Menu

الربيع الأحمر… مذكرات فدائي ياباني

بوابة الهدف الإخبارية

ترجمة خاصة: الهدف

شهد النصف الثاني من ستينيات القرن المنصرم تطورات عالمية كبرى على المستوى العالمي، الأمر الذي ترك أثره على اليابان التي شهدت تصاعد الحركة اليسارية الثورية فيما يعرف بـمنظمات ’’اليسار الجديد‘‘ التي أخذت في النمو والانتشار.

والعام ١٩٦٨، شهد تعاظم الحراك في إطار من معارضة سياسات الحكومة اليابانية الرأسمالية المرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية ومعارضة المشاركة اليابانية في الحرب على فيتنام وبقاء القواعد الأمريكية على الأراضي اليابانية. وقد حددوا هدفًا لتظاهراتهم الحاشدة وهو منع تجديد اتفاقية الحماية بين البلدين لمدة عقد إضافي من الزمن. ومع هزيمة الحراك في عام ١٩٦٩ بفشلهم في منع تجديد الاتفاقية، اتجهت الحركة الثورية اليابانية نحو التسلح، فعلى سبيل المثال ظهرت منظمة عُرفت بـ’’فصيل الجيش الأحمر‘‘ (الاسم الكامل: عصبة الشيوعيين فصيل الجيش الأحمر) وهي عبارة عن انشقاق داخل منظمة معروفة بـ’’عصبة الشيوعيين‘‘. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل كان التوجه نحو الخارج أيضًا. ففي عام ١٩٧٠، قام بعض أعضاء فصيل الجيش الأحمر باختطاف طائرة الخطوط الجوية اليابانية المتوجهة إلى كوريا الجنوبية والهبوط بها في كوريا الشمالية لاتخاذها كقاعدة ثورية، وعلى الجانب الأخر، اُنيط بفوساكو شيغنوبو مسئولية العلاقات الأممية في التنظيم نفسه لتقرر التوجه إلى المنطقة العربية وبيروت على وجه التحديد لإقامة العلاقات الرفاقية بين الثورتين اليابانية والفلسطينية، وذلك بعدما تلقت المعرفة بالصراع العربي الصهيوني من شخص مجهولة هويته يُعرف باسم ’’Arabist‘‘ كان مهتمًا بالشئون العربية عمومًا والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص. في الوقت نفسه أخذت دوريات اليسار الياباني تنشر نصوصًا حول الصراع العربي الصهيوني مثل دورية اليسار الجديد وغيرها من الصحف اليسارية، وقد تميزت هذه الدوريات بتبني وجهة نظر الثورة الفلسطينية لا وجهة النظر الرسمية التي تبنتها الدولة اليابانية أو الدوائر الرسمية والتي اتخذت موقفًا يمكن أن نصفه بـ’’المحايد‘‘ إزاء الصراع، وقد تعمقت معرفة الدوائر اليسارية في اليابان بحال الثورة الفلسطينية بعدما أعد المخرج الياباني كوجي واكاماتسو فيلمه الوثائقي ’’بيان القتال العالمي… الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجيش الأحمر‘‘ في عام ١٩٧١ والذي صوره في مخيم جرش في الأردن، وشهد عرضه تفاعلًا يساريًا كبيرًا ودفع بالبعض للالتحاق بالثورة الفلسطينية كالأسير المُحرر كوزو أوكاموتو أحد منفذي عملية مطار اللد في ٣٠ مايو ١٩٧٢. وكان نشاط فوساكو شيغنوبو في جذب المتطوعين دورًا في توسع المعرفة اليابانية بطبيعة الصراع الدائر في المنطقة العربية وهو ما نجحت فيه من خلال جذب متطوعين كثر في مختلف المجالات وخصوصًا الأطباء والممرضين. وكانت رؤية اليسار الياباني بخصوص المشاركة في الثورة الفلسطينية سواء في المجال السلمي أو القتالي إيجابية، فكانت داعمة بشدة لذلك من واقع الإيمان بوحدة قضايا النضال الأممي على العكس من الدوريات الأخرى أو وسائل الإعلام التقليدية، فعلى سبيل المثال نشرت جريدة اليسار الجديد في عددها الصادر يوم ١٥ يونيو ١٩٧٢ افتتاحية تُمجد عملية مطار اللد بينما قامت إحدى الصحف الأخرى باستخلاص شهادة إدانة من أسرة يوسوكي ياسودا (أحد شهداء عملية مطار اللد) في حقه.

