Menu

في سؤال كيف نكتب عن فلسطين؟

خالد فارس

أولاً: جدلية أولوية الوجود على التحرير

أَدْرَكَ الشعب الفلسطيني مُبَكِّراً، بأن التاريخ قد وَضَعَهُ أمام معادلة مُزدوجة: الوجود والتحرير. فمنذ قدوم المستعمرين الصهاينة إلى فلسطين، وبعد تأسيس دولة لهم، اعتبر هؤلاء، أن وجودهم هو الأصل، وأن الفلسطيني طارئ، وافقهم الكثير على ذلك، فكان الوجود السياسي للفلسطيني خط أحمر دولي، تبنى ذلك بعض العرب، ولا بأس من أن يكون للفلسطيني وجود على هيئة سكان، لهم جنسية أو هويات فرعية أو عشائرية في دول عربية. استشكل الجسد الفلسطيني معادلة وجوده المعقدة، التي فرضت تعقيدات على سياقات التحرير والعودة. من ركام الوجود، فإن سُؤالاً يلوحُ بالأفق، كم من الثورة الفلسطينية، فيها نضالات وجود؟ وكم فيها نضالات تحرير وعودة حقيقية، وإلى من الغُلبة أو تميل الكفة؟

السؤال ليس اعتباطياً، بل عاشه وقرأه كل من له علاقة في المشروع الوطني الفلسطيني، وعَبَّرَتْ عنه تناقضات القيادة الفلسطينية فيما بينها، بكافة فروعها، مراراً وتكراراً. طَرْحْ السؤال بهذه الصيغة، هو الجديد في الأمر، الذي أعتقد أن له أهمية معرفية. إشكالية الوجود الفلسطيني ليست أحادية، بمعنى أنها ليست مع العدو المباشر الصهيوني، بل هي إشكالية مزدوجة مع العدو الصهيوني، ومع الشقيق العربي الذي سعى (البعض) إستراتيجياً، في استشكال الوجود السياسي الفلسطيني، لدرجة أنه أحياناً سعى إلى إعدامه كلياًّ. فالقضية الفلسطينية هي قضية وجود وتحرر في مواجهة العدو والتحرر من مشروعه الإمبريالي الاستعماري، وإشكالية فيها تعقيد ليس مألوفاً، ومن الصعب أن يكون له تعريفات تحررية أو ثورية واضحة، ألا وهي إشكالية الوجود السياسي مع الأخ العربي. هل كان على الفلسطيني أن يحمل مشروع وُجود وتحرر أيضاً في مواجهة الشقيق العربي الذي يسعى في إلغاء وجوده السياسي؟ الإجابة تضعك أمام ثقب أسود في التاريخ السياسي.

ففي ظل انكشاف التاريخ الفلسطيني اليوم، على سوق عكاظ للنقد والذم والنق السياسي، والكثير منه لا يشير إلى تعقيدات جدلية الوجود السياسي الفلسطيني والتحرير، يتحول هذا الانكشاف إلى ضد الذاكرة الوطنية، لإخراجها من يَقَظَةْ وَعْي تَمَلَّكَتهُ، في فترة ولادة الوجود وتجسيده، ثم إظهار هذا الوعي كأنه خداع وسراب، وليس وعياً حقيقياًّ، بل كان تنويماً، على أن هناك وعي بديل، لا نعرف ما هو حتى الآن، يجب سبر غوره، ثم نكتشف أن الأمر عبارة عن أحلام مثالية وشخصنة (ليست شخصية، بل التركيز على الأشخاص)، تُغَذي الصناديق السود العربية (التاريخ السري الغامض الذي تتستر خلفه أنظمة عربية، بسبب إخفائه عن وعي المواطن العربي)، بحسن أو سوء نية.

