"لا معنًى للنظرِ إلى الوراءِ إلّا لمعرفةِ أين نحن الآن! ونحن، إذ نحاولُ قراءةَ الماضي الذي لم يمضِ بعد؛ نحاولُ أن نتجاوزَ سؤالَ البقاء إلى سؤالِ الوجود الحرّ الذي تُحقّق فيه الذاتُ حرّيةَ محاكمةِ الذات. فلا يكفي أن نعيدَ روايةَ ما فعله الآخرون بنا، بل آن لنا، ونحن نتذكّر ذلك، أن نتساءل بين حينٍ وآخرَ عمّا فعلنا بأنفسنا، لا لنبرّأ التاريخَ من دمنا، بل لنعرفَ كيف لا يضيع دمُنا سدى".
محمود درويش
كتبنا من قبل: في الخامسَ عشرَ من أيّار، قبل 74 عامًا، امتلأت رئتا العالم برائحة ربيع فلسطين المحترق، مشبّعةً بالدم والدموع والبارود. وقتها ولج العالم دهاليزَ سرديّةً مطوّلة، أنفاقَ روايةٍ متعدّدةِ الفصول؛ حكايةٌ مفتوحةٌ على الاحتمال والتكهّنات والمؤامرات: كيف وقعت النكبة؟ ولماذا؟
الكتابةُ تكون للنسيان أو للتذكّر، وهما ديناميتان تشكّلان الوعي واللاوعي الاجتماعيين، استحضارًا وإخفاءً، إسكاتًا وبوحًا. عوملت النكبة باستحضارها الدائم من طرفنا، وبإسكات صوتها ومحو صورتها من قبل عدوٍّ يواصلُ طمسَ الحقائق وتزييف التاريخ!
إنّه لا يفلح الظالمون. لطالما مارس عدوُّنا عمليّاتِ قمع الحقيقة بالطمس والإسكات؛ يتنصّلُ من مسؤوليتِهِ عن نكبتنا ويلقي باللوم علينا وعلى العرب، بل ويحتفل بقيامة "كيانٍ" مزيّفٍ لشعبٍ متخيّلٍ إمعانًا في الإنكار والتنكّر؛ بعضهم اعترف، لكنّه "بعضٌ" قليلٌ واعترافُهُ مشوّشٌ ولا يخلو من زيفٍ وإنكار.
نحن أيضًا لا نعترفُ بالحقيقةِ كاملة؛ نردّدُ الروايةَ ذاتها دون نقدٍ أو مراجعة؛ ننكرُ مسؤوليّتنا عمّا حلّ بنا. بالغنا في ترويج صورة الضحيّة، المغتصبة، المطرودة قسرًا من ديارها. ومنذ وقوعها، والوعد بإزالة آثار النكبة تتوارثه أجيالنا؛ فلا نرى سوى ردودِ فعلٍ تتراوحُ بين التجريبيّة المفرطة والعدميّة المتطرّفة، ورغم حضورنا المكثّف والمعمّد بالتضحيّة طوال سبعةِ عقودٍ ونصف، أسكت عدوُّنا صوتنا الصاخب، وأخفى صورتنا الحقيقيّة، وتنصّل من دمنا، لكنّه اليوم بالكاد قادرٌ على التقاط أنفاسه متهدّجًا مربكًا وقد أوغل في تطرّفه، وأمعن في إنكاره حتّى بدا أنّ العالم يوشك على كشف حقيقته!
على أعتاب الذكرى 74، فقدنا ثلاثةً من فرسان الكلمة: هاني حبيب، فيصل حوراني، شيرين أو عاقلة. ولكلٍّ منهم إسهاماته المقدّرة في معركة العودة والتحرير. الكلمةُ مقاومة، كنّا نقول: البندقيّةُ دون نظريّةٍ قاطعةُ طريق. ونحن نودّعهم نستحضرُ عطاءهم ومسيرتهم المعطّرة بالتضحية، المعمّدة بالحبر، والمغبّرة بالتراب في دروب المنفى وفي أزقّة المخيّمات وحواري المدن. استحضروا الذكرى وأعادوا بناء الرواية وعملوا على ترويجها في عتمة الاضطهاد والغياب. لن أقول في غيابهم أكثرَ ممّا قيل في وداعهم، إنّهم قاماتٌ وأقلامٌ وأقمارٌ امتشقت، في السيرة والسيرورة، سيوفُ الحروف سلاحٌ عبر تقارير البث الصباحي ومقالات العمود اليومي وكتب السيرة، يغذون السير نحو فلسطين المستعادة وطنًا وهُويّةً وكرامة!
واصل هاني الحفر بإزميله من موقعه القلق نسبيًّا؛ جمع بين ثوريّةٍ مستمدّةٍ من علاقةٍ تاريخيّةٍ مع الجبهة الشعبيّة، وعقلانيّةٍ متفائلةٍ عبرّت عن اتّجاهات وزارة الإعلام الفلسطينيّة، وموضوعيّة صحيفةٍ اكتسبت زخمًا وحضورًا في ميدان التنافس على قلب المواطن وعقله! "كان هاني بريئًا إلى حدٍّ مدهش، إلى درجة التناقض بين دهاء المعرفة المكتوبة وبراءة السلوك اليومي" يقول الصديق أكرم عطا الله!