وفي سبتمبر/ أيلول من عام ١٩٧٣، بينما كان في منتصف عقده الثالث خرج من اليابان متوجهًا إلى لبنان للمشاركة في الثورة الفلسطينية أحد أعضاء فصيل الجيش الأحمر وهو هاروأو واكوه المولود في عام ١٩٤٨ الذي كان أحد المساعدين للمخرج كوجي واكاماتسو ومُشارك في الحملة المتنقلة لعرض فيلم ’’بيان القتال العالمي‘‘ فتأثر بدعاية منظمات اليسار الجديد اليابانية المُحبذة للمشاركة في القتال العالمي ضد الإمبريالية، فغادر اليابان وعمره ٢٥ ربيعًا لينضم إلى المجموعة اليابانية الموجودة في لبنان والتي كانت تشارك في أعمال التنظيم الخارجي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وشارك فعلًا في بعض العمليات كعملية لاجو بسنغافورة والتي هدفت إلى إيقاف إمدادات البترول للقوات الأمريكية في جنوب فيتنام. وبعد الإعلان الرسمي عن تأسيس منظمة ’’الجيش الأحمر الياباني‘‘ كمنظمة مستقلة بعد حل التنظيم الخارجي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عام ١٩٧٤ وشارك في عمليات التنظيم أيضًا كعملية كوالالمبور في عام ١٩٧٥ (استهداف السفارتين الأمريكية والسويدية في كوالالمبور).

ولكن نظرًا لبعض الخلافات التنظيمية، غادر واكوه الجيش الأحمر الياباني ولكنه بقي في لبنان ليتطوع كمقاتل في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في جنوب لبنان. وفي عام ١٩٩٧، قُبض على ٥ يابانيين من بينهم واكوه والأسير المحرر كوزو أوكاموتو ليُحاكموا بتهمة دخول لبنان بصورة غير مشروعة ليُحكم عليهم بالسجن ٣ سنوات وطردهم من لبنان بعد تنفيذ الحكم. ولكن قبل اكتمال مدة العقوبة بأيام، قامت لبنان بترحيل ٤ من اليابانيين إلى الأردن في حيلة لتسليمهم إلى اليابان مقابل مساعدات يابانية للاقتصاد اللبناني بينما أعطت لأوكاموتو حق اللجوء السياسي نتيجة قوة ضغط المتضامنين معه، فكان واكوه أحد الأربعة المرحلين إلى اليابان ليُحاكم هناك على العمليات التي شارك بها باسم الجيش الأحمر الياباني ليُحكم عليه بالسجن المؤبد (من دون إمكانية إفراج قبل الوفاة)، ليُصدر في عام ٢٠٠٧ مذكراته عن الفترة التي قضاها مُقاتلًا في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بين عامي ١٩٧٨- ١٩٨٢ التي خطها في محبسه الانفرادي تحت عنوان ’’الربيع اﻷحمر… كنت فدائيًا فلسطينيًا‘‘، وهو موضع العرض في السطور التالية.

ينبغي بداية توضيح حقيقة أن هذا الكتاب موجه بصفة أساسية إلى القارئ الياباني لذلك فهو ملئ بشروحات لمسائل بديهية لأي صاحب معرفة بوضع الثورة الفلسطينية والحرب الأهلية في لبنان فضلًا عن القارئ العربي (الذي سيقرأه باليابانية بطبيعة الحال) كشرحه للقب ’’أبو…‘‘ وما يعنيه على سبيل المثال.