دخل التاريخ السياسي الفلسطيني في صندوق أبيض شفاف، مكشوف للجميع، إلى درجة بعيدة، مقابل تاريخ سياسي آخر في صناديق سود مغلفة بأكاذيب الإعلام للنظام العربي. فالسؤال الفلسطيني سؤال أبيض نسبياًّ، وأنصع من الأسئلة العربية التي لا نعرف لها كوع وبوع، ولكي نكتب عن فلسطين ونجعل الأسئلة أكثر بياضاً للشعب العربي، أعتقد أنه وَجَبَ التمييز بين الوجود السياسي الفلسطيني والتجربة السياسية. سأسوق مثالاً، قبل الخوض في التفاصيل.

أثناء النقاش بين تيارات فكرية اشتراكية حول تاريخ الاشتراكية السوفييتية، وقف جون بول سارتر بعد الحرب العالمية الثانية، وقال، أن الميزة العظيمة للاشتراكية السوفياتية، على كافة الأشكال الأخرى من الماركسية، أنها وُجِدَتْ.

يرى سارتر أن كافة أشكال وطرق التفكير عن الاشتراكية، على كل ما له من أهمية، يضع التفكير في ماركسية لم تَنْوَجِد، بأنها صياغات مثالية عن شيء ما، وبذا يكون سارتر قد صادق على الاشتراكية السوفييتية. والعبرة من هذا الكلام أن وجود مشروع على أرض الواقع أهم بكثير من الحديث عن مشاريع بصياغات ومبادئ، مثاليتها تنزعها عن الواقع، وتُجَرُّدها عن الوجود. لكن، عندما فشلت التجربة الاشتراكية السوفياتية، انتشر في أوروبا ظاهرة ازدراء الاشتراكية، عموماً، والسوفييتية خصوصاً. وجود الشيء وتجسيده في التاريخ والواقع، هو الذي يُغَيّرْ التاريخ، أما فشل التجربة، له مقياس آخر.

السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا يحدث الازدراء؟ ومن يستفيد منه؟

ففي التجربة السوفياتية، دخل تاريخ الاتحاد السوفييتي في مرحلة الصندوق الأبيض، وانكشف على ما مضى، وحصل الازدراء ضمن عملية تَتَغَذي منها الصناديق السوداء، الإمبريالية، التي دمرت العالم وأخضعت شعوب الأرض إلى مصالحها القومية البرجوازية المحضة، وكسبت اقتصادياً ومالياًّ على حساب الاتحاد السوفييتي، وطالها وقار الحرية والديمقراطية، من حساب الاشتراكية السوفييتية ونضالاتها التي أنقذت العالم من النازية، وقدمت أكبر التضحيات وكانت أكبر الخاسرين مادياً واجتماعياً. تماماً كما يحدث مع القضية الفلسطينية، وهذا ليس تماثلاً، بل هي ظاهرة تاريخية، تتكرر، ويجب تمييز كل ظاهرة على حدا.

ففي القضية الفلسطينية، إنوجد المشروع، ولم تقعد له الدنيا، وخَرَقَ التاريخ الصامِت في كل العالم، وأحدث ما لم تُحْدثه أي حركة تحرر في العالم. أما في التجربة، تناتج إلى فشل كبير، آلت إلى شيء غير الذي إنْوَجَدَ المشروع من أجله، فوصل المشروع في الممارسة السياسية إلى اتفاق مبادئ أوسلو مع العدو - إعلان مبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي والمرحلة الانتقالية في 13 سبتمبر 1993، وهو يمثل استلاب تاريخي للمشروع ذاته.

إذاً، قراءة الفشل في التجربة ليس مثل قراءة وجود الشيء، والفصل المنطقي بينهم لا يعني عزل الواحدة عن الأخرى، ولكن لهذه أدوات وللأخرى غيرها، لأن الفشل يمكن أن يتم إنقاذه وإصلاحه، والبحث عن بديل له، ولكن وجود الشيء هو الأهم، لأنه بعد أن أصبح موجوداً، أصبح واقعاً، لا يستطيع أحد أن يمحوه بممحاة الازدراء، ولكن يمكن أن نُمحي الفشل، وليس الشيء بذاته.