أما فيصل، المفكّر والمناضل واللاجئ، انتهى به المشوار الطويل والمحفوف بالخطر، على سرير وسط أوروبا المشتعلة، ودروب منفاه تتّسع لتضمَّ ضيوفًا جددًا من سوريا التي أحبها وانتمى لنخبتها وحزبها الحاكم مرّة، ومن أوكرانيا المطاردة والطريدة بين جبارين: أوراسي وأطلسي! ليلتحق بشريكة عمره ورفيقة دربه؛ زوجته باولا المفعمة بالأمل. جمعتهما قصّةُ حبٍّ مصحوبةً بشغف العدالة والحسّ الإنساني والإصرار على الكفاح من أجل السلام والإنصاف ورفع المعاناة والظلم. فيصل، يقول الشاعر مراد السودان ي "أكثر من سيرةٍ في قصّة شعب، وأطول من فصل النكبة المرير في لوح الذاكرة". أبرز ما ترك لنا في قراءته للفكر السياسي الفلسطيني منذ النكبة تشظّيه بين ثلاث اتّجاهات: تجريبي، وعدمي، وعقلاني وهو ما يصلح لمقاربة حالنا اليوم المنقسم فكرًا سياسيًّا وممارسةً نضاليّةً وواقعًا معيشيًّا!
شيرين تحدّت "الحياديّة"، فكانت صوت فلسطين وصورتها الحقيقيّة رغم محاولات التشويش والإسكات والتشويه، ولم تسقط في اللغو وهي تجوب أزقّة المخيّمات وتقتحم أعماق المدن ترصد الحقيقةَ وتسمع الصوت وتنقل الصورة، تسجّل وقائعَ ملحمةٍ مستمرّةٍ من جانب شعبٍ قرّر البقاء والمواجهة، وترصد انتهاكاتٍ فظّةً وفظيعةً للأعراف الدوليّة والقيم الإنسانية من جانب عدوٍّ مدجّجٍ بالكراهية العنصريّة والسلوك العدواني. فكانت شيرين شاهدةً وشهيدة!
(1)
تزعمُ الروايةُ الإسرائيليّةُ أنّ الفلسطينيين يتحمّلون المسؤوليّةَ عن مشكلةِ لجوئهم؛ وذلك برفضهم قرارَ التقسيم، وموافقتهم على الحرب، واستجابتهم لدعوات لجنة الإنقاذ. الحقيقة غير ذلك؛ كشفت الوثائق الإسرائيلية ذاتها أنّ معظم الفلسطينيين إنّما فعلوا ذلك؛ بسبب الأعمال العدائيّة، أي بعد هجوم العصابات الإسرائيليّة المسلّحة أو الخوف من مثل هذا الهجوم أو التهديد به. مارست الصهيونيّة وحكومات إسرائيل المتعاقبة منذ النكبة عمليّات إسكاتٍ نشطةٍ لذكراها نتج عنها (بالرقابة والصمت) تشكيلٌ اجتماعيٌّ جاهلٌ بما حدث ومنكرٌ له. المثال الأبرز لهذا الإسكات ما يعرف بطمس الآثار، ماديًّا (تدمير المباني وإخفاء آثارها)، رمزيًّا (محو الأسماء الفلسطينيّة للأماكن والأشياء واستبدالها بأخرى عبريّة). في النتيجة، مثلما شكّلت النكبةُ عنصرًا تأسيسًا في الهُويّة الفلسطينيّة الجماعيّة، فإن إنكارها وإنكار المسؤوليّة عنها شكلا اللاوعي الاجتماعي في المجتمع الإسرائيلي، ما جعل هذا المجتمع قلقًا على الدوام، عصيًّا على الاندماج في المنطقة، دائم الإحساس بانعدام الأمن؛ ما يدفع لمزيدٍ من العدوان، ويتجلّى بوصفه سمةً أساسيّةً من سمات هذا المجتمع ودولته!
(2)
يطالبُ كثيرون بإدامة الاشتباك والردّ الفوري على جرائم الاحتلال أينما وقعت، وفي ذلك بعضٌ من مراهقةٍ ثوريّة؛ الحلّ يكمن في إعادة تعريف المقاومة وتوزيع الأعباء على الكلّ الوطني وتقدير السياقات بحكمةٍ وعقلانيّة، والاستثمار في عوامل القوّة الحقيقيّة؛ تكامل الساحات لا يعني هيمنة واحدةٍ على الأخريات، بأسلوبها ومنطقها وفعلها، مهما كان دورها محوريًّا، تكامل الساحات يتّسع لنموذج بيت دجن وبيتا، جنين و القدس وغزة وفلسطيني 48، لكلّ تجمّعٍ مشروعُهُ السياسي وهمومُهُ اليوميّة وخصوصيّاتُهُ الحياتيّةُ لكنّنا ننضوي، جميعًا، تحت لواءِ مشروعٍ وطنيٍّ واحدٍ بالتضامن والتكامل، بالتنسيق وتوحيد الرؤى والمواقف. وعلى الفصائل أن تخضع أجنداتها لشرطنا الوجودي وليس العكس، وذلك بالكفّ عن إخضاع هذا الشرط لأهوائها أو رؤاها أو مصالحها مهما أضفت من صفاتٍ ووصفاتٍ "وطنيّة" على أفعالٍ هي في الواقع فصائليّةٌ وفئويّةٌ مجرّدةٌ تنبع، ربّما، من حساباتٍ متهوّرةٍ وقصيرة النظر. عدوُّنا لا يريدنا أن نظهر بوصفنا مقاتلين من أجل الحريّة، أو بوصفنا ضحايا عنصريّةٍ واحتلالٍ غاشم، إنّما بوصفنا "قتلةً وإرهابيين" بخلفيّةٍ دينيّةٍ أو قوميّةٍ أو أيديولوجيّةٍ متطرّفة.