والكتاب ينقسم إلى ١٨ فصلًا بالإضافة إلى خاتمة يذكر فيها كيف انتهى أمره بالسجن في عام ١٩٩٧ في لبنان وترحيله إلى اليابان بعد ٣ سنوات وحملة التضامن معه في اليابان عند عودته. وهو في الكتاب ينشر تفاصيل عدة عن طبيعة حياته وحياة المقاتلين ــ الأجانب على وجه التحديد ــ المتطوعين في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة المد والجزر في العلاقة بين الثورة الفلسطينية والحاضنة الشعبية في الجنوب اللبناني، فأحيانًا العلاقات تكون جيدة أو في وضعية يمكن أن نقول عنها أنها ممتازة دون أن تكون مبالغة ولكن في أحيانٍ أخرى تسوء، كما يقدم صورة عن الحرب الأهلية اللبنانية والتحالف الفلسطيني مع القوى الوطنية اللبنانية وارتباط قوى اليمين اللبناني بالعدو الصهيوني، ويذكر تفاصيل عن مشاركته في بعض العمليات التي اشترك في تنفيذها ضد جيش لبنان الجنوبي الذي يُقدمه للقارئ الياباني بأنه كان ذراعًا صهيونيًا في لبنان لحماية الشمال الفلسطيني المحتل.

كما يذكر أيضًا وجود متطوعين أجانب آخرين في صفوف الثورة الفلسطينية ــ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على وجه التحديد بطبيعة الحال ــ ويسجل من موقعه كمتطوع أجنبي ما كان يدور فيما بينهم من أحاديث أو تساؤلات مثل السؤال الأساسي الذي وجهوه إلى بعضهم البعض عن سبب أو أسباب تطوعهم في صفوف الثورة الفلسطينية، وهو السؤال الذي ما أن يذكره (في المرة الأولى) حتى يأخذ في الحديث عن حياته السابقة على الذهاب إلى لبنان وكيف اتخذ قراره بالسفر، ويمكن من خلال ما يذكره عن نفسه وعن الآخرين معرفة أن الدوافع في الواقع كانت متشابهة أو متطابقة بالفعل بين المقاتلين الأمميين المتطوعين، وهي الظروف العالمية وحركة وأفكار الثورة التي سادت في نهاية ستينيات القرن المنصرم والحرب في فيتنام والدعاية للصراع العربي الصهيوني بوصفه صراعًا بين قوى التحرر الوطني وقوى مدعومة استعماريًا تعمل كجزء من يد الاستعمار.

كما يذكر أيضًا طبيعة الحياة داخل معسكرات الثورة الفلسطينية في لبنان، إذ يُقدم صورة عن طبيعة الحياة اليومية فيها ومن بينها مثلًا أساليب تناول الطعام أو شرب الشاي وتفاجئه بالأمر الذي شعر بأنه غريب نظرًا لاختلاف العادات بين بيئته الأصلية وبين مكان تواجده الجديد. بالإضافة إلى ذكره ما كان يهم المقاتلين ويشغل بالهم أو حتى النقاشات التي أخذت طابعًا فلسفيًا أو نظريًا، كما يذكر كيفية تعلمه العربية في لبنان فكأنما عاد طفلًا بعد بداية عقده الرابع من العمر. ويذكر أيضًا كيفية التنقلات بين معسكره في جنوب لبنان إلى بيروت والعودة والإجراءات التي كان عليه الالتزام بها في انتقالاته حفاظًا على أمنه، كما يذكر أيضًا شهادته عن أن أحد التفجيرات التي استهدفت مقر منظمة التحرير في نهاية السبعينيات (لم يُحدد التاريخ)، وكان أحد شهود الحادث نظرًا لتواجده بجوار مقر المنظمة وقت التفجير، فيُسجل الأحداث التي عاشها مُعبرًا عن رأيه الذي كان لديه آنذاك، وإذا كان تغير فيذكر رأيه الجديد أيضًا.

ومما هو جدير بالملاحظة في مذكرات واكوه، ما يذكره عن التغيرات التي وقعت في أعقاب نجاح وانتصار الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩، إذ اتجه كثيرون ممن كانوا حتى يوم انتصارها يساريون ثم أخذت النزعات الدينية تظهر لديهم وهي التي تحولت إلى اتجاه إسلامي صريح وواضح، كما يُسجل شهادته عن داخليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إذ يبدأ أولًا بتقديم عرض سريع لتاريخ الجبهة والانشقاقات (وهو ما لم يحياه بنفسه وإنما عرفه من رفاقه حتى يصل إلى ما عاشه بنفسه وانخرط فيه، فيسجل التقلبات داخل الجبهة والتي حملت اسم ’’ثورة الحزب‘‘، والتي كانت نتاجًا لتغير الظروف بعد ١٠ سنوات من انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ممثلة في المصاعب التي واجهت الجبهة من خلال أفكارها وما طرحته والتي تمثلت في عجزها مقابل فصائل أخرى في جذب المقاتلين إلى صفوفها.