على الذين يكتبون في أو عن القضية الفلسطينية، أن ينظروا في هذه الحيثية، ووجوب تمييز تاريخ أو سياسات الفشل، عن وجود المشروع في الأصل. أما الحديث عن تعميم الخيانة أو الخداع، فهذا يعني أنه هناك دمج وربط، بل خلط الوجود، بالتجربة التي لم تفشل كلياً أو بالإطلاق، على العموم، بل حتى بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو والبدء في تنفيذه، توالدت طلائع تحررية ومقاومة في الداخل المحتل، وما كان لها أن تُولد من أوسلو، أي من التجربة، بل إن ولادتها جاءت من وجود المشروع وتَجَسُّدُه في التاريخ السياسي، الذي ما زال يحمل روافع نهوض تحرري. هناك استقلالية نسبية بين المشروع الذي تم تجسيده في التاريخ السياسي والتجربة بذاتها ومآلاتها.

والسؤال الذي يكون من المنطقي رفعه أمام القارئ، من أَنْشَأَ المقاومة في غزة وجنين ونابلس وطولكرم والخليل، هي فصائل منظمة التحرير، وعلى رأسها حركة فتح، وأن ما قامت به حماس هو التحاقها بفصائل العمل الفدائي من منظمة التحرير، وهو ما أقر به إسماعيل هنية في لقائه مع برنامج الجزيرة بتاريخ 2/1/2022، وحتى تستطيع حماس اللحاق بفصائل المقاومة، كان عليها أن تنفصل عن حركة الإخوان المسلمين، أَيُّ تغييرٍ كبير مثل هذا ما زالت تُحْدِثُهُ الثورة الفلسطينية وهي في أسوأ أحوال تجربتها؟ لم يستطع أي نظام عربي أن يحرك أحجار شطرنج الإخوان المسلمين ويفكك التنظيم، بل تحالف معهم، كما هُم، ضد الثورة الفلسطينية، في فترات سابقة، ضد الوجود السياسي الفلسطيني.

والسؤال الآخر، الأكثر أهمية، إذا كان الوجود سابق على التجربة، علينا أن ننظر إلى التجربة في سياق الوجود وليس العكس؟ ماذا يعني ذلك؟ لو سألنا عن مشروع منظمة التحرير في جوهره، وبغض النظر عن تمظهراته في التحرر وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر وقيام دولة علمانية ديمقراطية الخ… ماهي القوة الدافعة الحقيقية في المشروع؟

القوة الدافعة في مشروع الثورة الفلسطينية، الذي قادته منظمة التحرير، وعلى وجه التحديد قيادته النافذة الممثلة في ياسر عرفات وقيادة حركة فتح، هو أن تبقى القضية والمشروع موجود، أهم من الخوض في مشروع التحرير والمقاومة، وهذا ليس موقفاً أخلاقياًّ تجاه أحد، بل أقول، لأن تيار في قيادة حركة فتح وله سَنَدْ شعبي فلسطيني كبير جداًّ، عندما سعى وبكل جدية في التحرير والتحرر، كان يتعاظم لديه اليقين بأن الانغماس في التحرير بمقاييس “مثالية” ثورية أممية، في واقع عربي كان قد انكشف لهم تواطؤه أو خذلانه التاريخي لهم، سيقود إلى خسارة الوجود، فكان الحفاظ على الوجود هو الأسبق، والتحرير لخدمة الوجود وليس العكس. انصهرت العلاقة بين الوجود والتحرير في قضية موطئ القدم، الجغرافيا.