(3)
بعدَ مرورِ 74 عامًا، ما زال العالم، الذي أسهم في إنتاج نكبتنا، مكتفيًا بترميم الخرائب، يقفُ على مسافةٍ بين الجلّاد والضحيّة خالطًا أحيانًا بين أَنفةِ الضحيّة وعنف الجلّاد، حائرًا بين لغةِ سلامٍ مأمولٍ لا يأتي، ومصالح حقيقيّة تدفعه إلى طأطأة الرأس والإذعان لطواغيت المال والإعلام وأيديولوجيّات التفوّق. وما زال البعض منا يجهل التحدّث بلغة هذا العالم فيتمّ تجاهله أو تستمرّ عمليّة تقريعه وشتمه دون نتيجة! إنّ ما أثارته حربُ أوكرانيا من أسئلةٍ حول كثيرٍ من قضايا العالم المعاصر؛ الدولة والأحلاف العسكريّة ونهاية الليبراليّة الجديدة، وتحطّم النظام الدولي أحادي القطبيّة، ما يخلقُ بيئةً جديدةً وواعدةً تفرض علينا الاستفادة من فرصها لتعميق أزمة عدوّنا، وإبراز طابعه وطبيعته العدوانيّة والعنصريّة، واستعادة صورة الضحيّة دون خجلٍ والاتّكاء على قوّة الأخلاق والحقوق في عالمٍ يعاد تشكيله بالحفاظ على تعدّديّته وتنوّعه.
(4)
استخلصَ قسطنطين زريق بُعيد النكبة مباشرةً بعض وجوهها: الانتكاس المعنويّ، التهرّب من مجابهة الخطر، الشكّ بالنفس والقادة، وفي استحقاقنا لمسمى أمة/شعب، الاستهتار بقوّة العدوّ والانخداع بقوّتنا (عنجهيّة الخطبة، استيهام القوّة، ...)، وأخيرًا فشلنا في فهم الواقع (وفهمنا لطبيعة عدوّنا ولطبيعة الصراع معه..). واقترح زريق ثلاثة ديناميّاتٍ لحفز العمل على تجاوز آثار النكبة: تقوية إحساسنا بالخطر الداهم وعدم الاستهتار به، وتعزيز المشاركة الشعبيّة (تجاوز فكرة البطل الفرد)، وأخيرًا إعمال العقلانيّة الثوريّة وتحديدًا في إمكانيّة التضحية وضرورتها ببعض المصالح لدرء الخطر الأكبر في التعامل مع الواقع العالميّ بعد فهمه "فالعقلُ في حقيقة الواقع، فاعلٌ ثوريّ، بل لعلَّهُ أعظم الفواعل الثوريّة في الحياة الإنسانيّة وفي تاريخ الشعوب".
(5)
ختامًا، نقولُ: إنّ الفلسطينيّ واجه نكبته الأولى بكثيرٍ من البسالة والتضحية، كما واجهها بإنعاش ذاكرته وإبقائها حيّةً على الدوام، وإن كان ارتكب الكثير من الأخطاء، غيرَ أنّ فشله في إزالة أثار النكبة لا يعود إلى هذه الأخطاء وحدَها بالتأكيد. لا تحتاجُ عمليّةُ إعادة بناء الوعي الوطني إلى تجاوز حالةِ الانقسامِ الراهنة فحسب، فذلك شرطٌ ضروريٌّ لكنّه غيرُ كاف، إنّما إلى اتّباع نهجٍ مختلِفٍ في الفكر والممارسة: انتهاج خطّ العقلانيّة الثوريّة دون تجريبيّةٍ مفرطةٍ أو عدميّةٍ مطلقة، واستنادًا إلى هذا المنهج يجب محاكمة سلوكنا السياسي والكفاحي كما في إدارة الشأن اليومي، وبناء العلاقات الخارجيّة. إنّ أفضل ما يمكن أن يقوم به الفلسطيني في ذكرى نكبته يتمثّل في إعادة صياغة روايته وتعديل سلوكه على النحو الذي يمكّنه من الدفاع عن قضيّته في عالمٍ شديدِ التعقيد، لا يأبه للدموع كثيرًا كما لا تخيفه الخطبُ الرّنانةُ الجوفاء!