كما يقدم أيضًا شهادته عن الاجتياح الصهيوني للبنان في عام ١٩٨٢، وتأتي هنا شهادته بوصفه مُقاتلًا حضر تطور الأمور على الأرض، فيذكر عمله في إخلاء بعض المناطق وإجلاء البعض عن مناطق تمركز الدفاعات عشية العدوان ثم عودته إلى صفوف القتال بعد إتمام مهمته هذه، فيذكر كيف كانت تنتقل أخبار المعارك إلى المناطق الأبعد والحالة عشية بدء المعارك سواء لدى المقاتلين أو المواطنين، فيذكر روح التفاؤل التي سادت في البداية ويذكر تفقد القادة للتمركزات الدفاعية لرفع الروح المعنوية للفدائيين، ويسجل في هذا الإطار أيضًا انضمام من بقي في لبنان من مقاتلي الجيش الأحمر الياباني إلى صفوف الفدائيين الفلسطينيين واللبنانيين المدافعين عن بيروت، ويسجل هنا ما كان دائرًا من أحاديث وأفكار في أوساط المقاتلين في تلك الأثناء والتساؤلات حول إمكانية التدخل العربي مع اشتداد القصف على لبنان، وهذا الجزء في الواقع هو صورة واضحة للمعارك على الأراضي اللبنانية، ولا أكون مبالغًا لو قلت أنها صورة حية للمعارك على الأراضي اللبنانية قبل أربعين عامًا.

وهو ينهي مذكراته (ذكرياته أو شهادته عما عاصره التي اختزنها في ذاكرته) مع مغادرة المقاتلين الفلسطينيين للبنان وما كان يدور في عقله في تلك الأثناء. ويختتم الكتاب بخاتمة يذكر فيها ملخصًا عن وقائع ما بعد ترحيله إلى اليابان بعد قرابة ال٣ عقود خارجها، وحركة التضامن معه في اليابان.

ومن الملاحظ أنه لا يذكر شيئًا عن الفترة الطويلة الغامضة والتي تمتد ١٥ عامًا منذ خروج الفدائيين الفلسطينيين من لبنان عام ١٩٨٢ وحتى القبض عليه في عام ١٩٩٧ مع أعضاء منظمة الجيش الأحمر الياباني التي خرج منها في عام ١٩٧٨ أي قبل ١٩ عامًا تقريبًا من تاريخ إعتقاله ــ وهي مرحلة أتمنى كشف اللثام عنها يومًا ماــ.

وبالرغم من أن الكتاب صدر في الأساس موجهًا إلى القارئ الياباني خصوصًا والقارئ غير العربي عمومًا وهو ما تدل عليه الشروحات الكثيرة التي كتبها واكوه، إلا أن الكتاب يحمل الكثير مما يهم القارئ العربي المهتم بتاريخ المقاومة الفلسطينية، إذ يُسلط صاحبه الضوء على جانب شبه مجهول وهو الخاص برؤية المقاتلين الأجانب المتطوعين في صفوف منظمات الثورة الفلسطينية إيمانًا منهم بعدالة هذه القضية ويُسجل من زاويتهم الأحداث وكيف عاشوها كمقاتلين أساسًا وكمقاتلين غرباء عن منطقة القتال ثانيًا.

ففي الواقع، تمثل هذه المذكرات ــ الذكريات ــ مصدرًا تاريخيًا لتلك الفترة وهذه الأحداث التي عاشها وهذا هو أساس أهميتها.

التالي المقال المنشور في المتلمس:

قاتلوا معنا| مقدمة موجزة عن الجيش الأحمر الياباني وخطاب أوكودايرا الأخير