لذلك أسباب بنيوية تاريخية، فرضتها ولادة الحركة الوطنية الفلسطينية، التي ورثت خِداع عربي توسع كثيراً، ورفض الوجود السياسي الفلسطيني، ورفع شعار تحرير فلسطين الذي ما بارح محطة شعار شعبوي هوياتي، حتى اليوم. وبعد انتظار منذ 1948 على الأقل (لا ننسى ما قبلها)، وَجَدَ قادة حركة فتح أن الشعب الفلسطيني أمام ضياع مزدوج: التحرير والوجود، فكان لا بد أن يكون الوجود أولاً وأسبقياًّ، ثم التحرير. تطورت حركة فتح على فلسفة، ركيزتها الوجود أولاً، كقائد وجودي، كونها كتلة سياسية تعتبر الوجود أهم من التحرير، ومن الوجود يولد التحرير. ولأن الوجود أولاً، فالتحرير ليس بالضرورة أن يكون ثورة وكفاح مسلح، قد يكون عن طريق مفاوضات، ولكن دون تهديد الوجود. نظرية الوجود أولاً، جعلت من الوجود إستراتيجيا، والتحرير الثوري المقاوم، تكتيك.

المشروع الصهيوني يقوم على إلغاء الوجود السياسي الفلسطيني.

موطئ القدم هو الضرورة المادية للوجود، وغياب موطئ القدم، سَيُغَيّبْ الوجود السياسي، والتحرير الذي لا يريد النظام العربي جُلُّه، الخوض في سؤال التحرير، بلا استثناء، بمن فيهم النظام السوري والعراقي والليبي، الذين يمثلون محور الرفض والمواجهة مع “إسرائيل”، لا أقول ذلك نظراً لِقِلّة وطنيتهم أو قوميتهم، بل بسبب فشل مشروعهم السياسي الوطني والقومي. فالحقيقة الفلسطينية المُرة، أنه لا يوجد مشروع تحرير، إما أن يلتحق الوجود السياسي الفلسطيني بالوجود السياسي لأحد الأنظمة العربية، ويتحول التحرير إلى تكتيك أو مُجَمّد، كما جرى مع التنظيمات الفلسطينية في سوريا والعراق على وجه التحديد، التي ناضلت تحررياًّ، ولكن تحت تكتيك معادلات الوجود لدى النظام الرسمي العربي، أو ينتزع الفلسطيني مشروع وجوده ويبحث عن مشروع الوجود في موطئ قدم. هكذا أَتَخّيّلْ، تصورات قادة فتح، أن تكون معادلة الوجود الفلسطيني على قدم وساق مع الأنظمة العربية، والتحرير يصبح موضوع يأتي بمستوى ثاني مستنداً على الوجود، لأنه لا يوجد من يريد الخوض في التحرير من العرب.

فكرة التحرير فكرة مُجَرّدَة من الواقع العربي، ولا يوجد روافع لها، والصراع العربي العربي تجسد في محاور وجودية، مَنْ الذي سيقود النظام العربي؟ ومن الذي سيقود الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية؟ والسؤالان تربطهما علاقة جدلية مادية، أسئلة تقع خارج صيرورة الشعب الفلسطيني، فَهي أسئلة استلاب للشعب الفلسطيني. جاءت الردود، ودائماً، من قيادة منظمة التحرير، على وجوب وضرورة إعادة طرح معادلات وجود الشعب الفلسطيني، لأنه الرد التاريخ الضروري وفقا للتاريخ السياسي العربي. لم يُعجب ذلك الكثير، حتى الحلفاء، منهم الرئيس حافظ الأسد، الذي كان يرى في وجود منظمة التحرير الفلسطينية، تحت عباءة النظام السورية، فعلاً قومياً تحررياًّ.

لم يُسْمَح للفلسطيني أن يكون له موطئ قدم، حتى اللحظة، وهذا الموقف لا يقتصر على الواقع السياسي للأنظمة العربية فقط، بل يشمل قوى يسارية وشيوعية، من المفترض أن تكون صديقة وحليفة لليسار الفلسطيني في حروب التحرير الشعبية. ففي الأردن، على سبيل المثال، يقف تيار شيوعي نافذ في الحركة الشيوعية والمجتمع، شعاره لا لوجود كتلة فلسطينية سياسية في الأردن، بل أن وجودهم يجب أن يقتصر على كونهم أفراد، وفقط. وهذا القول الرافض، الصلب، هو من حيث المبدأ، وليس حتى في صيغة وطنية تقدمية تحررية. وفي هذا الشعار كلام ليبرالي أيديولوجي محض، نطقت به مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، ضد العمال واليسار البريطاني، عندما قالت لا يوجد شيء اسمه مجتمع، فقط أفراد، وتقصد لا يوجد شيء اسمه كتلة سياسية ثقافية اجتماعية، فقط أفراد.

