن يبقى كما هو، وأن العالم سيتغير بعد محنة كورونا، حيث لن يستمر القطب الواحد للرأسمالية المتوحشة المعسكرة فى الهيمنة والسيطرة وفرض مصالحه بالقوة والهيمنة على العالم، وستبزغ أقطاب أخرى على رأسها الصين لنشر سياسات جديدة؛ تعتمد على المنفعة المتبادلة والتشارك والتعاون مع الحفاظ على سيادة الدول. وستكافح الشعوب من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير حقها فى الحياة والمعيشة الكريمة، وستجبر حكومات دولها على توفير ميزانيات كافية للصحة والتعليم والبحث العلمى والسكن الصحى والغذاء وتوفير فرص العمل، وستراجع بعض الدول سياساتها الاقتصادية لتعود إلى الاعتماد على الإنتاج الزراعى والصناعى للاكتفاء الذاتى أولاً، ثم زيادته من أجل التصدير والتبادل التجارى. 
العالم بعد محنة فيروس كورونا لن يكون كما كان قبل المحنة، ولكن لن يكون هذا سهلاَ، وستستمر الصراعات من أجل محاولة الرأسمالية المتوحشة لمزيد من توطيد دعائم حكمها والدفاع عن سياستها ومصالحها؛ الأمل دائمًا فى الشعوب الحرة التى تكافح من أجل عالم أفضل تسوده الحرية والإخاء والمساواة والمواطنة والعدل والعدالة والسلام.

*عضو السكرتاريا المركزية للحزب الاشتراكي المصري - مصر

*نُشر هذا المقال في العدد 13 من مجلة الهدف الرقمية