لم يكن لدى الحلفاء العرب مشروع تحرير، حتى بالنظر في النموذج الذي تقدمه سوريا، الذي أكدت التجربة أن المشروع السوري، هو حصراً، مسانداً وداعماً للمقاومة، وليس معنياً مباشرةً في المواجهة المقاومة المسلحة مع المشروع الصهيوني. ولسوريا أصدقاء كُثُرْ، من اليسار والقوميين، يقبلون هذه المعادلة، ويجدون لها تبريراً تاريخياً وثورياً ومنطقياً. لماذا؟ على قاعدة أن استمرار وجود النظام السوري القومي التحرري، أهم من الخوض في التحرير. بمعنى أنه حتى الذين ينتقدون ياسر عرفات ومنظمة التحرير، لا يستخدمون ذات المقاييس على حُلفائهم، لماذا؟ لأن الواقع العربي يفاضل الوجود على التحرير.

الوجود أولاً، ظاهرة عربية متأصلة، استنسختها منظمة التحرير، ووضعتها في سياق التحرر والمقاومة واستعادة الحقوق. تَراقص وتأرجح البندول السياسي الفلسطيني بين قطبي سياسات الوجود أولاً، وأخرى للتحرر والمقاومة أولاً. سطر وديع حداد نموذجًا لاشتباك مقاوم مستدام، تحت راية المقاومة والتحرر أولاً وفي كل مكان، وهناك من أراد أن يضع الوجود السياسي قبل المقاومة والتحرر من أمثال ياسر عرفات و محمود عباس مع وجود فجوة بينهما في مفهمة الوجود، ولكنهم ينتمون إلى اتجاه يضع الوجود السياسي الفلسطيني أهم من المقاومة والتحرر. وهناك من وازَنَ بين الوجود والمقاومة مثل خليل الوزير "أبو جهاد" وأبو على مصطفي، هذه مجرد أمثلة لا للحصر، للدلالة على الفكرة.

ثانيا: تقييم المحتوى السياسي أم أَخْلَقَتَهُ؟

ثم للكتابة عن فلسطين، جانب آخر مهم، وهو قضية شيطنة أو أخلقة العمل على حساب التقييم. لا مانع من استخدام الأخلاق في السياسة، ولكن لا نُلغي التقييم الحقيقي الناقد الموضوعي. سأضرب مثال للتوضيح: إذا كان أخلقة السياسة على طريقة فلاسفة الغرب الليبرال، من أمثال الفيلسوف الألماني عمانويل كانط، سيكون تحديد من هو الشيطان ومن هو الملائكي، بشكل أسبقي، من عملية ذهنية محضة، وليس من تقييم الواقع، لأن تقييم الواقع موضوعياً، لا يمكن أن يعطيك بيانات - داتا، فيها تعريفاً محضاً لمن هو الشيطان ومن هو الملائكي، فالواقع معقد ومتشعب ومتشابك وتاريخي، ولكن يمكن ذلك، على طريقة المنهج الليبرالي أن يتم من ذِهن الإنسان-Cognitive process، أن يخلق الإنسان حالة أخلاقية ويفرضها في وضع أسبقي. مثل العمل الذهني عند التيارات الدينية، من هو الكافر والمؤمن، ما هو الحلال والحرام.

وأكبر مثال على ذلك، هو ما أَطْلَقْتُ عليه سابقاً، متلازمة توني بلير تجاه العراق، عندما أراد توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، غزو العراق هو وأميركا، جاءه جَمْعٌ من المثقفين وقالوا له: بأن هناك واقع سياسي ما في العراق، هذا البلد قد تم اقتطاعه من الإمبراطورية العثمانية، ولديه مشاكل معقدة تعود أسبابها إلى أن بريطانيا جعلت من العراق كياناً سياسياً ممزقاً، غير موحد، وتبعياًّ، وقامت بريطانيا بتفكيك المجتمع عن طريق دعم التركيبة الإثنية والصراعات الطائفية.. والخ.

حال لسانهم يقول إلى توني بلير: أن هناك محتوى سياسياً عليك أن لا تتجاهله، وَجَبَ التفكير في الطريق السياسي الصحيح، لكي نعالج مشكلة العراق من جذورها. بلغة أخرى، عليك يا توني بلير تقييم الواقع والمحتوى السياسي، قبل أن تتخذ قرار الحرب. ماذا قال لهم توني بلير؟

قال لهم: ماذا لو أن صدام حسين شيطاناً، شريراً، مستبداً وطاغية، وارتكب جرائم حرب؟ أراد أن يقفز من المحتوى السياسي إلى الأخلاق، لتأنيب ضمير الناس، لأن إتهام أي شخص بالاستبداد وعدم اتخاذ موقف جذري منه، يعني أنك منتهك للأخلاق والقانون، فهو لا يريد أن يأخذ بالحقائق السياسية التي تسببت بها بريطانيا، في العراق وغيرها.

لجأ إلى “حيلة” “أخلاقية” المعركة، لجأ إلى الأخلاق-Moralizing the Politics، أخلقة السياسة لكي يبرر جرائمه ضد الشعب العراقي، ويعيد تدمير العراق مرةً أخرى للسيطرة على ثرواتها، وهذا يعود إلى الأيديولوجية الإمبريالية الصهيونية التي يحملها بلير وتحالفه مع “إسرائيل”. اللجوء إلى خطاب “أخلاقي” على طريقة توني بلير، لإلغاء المحتوى السياسي الذي تسبب به هؤلاء وحلفائهم من أميركا وغيرها، بحاجة إلى تقييم، الأمر الذي سيكشف أن الأزمة البنيوية في العراق أو الوطن العربي، التي صنعها الغرب الإمبريالي لا يمكن إلا أن تكون في موقع جرائم حرب، ولكن هذا غير ممكن بسبب موازين قوى.

الغاية من هذا المثال، هو أن المحتوى السياسي يجب أن يكون جدير بأن يستخلص القارئ، بأن مفاهيم التاريخ السياسي، ليس ممكناً فهمها إذا لم يعتبر الكاتب بقانون السابق واللاحق، بمعنى أن يذكر المؤامرة والخداع في تسلسله، لا أن يبتر الخداع. وَجَدَتْ منظمة التحرير نفسها في قلب معادلات خِداع، لم تنتهِ لغاية الآن، ولن تنتهي، لأن جزءاً من المخادعين هم حلفاء بشكل أو بآخر، لا علاقة لمنظمة التحرير به.

قاد ياسر عرفات سياسات مواجهة واحتواء الخداع العربي، التي يواجهها اليوم محمود عباس، بِقِلة حِيلة، فاستدخل عرفات سياسات التشاطر والتذاكي و“الفهلوة”، من أجل إدارة “فهلوة وتذاكي وتشاطر” العرب على منظمة التحرير، كأن مكر التاريخ انطبق على منظمة التحرير. قصة مكر التاريخ تعود إلى الفيلسوف الألماني هيجل. تُفيد في أحد رواياتها، أن أوروبا أرادت أن تقتص من العرب وتهزمهم، فاتخذت من القرآن مادة فكرية لدراستها وتقييمها، لكي يتسنى على الغرب معرفة عدوهم. ارتد ذلك على الغرب، عندما أصبح القرآن مادة تنوير لأفكارهم الثقافية والسياسية. لذلك، فإن محاولات إدارة معركة على طريقة الخصم، من المرجح أن ترتد إلى الداخل وتصبح جزءاً من السياسات والممارسات، ربما من باب مكر التاريخ.